عرض مشاركة واحدة
قديم 18/08/2008   #6
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


عدنا أدراجنا إلى الشارع وسرنا مسافة ما عائدين بخطى مسرعة على طول شارع "كورسو"، زوجتي تتقدمني وأنا أسير وراءها. ما لبثنا أن دخلنا كنيسة أخرى قرب "بيازيا فينيسيا". كانت هذه أكثر اتساعاً وبدت شبه مظلمة، تمتلئ بالصور واللوحات المذهبة والخزائن الزجاجية المزدحمة بقلوب فضية تتلامع في وسط النور المائل للعتمة. كان هنالك عدد كبير نسبياً من الناس داخل الكنيسة، وبنظرة عابرة تبين لي أنهم ممن يعيشون عيشة رخية، فالنساء جميعاً يرتدين القبعات في حين يرتدي الرجال ملابس مرتبة. كان هنالك واعظ يلوح بذراعيه يمنة ويسرة وهو يلقي موعظة من فوق المنبر والجميع يوجهون أنظارهم إليه. بدا لي الوضع حسناً إذ أن أحداً لن يلحظنا ضمن ذلك الجو. همست لزوجتي: "هل نحاول أن نتركه هنا؟" طأطأت رأسها موافقة فاتجهنا إلى إحدى الزوايا الجانبية التي يعمّها الظلام بحيث يصعب عليك أن ترى ما حولك. لم يكن هناك أحد، ولذا غطّت زوجتي وجه الطفل بزاوية الحرام الذي تلفه به ثم وضعته على أحد المقاعد، كما لو كانت تتخلص من لفة تعوق حرية حركة يديها، ثم ركعت وصلت لفترة طويلة وهي تضع كفيها على وجهها. أما أنا، ولأنني لم أجد ما أفعله فقد أخذت أتفحص مئات القلوب الفضية مختلفة الأحجام والتي تغطي جدران المصلى. وقفت في النهاية وقد علت وجهها إمارات الإصرار وسارت مبتعدة ببطء، وسرت وراءها على مسافة قليلة منها. وفي تلك اللحظة صرخ الواعظ قائلاً: "وقال المسيح: إلى أين تمضي يا بطرس؟" أجفلت عند ذلك وكأنما كان يوجه السؤال إليّ، وبينما كانت زوجتي تهم برفع ستارة الباب كي تخرج أفزعنا صوت انطلق من ورائنا يقول: "سيدتي! لقد تركت لفة على المقعد هناك."‏
كانت تلك امرأة ترتدي السواد، من ذلك النمط من النساء المتدينات اللاتي يقضين نهارهن متنقلات بين الكنيسة وغرفة المقدسات. أجابتها زوجتي: "أجل، يا إلهي، شكراً لك فقد نسيتها". ولذا حملت اللفة ثانية وخرجنا ونحن نشعر بأننا أقرب إلى الموت منا إلى الحياة.‏
قالت زوجتي بعد أن خرجنا: "يبدو أن أحداً لا يريد صغيري هذا." قالت تلك الجملة وكأنها شخص حمل بضاعة إلى السوق متوقعاً أن يبيعها بسرعة ولكنه يفاجأ عندما لا يجد من يرغب بها، أخذت تسرع الخطى من جديد وتنهب الأرض بقدميها وهي تلهث بحيث بدت أقدامها وكأنها لا تكاد تمس الأرض. وصلنا إلى كنيسة "بيازا سانتي أبوستولي"، وكانت هذه مفتوحة. وما أن دخلت زوجتي ورأتها واسعة فسيحة ظليلة حتى همسة قائلة: "هذا ما نريده". مشت تغمرها علائم التصميم واتجهت إلى إحدى الزوايا الجانبية، ووضعت الطفل على مقعد وأسرعت عائدة باتجاه المدخل دون أن تتمتم حتى بصلاة قصيرة أو تقبل جبين الطفل، وكأنما الأرض تلتهب تحت أقدامها. ولكنها، وما أن قطعت