عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #1
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي في ضيافة الرئيس


في ضيافة الرئيس

فيصل جلول*

ليس هذا النصّ دليلاً على ما قد يصيب كاتبًا زائرًا للبلد المعنيّ هنا. وليس مضبطةَ اتهامٍ حصريّةً لنظامه؛ فالوقائع الفظيعة التي أحاطت بتلك الزيارة يمْكن تخيّلُ ما يتعدّاها فظاعةً في بلدانٍ عربيّةٍ أخرى. ولربّما توفّر لي الوقتُ المناسبُ لصياغة شهاداتٍ احتجاجيّةٍ في هذه البلدان: فأن تكون عربيّاً لا يعني أن تتسامحَ مع انتهاك الحقوق، و"تتفهّمَ" الأداءَ السيّئ إلى أجلٍ غير مسمّى، وتسكتَ عن الترهيب الذي ما رَفع يومًا شأنَ أمّةٍ ولا أنقذ نظامًا مبنيّاً على الاعتباط (وهذا أخطرُ من الاستبداد).


إنّ وقائع الفظاعة في دولٍ عربيّةٍ ثريّةٍ تتجاوز كلّ الحدود (بحسب المتواتر من الأخبار والشهادات)، ولكنها مكتومةٌ بفضل وسائل الإعلام الرادعة التي تمْلكها تلك الدولُ داخل حدودها وخارجها. وهذا ما يستوجب الحذرَ من السقوط في لعبة الضوء الانتقائيّة المسلّطة على فقراء العرب، والمحجوبةِ عن أغنيائهم. ولعلّ هذا من الأسباب التي حملتني على الإشارة إلى البلد المعنيّ تلميحًا لا تصريحًا.

في مطار الرئيس
إلى فندق موريس الفخم في باريس، توجّهتُ ذات مساءٍ رماديّ من مساءات أزمة الخليج الثانية، بعد أن تلقّيتُ اتصالاً هاتفيّاً من سفيرٍ عربيّ أكّد لي أنّ رئيسَ بلاده موجودٌ في الفندق، وأنّ في وسعي محادثتَه.


في هذا الفندق تحوم أطيافُ زعماء وشخصيّاتٍ اعتادت المكانَ، ومن بينها ملوكٌ أوروبيّون مخلوعون وشخصيّاتٌ بريطانيّةٌ اعتادت النزولَ فيه. ومن بين مرتاديه المعروفين أنتوني إيدن، وباي تونس، وشاه إيران. لكنّ أبرزهم من الأقرب عهدًا إلينا إنما هو سلفادور دالي، الفنّانُ السورياليُّ الشهير؛ ولعلّه الأقربُ أيضًا إلى أجواء ما سيلي من هذه المرويّات.

كنتُ ألتقي الرئيسَ للمرة الأولى منذ قيامه بثورة لـ "الإنقاذ" قبل شهور معدودة في بلده العربيّ الأفريقيّ الضخم. وفي حضرة الرئيس الثوريّ، بذلتُ جهدًا في تلخيص قراءاتي للصحف الأجنبيّة، وقد احتشدتْ على صفحاتها أنباءُ الأزمة الخليجيّة المندلعة للتوّ، فيما انهمك أحدُ مساعديه في تسجيل ملاحظاتي التي استأثرتْ باهتمام رئيسه. وكان عليّ أن أبذلَ جهدًا آخر لكي أنتزعَ من الرئيس موقفًا صريحًا من اجتياح الكويت وما تلاه؛ فالرئيس كان متحفّظًا على غير عادة بعض الرؤساء الثوّار. وفي ختام اللقاء سألني إنْ كنتُ قد زرتُ بلادَه من قبل، ودُهش عندما علم بأنني لم أفعلْ، فدعاني إلى زيارتها في أقرب وقتٍ ممكن، وكان ذلك أقربَ ممّا توقّعتُ.

فبعد ثلاثة أسابيع كنتُ في طريقي إلى عاصمة الرئيس العربيّة الأفريقيّة الجميلة، غيرَ عابئٍ بزمن الرحلة الممتدّ إلى أكثر من أربع عشرة ساعة، يتخلّلها توقّفٌ في عاصمتين غربيّة وعربيّة. فلقد كانت الشركة التي نقلتني هي الوحيدةَ المثابرةَ على تأمين الاتصال بذلك البلد من باريس وإليها، بعد أن امتنعت الشركاتُ الأخرى عن السفر إليه جرّاء تراكم مستحقّاتها الماليّة عليه.

