عرض مشاركة واحدة
قديم 03/03/2006   #2
شب و شيخ الشباب Slayer
مسجّل
-- اخ حرٍك --
 
الصورة الرمزية لـ Slayer
Slayer is offline
 
نورنا ب:
Mar 2006
المطرح:
الشام
مشاركات:
29

افتراضي التتمة مع تحياتي


4ـ لم يذكر لنا تاريخ النهضة الأوربية أن أحدًا من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوربي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوربا، سواء كان ذلك من جهة الاقتباس والإفادة من مجتمع يبادله الشعور بالندّية أو من جهة التقليد القائم على الشعور بالنقص.

أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تماما، إذ لم يسعَ مفكرو أي أمة من الأمم النامية في العصر الحديث إلى مثل هذا الاستنساخ المقصود للعقلية الغربية ومحاولة إحلالها كبديل عن الواقع المحلي، وبالشكل الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يسمى بحركة النهضة العربية. يقول زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي" : "هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوربا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا القبول، وتمثل ما قبلناه".

5ـ الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سمات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز، فالليبرالي الغربي يؤمن بأن مرجعيته هي العقل وحده، سواء كان العقل غربيا أم شرقيا، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقا من مركزيته الأوربية. أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه "الإسلاميين"، إذ نجده لا يقل تمجيدا وتقديسا لمرجعيته الليبرالية إلى حد يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها، ففي الوقت الذي يأخذ فيه على "الإسلامي" تقديسه للنص الديني واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكا بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوربية.

6ـ امتدادا لما سبق ذكره، فإن الليبرالي العربي يلجأ عادة إلى التبرير عند محاكمة الغرب على أخطائه، بل يلجأ لا شعوريا إلى تحميل الذات المسئولية عن كل خطأ وكأنه بات أسيرا لعقدة الذنب، وقد يتطور الأمر لدى البعض إلى إدانة شبه مطلقة لكل ما هو عربي- إسلامي، فتتحول دراسة التاريخ الإسلامي من النقد الموضوعي بهدف طرح القداسة عنه إلى بحث متعمد عن أخطاء الماضي وإدانة رموزه وتجريمهم، بل الافتراء عليهم إن دعت الحاجة، إلى درجة تشبيه محمد الفاتح بشارون وستالين في ترحيله نصارى القسطنطينية إلى أوربا بالرغم من احتمائهم بتاجه السلطاني من ظلم الفاتيكان، ولا غرو -والحال هذه- في الادعاء بأن الخليفة بعد الفتح قد تدثر "مرتاحا بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية" فقط لكونه خليفة على طريقة التوريث ولم يصل إلى الحكم بصناديق الاقتراع الديمقراطي ورغم أنف التاريخ. [خالص جلبي، الشرق الأوسط: العدد(831) بتاريخ 1 جمادى الآخرة 1422هـ]، والأمر ذاته ينسحب على صلاح الدين الذي لم يشفع له شيء من إنجازاته عندما اكتشف الكاتب الليبرالي أنه قد أمر بقتل السهروردي المتهم بالزندقة، ثم ترك مملكته لوارثي الحكم من أبنائه وإخوته بدلا من سعيه لإحلال الديمقراطية. [الكاتب نفسه، الشرق الأوسط:4 ربيـع الثاني 1426 هـ 12 مايو 25 العدد 9662].

وبهذه العقلية المنهزمة، لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة، إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية للاستعمار، ولا يجد في احتلال العراق إلا خروجا عربيا قوميا عن المنظومة الدولية، بل لا تعدو المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك "المتشددون" أبعادها، أما العولمة —بوجهها الأمريكي السافر- فتتحول لدى البعض إلى نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني (بالمفهوم الهيوماني الشامل)، والذي ما زال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى!

وهكذا فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوما ذاتيا لا موضوعيا، بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصي النواقص في الأول، وتلمس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغض النظر عن تفهم حاجة الأول، وأخطاء الثاني. وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي، ففي الوقت الذي يلوم فيه "الإسلامي" على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقا من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقا من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضا مع واحدة من أهم مسلمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.

ختاما، فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوربا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوربي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن.
وعليه، فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه، أن يُنعموا النظر أولا في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقا للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يُعملوا عقولهم في استنباط نظام ليبرالي حر يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمّن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية. وعندئذ يمكن لغير الليبرالي العربي أن يطمئن في حواره مع من يدعي الليبرالية بأن الحوار سوف لن يكون عقيما.

منقول عن الاستاذ والمفكر أحمد دعدوش

البشر اثنان: عالم يدري أنه لا يدري وجاهل لا يدري أنه لا يدري
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06186 seconds with 11 queries