عدة خطوات حتى اهتزت الكنيسة بصوت بكاء يائس، فقد حان وقت رضاعة الطفل فيما يبدو، وحيث أنه دقيق غاية الدقة في مواعيده فقد أخذ يبكي من شدة الجوع. بدا على زوجتي وكأنها فقدت رشدها حينذاك إذ هرولت أولاً باتجاه الباب، ثم التفتت وهي ما تزال تهرول وجلست على أحد المقاعد دون تفكير وفتحت أزرار قميصها لتعطيه ثديها، وما أن أخرجته حتى التهمه الطفل وكأنه ذئب مفترس وأخذ يرضع بشراهة ويقبض على الثدي بكلتي يديه وقد توقف عن البكاء. ولكننا ما لبثنا أن سمعنا صوتاً يصيح بها: "لا يمكنك أن تفعلي ذلك في هذا المكان. اذهبي من هنا، اخرجي إلى الشارع!" كان هذا صوت قيّم غرفة المقدسات، وهو رجل عجوز ضئيل الجسم ذو لحية بيضاء، ضئيلة تمتد تحت ذقنه وصوت أكبر من جسمه. نهضت زوجتي وهي تغطي صدرها ورأس الطفل ما استطاعت ثم قالت: "ولكن العذراء تحمل طفلها بين يديها كما نراها في الصور كما تعلم." أجاب بحدة: "هل تشبّهين نفسك بالعذراء أيتها المرأة الدعية؟"‏
حسناً، غادرنا تلك الكنيسة أيضاً ومضينا لنجلس في حديقة "بيازيا فينيسيا" حيث أعطت زوجتي ثديها للطفل ثانية إلى أن ارتوى وعاد إلى النوم من جديد.‏
كان المساء قد حل والكنائس تغلق أبوابها وقد حل بنا التعب والارتباك، ولم تعد في جعبتنا أية أفكار قابلة للتنفيذ. شعرت باليأس وأنا أفكر بكل ما حل بنا ونحن نقدم على أمر لا يجدر بنا أن نفعله، ولذا قلت لزوجتي: "اسمعي، لقد تأخرنا ولست أستطيع الاستمرار على هذا الحال.. علينا أن نقرر." أجابت ببعض المرارة: "ولكنه لحمك ودمك! هل تريد أن تتركه كيفما اتفق، في أي زاوية كما قد يترك الناس لفة من الأحشاء لكي تأكلها القطط؟" قلت: "لا، لم أقل ذلك، غير أن هنالك أموراً على المرء أن يفعلها على الفور ودون تفكير، وإلا فإنه لن يقدم عليها على الإطلاق." أجابت: "حقيقة الأمر هي أنك تخشى أن أغير رأيي وأعيده إلى البيت ثانية. أجل، أنتم الرجال جميعكم جبناء! أدركت بأن علي ألا أجادلها في تلك اللحظة، ولذا قلت لها بلهجة تتسم بالاعتدال: "لا تغضبي! إنني أدرك مشاعرك، ولكن تذكري بأنه مهما حل به فسيكون أفضل له من أن يشب في "تورمارانشيو" في غرفة دون مرحاض أو مطبخ، غرفة تمتلئ بالحشرات شتاء وبالذباب صيفاً. صمتت ولم تجب.‏
بدأنا نسير ثانية دون أن ندري إلى أي اتجاه نحن ماضيان. شاهدت شارعاً ضيقاً صغيراً دوننا، كان مهجوراً تماماً وينحدر من الشارع الذي كنا نسير فيه، ورأيت سيارة رمادية مغلقة تقف عند أحد المداخل. طرأت لي فكرة فتوجهت إلى السيارة وعالجت بابها فانفتح. قلت لزوجتي: "أسرعي! هذه هي فرصتنا... ضعيه في المقعد الخلفي." فعلت ما قلت ووضعت الطفل في المقعد الخلفي وأغلقت الباب. فعلنا ذلك في لمح البصر ودون أن يرانا أحد، ثم تأبطت ذراعها وأسرعنا في طريقنا إلى "بيازا ديل كورينالي".‏