كان طولُ الرحلة يستدعي مادّةً مناسبةً للقراءة، فآثرتُ على الصحف والمجلاّت كتابًا فرنسيّاً صدر لتوّه ويتحدّث عن بلدٍ عربيّ أفريقيّ آخر، وفيه مرويّاتٌ ترتعد لقراءتها الفرائصُ: حول قتل المعارضين قنصًا؛ أو دفعهم إلى الانتشار في حقل ألغام، فإنِ اجتازه أحدُهم سالمًا أُجهِزَ عليه ببندقيّةٍ دقيقةِ التوجيه لصيد الحيوانات المفترسة.

قبل دقائق من هبوط الطائرة، اختار الراكبُ الجالسُ إلى جانبي أن يحدّثني عن قطع الأطراف في هذا البلد، مؤكّدًا أنّ هذا العقاب قد يشمل الأجانب المسلمين لا المواطنين وحدهم، وقال: "إذا ارتكب المواطنُ أو الزائر أخطاءً من نوع تصريف عملة صعبة في السوق السوداء، أو تعاطي الخمور، فعليه أن ينسى أحدَ أطرافه." قلتُ في نفسي إنّ الرجل يبالغ، وإنني غيرُ معنيّ أصلاً بهذا النوع من "الجريمة والعقاب،" ناهيك بأنني ضيفُ الرئيس الذي استعجل دعوتي تحبّبًا ولطفًا.

لا شيء يدعو إلى الارتياب في مطار الرئيس: بضعة رجال أمن باللباس المدنيّ يتخاطبون عبر "التوكي ووكي،" وحركةُ المسافرين عاديّة جدّاً، وركّابُ رحلتي أنهوْا معاملاتهم سريعًا ثم غادروا المكان. بقيتُ وحدي أنتظر مَن يرشدني إلى الفندق، وأوليتُ انتباهًا كبيرًا لسماع اسمي من مذياعٍ ما أو لرؤيته مكتوبًا على يافطة صغيرة؛ فلا يُعقل أن أكون ضيفَ الرئيس فألقى استقبالاً فاترًا من هذا النوع. ولو لم أكن ضيفَ أحدٍ لتدبّرتُ أمري بسرعة: فالبلد يستثني العربَ من تأشيرة الدخول، وفنادقُه معروفةٌ لدى سائقي التاكسي.

ظننتُ أنّ في الأمر خطأً بسيطًا. فتوجّهتُ بجرأة وثقة إلى رجل أمن، وشرحتُ له تفاصيلَ دعوتي، وعرضتُ عليه برقيّة الدعوة وجوازَ سفري. "لا تتحرّكْ من مكانك إطلاقًا،" قالها بلهجة حاسمة ومتوعّدة. لم أعبأْ بلهجته، وقدّرتُ أنه سيعود إليّ معتذرًا عن فظاظته. والظاهر أنني أساتُ التقدير: فقد عاد بعد دقائق برفقة ثلاثةٍ من رجال الأمن الذين اصطحبوني مخفورًا إلى غرفةٍ بائسةٍ معزولةٍ تقع خلف قاعة الانتظار، ثم فتّشوا حقيبتي بعناية وأمروني بالبقاء في الغرفة بعد أن أحكموا إقفالَها.

تبلغ مساحةُ الغرفة حوالى 14 مترًا مربّعًا، وتضمّ عددًا كبيرًا من أجهزة التلفزيون المطفأة وُضعتْ على طاولاتٍ حديديّةٍ شبيهةٍ بالطاولات التي كان يسرقها أفرادُ الميليشيات اللبنانيّة من الدوائر الحكوميّة وتُعرض في بسطات المسروقات على ساحل بيروت الغربيّ. هكذا بدت محتوياتُ المكان وكأنها منهوبةٌ أو مصادرةٌ، بما في ذلك الكنبةُ الخشبيّةُ التي جلستُ عليها مذهولاً وخائفًا ومنتظرًا رجالَ الأمن أكثرَ من نصف ساعة خلتُها دهرًا.

