أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > المكتبة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10/06/2006   #145
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في بيان حاجة الإنسان إلى استعمال القياس

أعلم يا أخي بأنه لما كانت الحواس تدرك أن الأشخاص مركبة من جواهر بسيطة، في أماكن متباينة، وأعراض جزئية، في محال متميزة، عرفت أنها أعيان غيريات موجودة فحسب. وأما كمياتها وكيفياتها فلم تعلم على الاستقصاء إلا بالقياسات الموضوعة المركبة. مثال ذلك أنه إذا علم الإنسان بالحواس أن بعض الأجسام ثقيلة أوكثيرة أوعظيمة، فإنه لا يمكنه أن يعلم كمية أثقالها إلا بالميزان، ولا كثرتها إلا بالكيل، ولا عظمها إلا بالذراع، وما شاكل هذه، وهي كلها موازين ومقاييس يعلم الإنسان بها ما لا يمكنه أن يعلمه بالحزر والتخمين.
فصل في وجوه الخطأ في القياس وأعلم يا أخي بأن الخطأ يدخل في القياس من وجوه ثلاثة، أحدها أن يكون المقياس معوجاً ناقصاً أوزائداً، والثاني أن يكون المستعمل للقياس جاهلاً بكيفية استعماله، والثالث أن يكون القياس صحيحاً، والمستعمل عارفاً، ولكن يقصد فيغالط دغلاً وغشاً لمأرب له.
فصل في كيفية الخطأ

عندما تتأجج نار التحششيش .. تنأى الحشائش بالحشيش الحشحشش ..
وحشيشة التحشيش .. عمر أحشش ..
حش الحشائش في حشيش محشش ..
حشاش يا أخا الحشيش ..
حشش على تحشيش محششنا القديم ..
سوريا الله حاميا
jesus i trust in you
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #146
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في كيفية الخطأ من جهة المستعمل الجاهل

وأعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبا، كما هومجبول على استعمال الحواس، وذلك أن الطفل إذا ترعرع واستوى، وأخذ يتأمل المحسوسات، ونظر إلى والديه وعرفهما حساً وميز بينهما، وبين نفسه، أخذ عند ذلك باستعمال الظنون والتوهم والتخمين. فإذا رأى صبياً مثله وتأمله علم عند ذلك أن له والدين وإن لم يرهما حساً، قياساً على نفسه، وهذا قياس صحيح لا خطأ فيه، لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات العلة. فإن كان له إخوة وقد عرفهم بالحس، أخذ عنه ذلك أيضاً بالتوهم والظن والتخمين، بأن لذلك الصبي أيضاً إخوة، قياساً على نفسه، وهذا القياس يدخله الخطأ والصواب، لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات أبناء جنسه، لا على إثبات علته. وهكذا أيضاً كلما رأى هذا الصبي امرأة ورجلاً، ظن وتوهم أن لهما ولداً وإن لم ير ولدهما، قياساً على حكم والديه، وربما صدق هذا القياس حكمه، وربما كذب، لأنه استدلال بمشاهدة أبناء جنس العلة على إثبات معلولاتها. وعلى هذا المثال يقيس الإنسان من الصبا كلما وجد حالاً اوسبباً لنفسه أولأبويه أولإخوته، ظن مثل ذلك وتوهم لسائر الصبيان ولآبائهم وإخوتهم، قياساً على نفسه وأبويه وإخوته، حتى إنه كلما أصابه جوع أوعطش أوعري، أووجد حراً أوبرداً، أوأكل طعاماً فاستلذه، أوشرب شراباً فاستطابه، أولبس لباساً فاستحسنه، أوحزن على شيء فاته، أوفرح بشيء وجده، ظن عندما يصيبه من هذه الأحوال شيء أن قد أصاب سائر الصبيان الذين هم أبناء جنسه مثل ذلك.
وعلى هذا المثال تجري سائر ظنونه وتوهمه في أحكام المحسوسات، حتى ربما كان في دار والديه دابة أومتاع أوأثاث أوبئر ماؤها مالح، ظن وتوهم أن سائر دور الصبيان مثل ذلك، حتى إذا بلغ وعقل وتفحص الأمور المحسوسة، واعتبر أحوال الأشخاص الموجودة، عرف عند ذلك حقائق ما كان يظن ويتوهم في أيام الصبا، واستبان له شيء بعد شيء صواباً كان ظنه أوخطأ.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #147
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في بيان طريق الخطأ عند العقلاء وخطأ القياس عند الفلاسفة