كانت الساحة خالية وشبه مظلمة إذ لم تكن فيها إلا بضعة مصابيح مضيئة في أسفل البنايات، أما المصابيح الأخرى فكانت مطفأة. روما كانت تلتمع تحتنا أسفل السياج. توجهت زوجتي إلى النافورة تحت المسلة وجلست على أحد المقاعد وبدأت تبكي على الفور وهي تدير ظهرها لي. قلت لها: "ماذا بك الآن؟" أجابت: "أحسّ بأنني أفتقده بعد أن تركته! أشعر أن هناك شيئاً مفقوداً هنا حيث كان يمسك بصدري." قلت في محاولة لتهدئتها: "أجل، لا شك بذلك، ولكنك ستتعودين على هذا الأمر." هزت كتفيها وتابعت البكاء، وفجأة جفت دموعها كما يجف ماء المطر عن أرض الشارع مع هبوب الريح. قفزت ثانية من مكانها وقد تملكها الغضب وأشارت إلى إحدى البنايات المطلة على الساحة وهي تقول: "سأذهب إلى هناك فوراً وسأطلب رؤية الملك لأخبره بكل شيء." صرخت فيها وأنا أقبض على ذراعها: "قفي، هل جننت؟ ألست تعرفين أنه لم يعد هنالك ملك بعد؟" قالت: "وماذا يهمني في ذلك؟ سأكلم من أخذ مكانه!" واندفعت راكضة نحو بوابة القصر، ولا يعلم إلا الله وحده ماذا كانت ستفعل لو أنني لم أقل لها في لحظة يأس: "حسناً! اسمعي، لقد فكرت في الأمر ثانية. لنذهب إلى تلك السيارة ونستعيد الطفل، أعني سنربيه بأنفسنا. ما الفارق؟ طفل آخر ليس إلا!" كانت تلك هي النقطة الحاسمة في القضية كلها حيث تغلبت تلك الفكرة على فكرة مخاطبة الملك. وقالت وهي تهرول باتجاه الشارع الصغير الذي كانت تقف فيه السيارة الرمادية: "هل تظن أنه ما زال هناك؟" أجبتها: "بالتأكيد! لم يكن ذلك إلا منذ خمس دقائق فقط."‏
كانت السيارة ما تزال هناك بالفعل، غير أنه في اللحظة التي كانت تهم فيها زوجتي بفتح الباب برز من المدخل رجل قصير القامة في أواسط عمره تبدو عليه سيماء الأهمية فصاح بها: "توقفي.. توقفي.. ماذا تفعلين بسيارتي؟" أجابته زوجتي دون أن تلتفت وهي تنحني لتلتقط اللفة من فوق المقعد: "أريد ما هو لي!" ولكن الرجل قال بإصرار: "ولكن ماذا لديك هناك؟ إنها سيارتي، هل تفهمين؟ سيارتي!"‏
ليتك رأيت زوجتي حينذاك، فقد شدت قامتها واتجهت نحوه وهي تصيح: "ومن أخذ منك أي شيء؟ لا تخف! ليس هناك من سيأخذ منك أي شيء، أما سيارتك فإنني أبصق عليها.. انظر!"‏
وبصقت بالفعل على باب السيارة. قال الرجل بحيرة: "ولكن تلك اللفة؟" أجابته بانفعال: ليست لفة، بل هي طفلي. يمكنك أن تراه إن أردت!"‏
كشفت عن وجه الطفل كي يراه ثم تابعت تقول: "لن تنجب أنت وزوجتك طفلاً في مثل جماله حتى ولو ولدتما من جديد! لا تقترب مني وإلا فإنني سأصرخ وأطلب الشرطة لأقول لهم بأنك كنت تحاول أن تسرق طفلي!" ثم أخذت تشتمه وتهدده حتى أن الرجل المسكين كاد يسقط مغشياً عليه وهو يقف فاغر الفم أحمر الوجه. وفي النهاية سارت بخطى متهادية حتى وصلت إلى جانبي عند زاوية الشارع.‏
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.08058 seconds with 11 queries