فتح المسؤولُ الأولُ بابَ الغرفة بهدوءٍ ونظر إليّ بارتياب. ثم جلس خلف مكتب مغبرّ من دون أن يخاطبني، وطلب صحنَ فولٍ كبيرًا قائلاً بلهجةٍ متعالية: "كلْ!". شعرتُ بغضبٍ يجتاحني، لكنّي تمالكتُ نفسي وقلتُ: "لا،.شكرًا، لم آت إلى بلادكم طلبًا لوجبة فول."
قال: "انت تزعم أنك كاتب وصحافيّ ومدعوّ من الرئيس." أجبتُ بسخرية: "نعم، وكنتُ أتوقّع استقبالاً لائقًا." قال: "كيف إذًا لا يوجد أحدٌ في انتظارك في المطار؟" أجبتُه: "السؤال موجّه إليكََ يا سيّد. اتّصلْ بالقصر الرئاسيّ، فلديهم علمٌ بذلك." قال: "هذا ما سنفعله." ثم غاب من دون أن يقفلَ بابَ الغرفة، فاشتعلتُ قلقًا وخوفًا.


ظننتُ للوهلة الأولى أنّ انقلابًا جديدًا وقع لتوّه في هذا البلد، وأنني قد أكون ضحيّة هذا الانقلاب لأنني مدعوٌّ من الرئيس "المخلوع." وتخيّلتُ احتمالاتٍ متعدّدةَ البشاعة، خالطًا بين ما قرأتُه في الكتاب الفرنسيّ وبين ما سأتعرّض له .ثم قلّبتُ تاريخي الشخصيّ، وصفحاتِ كتبي ومقالاتي، علّني أعثرُ على سببٍ يستدعي الانتقامَ مني. وتساءلتُ عن مصير أسْرتي في باريس، ولوهلةٍ تيقّنتُ من أنني لن أخرج من هذا المكان الكريه، واحترتُ في هذا الفخّ الذي وقعتُ فيه بسذاجةٍ ما بعدها سذاجة.

قطع الصمتَ الثقيلَ وقعُ خطواتٍ وهمهماتٌ في الخارج. ثم أطلّ المسؤولُ الأول الذي لا يتعدّى الثلاثين عامًا برفقة رجلٍ مربوعِ القامة يضع نظّاراتٍ سوداء، وبدا لي وكأنه المسؤولُ الأمنيّ الأعلى. لم ينطقْ بكلمةٍ واحدة طوال المدّة التي حاول خلالها الشخصُ الأوّلُ استنطاقي. ـ لماذا تقيم في باريس؟
ـ ما دخلك أنتَ؟ أقيم حيث أرغب!
وتوالت الأسئلة: "مَنْ سلّمك الدعوة؟ مَنْ يموّل الصحيفة التي تعمل فيها؟ أين كنتَ تعمل من قبل؟ من أيّة منطقةٍ تتحدّر من لبنان؟ ما مصدرُ اهتمامك بهذه البلاد؟ أتعرف أحدًا داخلها أو خارجها؟" باشرتُ الإجابة بهدوءٍ على الأسئلة المطروحة، ثم انفجرتُ قائلاً: "إذا أردتَ التحقّقَ من هويّتي اتصلْ بسفارة بلادك في باريس، أو بسفارة بلادي عندكم، أو بمالك الصحيفة التي أعمل فيها، أو بالقصر الجمهوريّ الذي وَجّه إليّ الدعوة." وأضفتُ: "انتبهْ! كان يمْكنني أن أدخل كأيّ عربيّ من دون أن أتصلَ بكم. وفي كلّ الأحوال لم أعد راغبًا في الدخول إلى بلادكم، وأرجو أن تدبّروا رحيلي في أوّل طائرةٍ عائدةٍ إلى أيّة جهةٍ في العالم." هنا تدخّل المسؤولُ الأعلى قائلاً: "لقد سألنا عنك في القصر، ولم يتعرّفْ أحدٌ إليك ولم يدْعُكَ أحد. ثم... كيف تدخل وإلى أين؟" قلت :"إلى أيّ فندق." قال: "أتظنّ نفسَكَ في بلدٍ سياحيّ؟! أتظنّنا أطفالاً كي نرحّلكَ قبل أن نعرف ظروفَ مجيئك إلى البلد؟ إنْ كنتَ تعتقد أنك ستخدعنا طويلاً، فأنت مخطئ يا سيّد." ثم غادر المكانَ برفقة زميله.


