الموضوع: أسبوع وكاتب - 3
عرض مشاركة واحدة
قديم 20/08/2009   #119
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


نبدأ بالمرحلة الاولى ونمثل لها بديوان "عاشق من فلسطين" الصادر عام 1966.
ان اول ما يجابهه قارئ ديوان "عاشق من فلسطين" هو صدق التعبير الفني واخلاص الشاعر في الحديث عن قضيته/قضيتنا أي عن القضية الفلسطينية، لا كقضية فردية متميزة فريدة – وهي كذلك – انما الصدق الفني الذي ينتشل القضية من خصوصياتها ليجعلها قضية عامة يمكن ان يحسها الانسان في أي مكان فوق الارض. وهذا التعبير الفني الصادق يأتي بسيطا وعميقا في آن معا وهذه هي سحريته، شعره في "عاشق من فلسطين" حار متفجر ذو حيوية هائلة، ينتفض (على حد تعبير رجاء النقاش في كتاب "ادباء معاصرون" الصادر عن مكتبة الانجلو مصرية في القاهرة عام 6 ويمتلئ بالرغبة في الحياة والتحرر من المأساة سواء المأساة الشخصية او في واقع مجتمعه. ومذاق هذا الشعر مذاق انساني رحب لاذع. وللحقيقة اقول: ان شعرا كالموصوف معرض للانزلاق والوقوع في براثن الخطابية والنثرية والضوضاء الفنية والكليشيه الجاهز ولكن اصالة محمود كفنان وأصالة ايمانه بقضيته يحميانه من ذلك.
لنسمعه يرد على النغمة التي سادت الادب الاسرائيلي الدعائي حتى ادب الاطفال منه في اواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، تلك النغمة التي تحاول ان تقنع العالم، بان العربي همجي بعيد عن الحضارة وهو انسان من درجة ثانية يقول محمود في قصيدة "نشيد للرجال" من الديون:


"لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قدمي/ من الأشواك/ ان خطاي مثل الشمس/ لا تقوى بدون دمي
لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قلبي/ من القرصان/ ان فؤادي
المعجون كالارض/ نسيم في يد الحب/ وبارود على البغض.
ويستمر قائلا: "لأجمل ضفة نمشي/ فلن نُقهر/ ولن نخسر/ سوى النعش الى الاعلى/ حناجرنا/ الى الاعلى/ محاجرنا/ الى الاعلى/ امانينا/ الى الاعلى اغانينا/ سنصنع من مشانقنا/ ومن صلبان حاضرنا وماضينا/ سلالم للغد الموعود/ ثم نصيح يا رضوان/ افتح بابك الموصود.
ويقول فيها ايضا: "سنطلق من حناجرنا/ من شكوى مراثينا/ قصائد كالنبيذ الحلو/ تُكرع في ملاهينا/ وتنشد في الشوارع/ والمصانع/ في المحاجر/ في المزارع/ في نوادينا.
ويختتم بهذه الصرخة المدويّة الثائرة:
"سنخرج من مخابينا/ ويشتمنا اعادينا: "هلا.. همج هم عرب/ نعم! عرب/ ولا نخجل/ ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل/ وكيف يقاوم الأعزل/ ونعرف كيف نبني المصنع العصري والمنزل/ ومستشفى/ ومدرسة/ وقنبلة/ وصاروخا/ وموسيقى/ ونكتب اجمل الاشعار/ عاطفة وافكارا وتنميقا".
بمثل هذه العاطفة المليئة بالتفاؤل والثقة والاستعداد للنضال والصبر على الجراح يواجه درويش واقع المأساة.
ولعل اعذب ما في شعر درويش في هذه المرحلة الرؤية الانسانية الخاصة التي تنعكس على بناء قصائده. فهو يرى الناس والاشياء بطريقة تختلط فيها كل العناصر. ففي قصيدة واحدة نراه يتحدث عن حبيبته، وفي مقطع آخر منها نجد هذه الحبيبة قد تحولت الى معنى مختلف هو الوطن، ثم تنقلب الى الام او الاخت، وهكذا فالحب والوطن والحرية والطبيعة كلها معان تختلط ببعضها البعض، انها ذات ملامح متشابهة فالحدود بينها تلتغي كليا. في شعر محمود نوع من وحدة الوجود، من ذوبان الكل في واحد. هذا الامتزاج الكامل بين الصور والمعاني في رؤية درويش للعالم والذي يتحقق على اجمل صورة في شعره يحدث بعفوية وبصورة شفافة. فقصائده عالم رقيق مشرق، رغم تشابك العناصر والرؤى، لذلك قصائده هنا اشبه بحلم ولكنه ليس حلما رومانسيا هروبيا عاجزا، انما هو فيض مشاعر حية كبيرة تملأ وجدان الانسان وتسيطر عليه. وهذا النوع من الحلم هو الهام وحيوية وقوة واقتراب من النبوة، وتعبير عن الاندماج الكبير في الواقع وفي حركته واندغام بين الانسان وعقله الباطن. هذا الحلم هو الذي يفسر لنا انكسار المنطق العادي في شعره وولادة منطق آخر ينقلنا من اللحظة الراهنة الى مناطق الشدهة والاندهاش. ذلك لأن تجارب الشاعر روحية عامرة تملأ مشاعره فتفيض القصيدة عن وصفها للعادي النثري للظاهرة وتأخذنا الى ما وراء الظواهر وهذا هو الشعر الحقيقي بعينه. لنسمع مقاطع من رائعته "عاشق من فلسطين" للتدليل على ما ذكر. يقول في مطلعها: "عيونك شوكة في القلب/ توجعني واعبدها". ويستمر قائلا بعد هذا المطلع الرائع: "كلامك كان اغنية/ وكنت احاول الانشاد/ ولكن الشقاء أحاط بالشفة الربيعية/ كلامك كالسنونو، طار من بيتي/ فهاجر، باب منزلنا/ وعتبتنا الخريفية/ وراءكِ.. حيث شاء الشوق/ وانكسرت مرايانا فصار الحزن الفيْن/ ولملمنا شظايا الصوت/ لم نتقن سوى مرثية الوطن/ سنزرعها معا في صدر قيثار/ وفوق سطوح نكبتنا، سنعزلها/ لأقمار مشوهة واحجار/ ولكني نسيت يا مجهولة الصوت:/ رحيلك اصدأ القيثار ام صمتي".
ثم يتابع ليشعرنا ان حبيبته هذه ليست فتاة عادية وانما هي فلسطين – يقول: "رأيتك في جبال الشوك/ راعية بلا اغنام/ مطاردة في الاطلال/ وكنت صديقتي/ وانا غريب الدار/ ادق الباب يا قلبي/ على قلبي/ يقوم الباب والشباك والاسمنت والاحجار.
رأيتك في خوابي الماء والقمح/ محطمة/ رأيتك في مقاهي الليل خادمة/ رأيتك في شعاع الدمع والجرح/ وانت الرئة الاخرى بصدري/ انتِ انت الصوت في شفتي وانت الماء، انت النار".
ثم يتابع: "رأيتك عند باب الكهف عند الغار/ معلقة على حبل الغسيل ثياب ايتامك/ رأيتك في الموقد/ في الشوارع/ في الزرائب في دم الشمس/ رأيتك في اغاني اليتم والبؤس. رأيتك ملء البحر والرمل/ وكنت جميلة كالارض كالاطفال كالفل/ واُقسم: من رموش العين سوف اخيط منديلا/ وانقش فوقه شعرا لعينيك/ وإسما حين اسقيه فؤادا ذاب ترتيلا/ يمد عرائش الأيك/ سأكتب جملة اغلى من الشهد، من القبل/ فلسطينية كانت ولم تزل".
هكذا نلاحظ كيف تتلاحم المحبوبة مع الوطن وكيف تختلط العاطفة الخاصة بالوطنية، وكيف يصير الخاص عاما والفرداني جمعا.
ثم يختتم بقوله: "فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ حملتك في دفاتري القديمة/ نار اشعاري/ حملتك زاد اسفاري/ وباسمك صحت في الوديان/ خيول الروم اعرفها/ وان تبدل الميدان/ خذوا حذرا/ من البرق الذي صكته اغنيتي على الصوان/ انا زين الشباب/ وفارس الفرسان/ انا ومحطم الاوثان/ حدود الشام ازرعها/ قصائد تطلق العقبان/ وباسمك صحت بالاعداء/ كلي لحمي اذا ما مت يا ديدان/ فبيض النمل/ لا يلد النسور/ وبيضة الافعى/ يخبئ قشرها ثعبان/ خيول الروم اعرفها وأعرف قبلها اني/ أنا زين الشباب وفارس الفرسان.
هكذا تتفجر المعاني وتتوالد بين يدي محمود درويش ويسرح التضاد وتمرح لغة تلاقي الاضداد وهما من اعمدة الشعر المصفى. ونلتقي في شعر درويش في هذه المرحلة بصور شعبية حميمية لو صاغها آخرون لما اعطتنا شعرا، ولكنها بين يدي محمود تقول ما لم نتعوده منها يعتصرها فنا جميلا مليئا بالسحر والشعر والعذوبة.
وفي هذه المرحلة ايضا نجد عددا من الموتيفات التي يوظفها درويش رموزا وايحاءات في شعره ولكنها جميعا تصب في خانة التلاحم بين الأنا والقضية/ الأنا وفلسطين/ العاطفة والوطنية/ الحب والحرية. كموتيف الاسرة مثلا: الأم، الاب، الاخت. وفي الديوان الذي نحن بصدده نلتقي بقصيدته التي سارت على فم الزمن، وأعني قصيدة الى امي التي يقول فيها: "احن الى خبز امي/ وقهوة امي/ ولمسة امي/ وتكبر فيّ الطفولة يوما على صدرِ يوم/ وأعشق عمري لأني/ اذا متّ/ اخجل من دمع امي".
والأم هنا خير دليل على ما ذُكر، هي الام الشخصية والوطن، هي ام الجميع. ومن الجدير القول: ان معنى الاسرة عند درويش لا يعني الاسرة العائلية المألوفة، انما هي الانتماء، والجذور التي تمده بالصمود وبالتحدي وبالاصرار، والاسرة عنده دائما ممزقة تحاول ان تلتئم. هي اشبه بجثة اوزوريس التي مزقها اشلاء إله الشر (ست) و"ايزيس" الزوجة الوفية الباكية المناضلة تعيد اجزاءها المبعثرة وترد الروح الى الجسد الممزق. وهذا الجسد طبعا هو فلسطين التي لا بد وان تلتئم ويعود ابناؤها وتتحرر.


شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.26719 seconds with 11 queries