عرض مشاركة واحدة
قديم 21/07/2008   #7
شب و شيخ الشباب قرصان الأدرياتيك
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ قرصان الأدرياتيك
قرصان الأدرياتيك is offline
 
نورنا ب:
Jan 2008
مشاركات:
1,446

افتراضي


الـجُمعة 18 تـمّوز 2008
النّصفُ الثّاني

سألتُ صديقي الذي أُلازمه مسكنه عن الغداء فقال لي: "كُشَري"، ستأكل اليومَ طعاماً لذيذاً وستدعو لي من بعدها. خرجَ على أثرها وعادَ بعد قليل حاملاً الكشري الموعود وبضعة أقراص من الطعميّة وعلبتين من اللبن الزّبادي. نزلتُ إلى الميدان بكامل لباسي العسكريّ فمزّقتُ الصّحون والأقداح وجعلتُ منها عبرة لمن اعتبر!
محبّتي للكتبِ والمكتبات نظّمت لي برنامج الظّهيرة، فبعد استراحةٍ قصيرة خرجتُ بصحبة الصّديق لقضاءِ حاجتي من الكتبِ وأصحابِها. أخذنا سيّارة أجرة وسألتُه أن يوصلنا إلى شارع طلعت حرب، وعندما بلغنا تمثالَه أوقفتُه ودفعتُ له خمسةَ عشر جنيهاً ونزلنا.
على الرّصيف اليمينيّ ارتفعت لافتة المكتبة بخجلٍ "مدبولي". كانت مكتبةً صخمة فعلاً فيها من الكتبِ ما لذَّ وطابَ، وتذكّرتُ أبا عثمان الجاحظ الذي كان يكتري دكاكين الورّاقين للقراءة فيها في أثناء الليل وهجعاته الطوال... فقلتُ ما أسعدك يا ابن بحر فليلة مع كتابٍ أثمنُ عندَك من ليالي العاشقين، فكيف تكونُ إذاً ليلتُك بين المئات منها؟! ارتفعت الكتبُ حتّى سقف المكان وفي الأعلى اصطفّت المجموعات العربيّة والإسلاميّة والموسوعات الضّخمة، وفي القسم الأسفل منها ترتّبت كتبُ الآداب والتاريخ والسياسة، وفي غرفةٍ أخرى احتشدت كتبُ اللغات الأخرى ومعاجمها بالإضافة إلى جمٍّ من روايات الأدب العالميّ المنقولة إلى العربيّة. نظرتُ يميناً ويساراً فاقتربَ أحدُ الباعة منّي متسائلاً، وقبل أن يقولَ شيئاً بادرتُه: "دوستويفسكي... الإخوة كارامازوف"؟! فأجابَ: لحظة من فضلك وهرع إلى تلك الغرفة. عادَ ليخبرني بأنَّه عثرَ فقط على أعمال هذا الأديب الروسيّ كاملةً في مجموعةٍ واحدة، شكرتُه وسحبتُ صديقي خارجاً قبل أن تأسرَني الكتبُ فأفرغُ محفظتي انتقاماً من هذا العشق القاتل.
خرجتُ أجرُّ رفيقي لاعناً هذا الهوى، فطالعتنا الأقدارُ بمكتبةٍ أخرى انتصبت على رصيفٍ آخر في مواجهتنا تماماً، فعلت وجهي الابتسامةُ، والحسرةُ وجهَ صديقي. دخلنا مكتبة "الشّروق" وخابَتْ رغبتي من جديد، فلعنتُ الرّغبة والحسرة معاً، وانقلبت الأدوارُ فعلتِ الابتسامة لا بل الضّحكة وجه الصّديق! شزراً نظرتُ إليه فسكتَ، ومن فرط غضبي قلتُ له سأتركُ البحثَ إلى يومٍ آخر أكون فيه وحيداً، فهدّأ أحوالي وقال: كنتُ أمازحك يا رجل ما بك؟! قلتُ: اعذرني فمجرّد الدّخول إلى عالم الكتبِ والعودة صفر اليدين يملؤك من الغيظ، وعقّبتُ: تعالَ معي سأريك شيئاً، وسرتُ به عائدين في شارع طلعت حرب حتّى وصلنا المرمى فأوقفتُه وقلتُ: انظر هذه العمارة. وقفَ ينظرُ إليها ثمَّ إليَّ ورفع يديه باندهاشٍ وسألَ: "إي... وبعدين؟! شو فيا يعني؟". حماقتي امتدّت وقلتُ: آه، يا... هذه "عمارة يعقوبيان". وشرعتُ أقصُّ عليه حكايتها منذ نشأتها وحتّى اليوم: هذه العمارة أُسّست في العقد الرّابع من القرن العشرين على يد الثريّ الأرمنيّ جاكوب يعقوبيان، وبعدَ الثّورة في مطلع الخمسينات تحوّلت إلى شقق سكنها الضبّاط. سمعتُ عنها بعدَ أن ألّف طبيبُ أسنان مصريّ يُدعى علاء الأسواني روايةً تدورُ أحداثُها في هذه العمارة وشخصيّاتها المختلفة مجسّدةً في صغرها المجتمع المصريّ الواسع. ومثّلَ عادل إمام دورَ البطل زير النّساء في الفيلم الذي أخرجه عنها مروان حامد. نظرتُ إليه بعد هذا العرض السّريع فوجدتُه غير مهتمّ لا بل متعجّباً من اهتماماتي التّافهة هذه!!! رأى الحزنَ يطبعني فقال لي: سنذهبُ إلى مكانٍ يروق لي ولك معاً "سيتي ستار" ها ما رأيك؟! قلتُ: حسناً!
دخلنا هذا المركز التجاريّ العملاق وسارعنا إلى سوقِه حيث المؤونة والغذاء، وحملنا معنا ما يكفينا أسبوعاً وكانَ بينها باذنجان أبيض أراه لأوّل مرّة أخذناه لنصنعَ منه مع الكوسا والبندورة والفليفلة طعاماً نسمّيه "دولما" وهو "المحشيّ" عند البعض الآخر. بعدَ جولةٍ أخرى من التسوّق والتجوال في هذا "المول" جلسنا في أحد مقاهيه وطلبتُ كأساً من الشوكولا المثلّجة، بينما اشتهى صديقي كأساً من الشّاي.
عُدنا إلى البيت واقتصر العشاءُ على بقايا الغداء من السباجيتّي وملحقات الصّفرة الأخرى.
وهكذا انتهى نهارٌ آخر وأدركَ القرصانَ الصّباح فسكتَ عن الكلام المباح.

Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04296 seconds with 11 queries