لا أدري كم سيجارةً نفثتُ منذ احتجازي في هذا المكان أكثرَ من ثلاث ساعات، إلى أن شعرتُ بحاجةٍ قويّةٍ إلى النوم. وكدتُ أُغمض عينيَّ عندما سمعتُ قهقهة في الخارج، أذّنتْ بقدوم رجليْ أمن. كان أصغرُهما يبتسم منفرجَ الأسارير، فيما الآخر المتخفّي وراء النظّارات يحافظ على ملامحه الصارمة.
"هل تعرف المحبوب؟" قلتُ: "المحبوب (...)؟ نعم أعرفه، ونشرتُ له مقالاتٍ في صحيفتنا عندما كان طالبًا في باريس." قال: "إنه مسؤول الإعلام الخارجيّ عندنا. إنه الوحيد الذي عرف هويّتكَ، وهو في الطريق لاستقبالك." قلت: "عندما يتهجّم علينا العنصريّون في أوروبا لأننا عرب، يَظهرون أكثرَ تسامحًا منكم." فردّ المسؤولُ الأعلى محتدّاً: "وهل تظنّ أنكَ في بلدٍ غربيّ؟ أنتَ في العالم الثالث يا سيّد." لم أعبأْ بالجدل الذي أثاره (أتكون الجغرافيا مسوِّغًا للغباء الأمنيّ والأذى؟)، وفضّلتُ الاستمتاعَ بالانفراج الذي سرى في داخلي، من دون أن يمحوَ تمامًا ذلك الرعبَ الذي سيتملّكني أسبوعًا كاملاً.


في قاعة الفندق اعتذر "المحبوب" عن "سوء التفاهم" الذي وقع، واعتبره ناجمًا عن إعادة تنظيم الإدارة والأجهزة بعد الثورة، وطلب إليَّ الخلودَ إلى الراحة لبعض الوقت وأن أكفّ عن التفكير في العودة إلى باريس في أول إقلاع.

انطلقتُ نحو غرفتي بأملٍ جديد ومشاعرَ جديدة، وبذلتُ جهدًا كي أطوي ساعات الصباح الرهيبة. غير أنّ رائحةَ المكان الكريهة أعادتني إلى الكابوس نفسه: فالفندق مصنّفٌ في فئة النجوم الخمس، لكنه لا يتمتّع بأيّ من مواصفاتها الإداريّة والخدماتيّة. ولعلّ الروائح كانت قابلةً لأن تُحتمل قبل لحظة دخولي الحمّامَ ومفاجأتي بحشدٍ من الصراصير والذباب الذي يبعث على التقيّؤ وضيقِ التنفّس. حاولتُ الاتصالَ بإدارة الفندق، غير أنّ الهاتف لا يعمل داخل الطبقات (واكتشفتُ فيما بعد أنه لا يعمل خارجها أيضًا). فكان عليّ أن أعْرض الأمرَ مباشرةً على مدير الفندق، الذي تصنّع الاستياءَ والاستغراب، وأكّد أنه لن يسمح لي بالانتقال إلى فندق أجنبيّ، بل سيعطيني جناحًا فخمًا للتعويض ممّا جرى لي.

في الجناح الواقع في الطبقة الأخيرة من الفندق طاردني كابوسُ الصباح، وفارقني النعاسُ إلى ساعات ما بعد منتصف الليل. مشيتُ في المكان جيئةً وذهابًا، وتردّدتُ في خلع ملابسي، ولم أجرؤ على الدخول إلى الحمّام، واستسلمتُ للسجائر. وازدادت وحشتي بعد أن فشلتْ محاولاتي المتكرّرةُ في الاتصال بعائلتي في باريس، فقرّرتُ العودة إلى مرويّات الرعب في الكتاب الفرنسيّ، ظانّاً أنّ الرعب سيتكفّل بطرد الرعب.

عندما لاحت خيوطُ الفجر الأولى من واجهة الجناح المطلّة على النهر العظيم، أوشكتُ أن أرخيَ جفوني المتعبة واستسلمَ للنوم. غير أنّي سمعتُ حركةً في السقف والشرفة، مصدرُها عشراتٌ من طيور الحمام التي تأوي المكانَ. ولعلّه من سوء حظّي أنني كنتُ في باريس قد شاهدتُ للمرة الرابعة فيلمَ "العصافير" لألفريد هيتشكوك عشيّةَ سفري، فأقلعتُ عن النوم حتى الثامنة صباحًا.


يتبع..




ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05796 seconds with 11 queries