الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 18/08/2008   #7
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..

وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..

وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .

وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .

وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .

واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .

وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
ــ بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
ــ وإذا مشيت .. ؟
ــ تصل صباح الأربعاء ..

وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
ــ وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
ــ أريد أن أرى السفينة ..
ــ أية سفينة .. ؟
ــ السفينة الراسية على شط جنزا ..
ــ غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
ــ وركابها .. ؟
ــ غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
ــ ولكنهما التقيا ..
ــ أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
ــ قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
ــ أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
ــ اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
ــ لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
ــ ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
ــ أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..

وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..

وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .

ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .

وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
ــ أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..

وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
ــ وبكم المشاهدة .. ؟
ــ الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..

ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
ــ إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
ــ ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .

وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..

وسألتنى :
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..

وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..

وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..

بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .

وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..

وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..

وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
ــ أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
ــ سأذهب معك ..

وحاولت أن أقول شيئًا ..
ــ لا تفتح فمك ..

وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..

وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..

ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .

وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .

قالت بظل ابتسامة :
ــ تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
ــ أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
ــ سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
ــ ما عمله .. ؟
ــ إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .

لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
ــ وابنك .. كبير .. ؟
ــ عمره ست سنوات

وأحسست بالأرض تدور
ــ أحب أن أراه .

فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
ــ أمعك صورة له ..!
ــ معى ..
ــ أرينيها .. أرجوك ..
ــ أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..

وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07453 seconds with 11 queries