عرض مشاركة واحدة
قديم 10/01/2008   #26
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


(2)
إن طبيعة الأسطورة أن تغيب شخوصها وأحداثها عن الواقع لتحتل الذاكرة التخيلية، ويغيب معاصروها، أو من عايشوها في تجليها المتخيل، لكن أسطورتنا تنفرد بحضورها المباشر الذي يلازم الواقع، ويصعد به إلي أفق التخيل، وكثير ممن عايشوها، مازالوا يعايشونها، ويتشبعون بحضورها وإن استحال معظمهم إلي كتاب مفتوح يسجل أحاديث الأسطورة أحيانًا، ويسجل ما يدور عنها وحولها أحيانًا أخري أو لنقل إن كل واحد من الحواريين قد تحول إلي ذاكرة محفوظية تسجل ماتراه، وتحفظ ما تسمعه، وتضيف إلي هذا وذاك انطباعها الذاتي في قدر كبير من الدقة والأمانة، ومن ثم فقد تراكم عن محفوظ سجل شفاهي حافل يقرب الأسطورة من الواقع، ويحيطها بكم وافر من الوثائق الشفاهية والكتابية التي تتساوق مع كثرة الصحاب والرواد، وأظن أن هذه الصفحات سوف تستمد من هذه الوثائق معظم معارفها عن أسطورة نجيب محفوظ الحياتية والإبداعية.
تقول الوثائق إن نجيب محفوظ ولد سنة 1911، وكان هذا المولد بشارة مرحلة التحول في الواقع المصري، فقد انفتحت نافذة الوعي الأكاديمي قبله بسنوات قليلة، حيث أنشئت جامعة فؤاد الأول (القاهرة) سنة 1908، وهو عام وفاة الزعيم مصطفي كامل الذي ظل صوته مدويا في أسماع المصريين بعد وفاته، وكانت أصوات شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وسواهم من المبدعين تملأ سماء الوطن، وكان سعد زغلول يقود حركة الوعي إلي ذروتها في سنة 1919، وكانت المرحلة إرهاصا بالفن الذي سوف ينبغ فيه محفوظ، إذ صدرت رواية (زينب) لهيكل سنة 1914.
لقد صاحب مولد محفوظ التحولات المصرية والعالمية بدءا من الحرب العالمية الأولي سنة 1914 ـ 1918، والحرب العالمية الثانية بعد ذلك سنة 1939ـ 1945، أما التحولات المصرية فقد كانت امتدادا لمرحلة التنوير التي وصلت ذروتها في ثورة 1919، وقد تابعها محفوظ في مظاهراتها وهو طفل من شرفة منزله (بيت القاضي) بحي الجمالية، وقد سجلها ببراعة معجبة في ثلاثيته الخالدة: بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية.
وتتابعت الأحداث العربية والمصرية، فكانت نكبة فلسطين سنة 1948، ثم ثورة يوليو سنة 1952، ثم تأميم القناة وحرب سنة 1956، ثم الوحدة مع سوريا وبناء السد العالي، ثم نكسة سنة 1967، وانتصار سنة 1973، ثم توابع حرب أكتوبر من الانفتاح الاقتصادي الذي أحدث انقلابا جذريا في المجتمع المصري بكل طوائفه، ثم مقتل السادات، وحرب الخليج الأولي والثانية، ثم انكسار الاتحاد السوفيتي وهيمنة القوة الامريكية علي العالم.
وخلال هذه التحولات المصرية والعربية والعالمية، جاءت تحولات محفوظ الإبداعية التي بدأت فاعليتها من أعماق الواقع المصري ملتحمة به علي نحو مباشر، لقد كانت بداية إطلالته علي الواقع المصري من شرفه بيته في حي الجمالية، ثم اتسعت نافذة الإطلال واقتربت أكثر من الواقع مع بداية ارتباطه (بالمقهي) سنة 1943، ثم دخول هذه البداية إلي شكل الندوة ابتداء من سنة 1945، وكانت أحداثها تقع يوم الجمعة من كل اسبوع في (كازينو الأوبرا)، وقد أصبحت المقاهي ركيزة أساسية في مسيرة محفوظ الحياتية، وهي مقاهٍ متعددة وقريبة من الواقع المصري في كافة مستوياته الاجتماعية: مقهي عرابي ـ الفيشاوي ـ قصر النيل ـ كازينو صفية حلمي ـ ريش ـ ركس ـ سفنكس ـ لاباس ـ جروبي ـ علي بابا ـ زقاق المدق ـ الفردوس ـ لونا بارك ـ بترو قهوة أحمد عبدالله.
ومن شأن الشخوص الأسطورية أن تنبئ مقدماتها عن نتائجها، وهكذا كانت طفولة محفوظ إشارات مبكرة لميلاد العبقرية الحكائية، وحنينها الفطري إلي دائرة السرد، فمما رواه حواريوه أنه كان ينسخ القصص البوليسية بخطه، بخط يجهد نفسه في دقته وتحسينه، ثم يضع اسمه علي المخطوط بوصفه المؤلف، وكأن هذا الفعل الطفولي نوع من النبوءة المستقبلية التي كانت تخايل الطفل في سنواته الأولي، وهي مخايلة تحولت إلي حقيقة إبداعية متواصلة لأكثر من سبعين عاما.
لاشك أن هذا الاسم الذي وضعه الطفل علي مخطوطه، كان اسما مشحونا ببعد أسطوري ـ أيضا ـ ربما لم يعه الطفل، إذ حمل الطفل اسم أشهر طبيب ولادة في مصر (نجيب محفوظ) وأصبح اسمه كاملاً: (نجيب محفوظ عبدالعزيز أحمد الباشا) لكن الذي شاع هو الاسم المركب (نجيب محفوظ) بطرفيه الفريدين.، ذلك أن (نجيب) من النجابة وهي النفاسة والتفرد في النوع، وهي نجابة (محفوظة) برعاية الله أولاً، ورعاية المجتمع ثانيا، ومصداق ذلك: أن محاولة الاعتداء عليه بكل طابعها الوحشي الإجرامي باءت بالفشل والخسران المبين.
ولكي تكتمل للأسطورة مكوناتها الجوهرية، كان التحاقها بكلية الآداب ـ قسم الفلسفة سنة 1930، حيث تخرج فيها سنة 1934، وقد صاغ القسم محفوظا صياغة عقلية ونفسية من طراز خاص، هذه الصياغة التي شكلت رؤيته للعالم بكل عمقها وشمولها، وبكل توجهاتها في البحث عن الجوهر الذي لا تحجبه الأعراض والهوامش، صحيح أن العرض والهامش قد يكونان مطلوبين ـ أحيانًا ـ عند محفوظ ـ لكنهما مطلوبان لخدمة الجوهر الأصيل بوصفه المادة الأولية للوجود.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04028 seconds with 11 queries