وأعلم يا أخي بأن على هذا المثال يجري سائر أحكام العقلاء وظنونهم وتوهمهم في الأشياء قبل البحث والكشف، وذلك أن أكثر الناس إذا رأوا في بلدهم ريحاً أومطراً أوحراً أوبرداً أوليلاً أونهاراً أوشتاءً أوصيفاً، ظنوا وتوهموا بأن ذلك موجود في سائر البلدان، قياساً على ما يجدون في بلدهم، كما كانوا يظنون، وهم صبيان، في سائر بيوت الناس مثل ما كانوا يجدون في بيوت آبائهم، حتى استبان لهم بعد التجربة حقيقة ما كانوا يتوهمون كما بينا قبل. فهكذا يجري حكم العقلاء من الناس في ظنونهم وتوهمهم في مثل هذه الأشياء التي تقدم ذكرها، حتى إذا نظروا في العلوم الرياضية، وخاصة علم الهيئة؛ استبان لهم عند ذلك حقيقة ما كانوا يظنون ويتوهمون صواباً كان أوخطأ.
وأعلم يا أخي بأن الإنسان لا ينفك من هذه الظنون والأوهام، لا العقلاء المتيقنون، ولا العلماء المرتاضون، ولا الحكماء المتفلسفون أيضاً، وذلك أنا نجد كثيراً ممن يتعاطى الفلسفة والمعقولات والبراهين يظنون ويتوهمون أن الأرض في موضعها الخاص بها هي ثقيلة أيضاً، قياساً على ما وجدوا من ثقل أجزائها، أي جزء كان. فإذا كان هذا هكذا، فغير مأمون أن تكون سائر القياسات تجري هذا المجرى، وفي هذا ما يدل على ضعف القياس وفساده ودلالته، وهكذا يظن كثير منهم: من يكون في مقابلة بلدهم من جانب الأرض، أن قيامهم يكون منكوساً، قياساً على ما يجدون من حال من يكون واقفاً تحت سطح، وآخر هوقائم فوقه، رجلاه في مقابلة رجليه، وهكذا يظن كثير منهم أن خارج العالم فضاء بلا نهاية إما ملاء؛ وإما خلاء، قياساً على ما يجدون من خارج دورهم من أماكن أخر، وخارج بلدهم بلداناً أخر، وخارج عالمهم عالم الأفلاك، وهكذا يظنون أن الباري- عز وجل- خلق العالم في مكان وزمان، قياساً على ما يجدون من أفعالهم وصنائعهم في مكان وزمان. ولهذه العلة ظن كثير منهم أن الباري- جل جلاله- جسم، قياساً على ما شاهدوا، إذ لم يجدوا فاعلاً إلا جسماً، ووجدوا الباري فاعلاً، وإذا ارتاضوا في العلوم الإلهية، استبان لهم أن الأمر بخلاف ذلك كما بينا في الرسالة الإلهية.
وأعلم يا أخي بأن الإنسان لا يرتقي في درجات العلوم والمعارف رتبة إلا وتسنح له أمور يكون علمه بها قبل البيان والكشف كظنونه بالأشياء المحسوسات قبل معرفة حقائقها وهوطفل كما بينا قبل.
فصل في معقولات الحواس ونتائجها وأعلم يا أخي بأن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواس الخمس، بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول، كثيرة كنسبة الحروف المعجمة بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء.
ونسبة المعلومات التي هي في أوائل العقول، بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين والقياسات من العلوم، كثيرة، كنسبة الأسماء إلى ما يتألف عنها في المقالات والخطب والمحاورات من الكلام واللغات، والدليل على صحة ما قلنا بأن المعلومات القياسية أكثر عدداً من المعلومات التي هي في أوائل العقول ما ذكر في كتاب أقليدس، وذلك أنه يذكر في صدر كل مقالة مقدار عشر معلومات أقل أوأكثر مما هي في أوائل العقول، ثم يستخرج من نتائجها مئتي مسألة معلومات برهانية، وهكذا حكم كتاب المجسطي، وأكثر كتب الفلسفة هكذا حكمها. وإذ قد فرغنا من ذكر كيفية دخول الخطأ في القياس من جهة جهل المتعلمين، فنريد أن نذكر كيفية دخول الخطأ من جهة القياس واعوجاجه.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #148
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في كيفية أعوجاج القياس وكيف التحرز منه

وأعلم يا أخي بأن الخطأ الذي يدخل في القياس من جهة اعوجاجه كثير الفنون كثرة يطول شرحها، ذكر ذلك في كتب المنطق، إلا أنا نريد أن نذكر في هذا الفصل شرائط القياس المستوي حسب، ليتحفظ بها ويقتصر على استعمال ما في البراهين، ويترك ما سواه من القياسات التي لا يؤمن فيها من الخطأ والزلل. فمن القياسات التي تخطئ وتصيب القياس على مجرى العادة بالأنموذج، وهوقياس الجزء على الكل.
وأعلم يا أخي أن القياس الذي لا يدخله الخطأ والزلل هوالذي حفظ في تركيبه واستعماله الشرائط التي أوصى بها أرسطاطاليس تلاميذه، وهي هذه: ينبغي أن يؤخذ في كل علم وتعلم قياسي معنيان معلومان، مما هو في أوائل العقول، وهما: هل هو، وما هو، وإنما أوصى بهذا من أجل أنه لا يمكن ان يعلم مجهول بمجهول، ولا أن يقاس على شيء مجهول وشيء معلوم، فلا بد أن يؤخذ شيء معلوم مما هو في أوائل العقول، ثم يقاس عليه سائر ما يطلب بالبرهان. والذي في أوائل العقول شيئان اثنان: هويات الأشياء وماهياتها، وذلك أن هويات الأشياء تحصل في النفوس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس.
وإذا حصلت هويات المحسوسات في النفس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، سميت النفوس عند ذلك عاقلة. وإذا تأملت وأردت يا أخي أن تعرف ما العقل الإنساني، فليس هوشيئاً سوى النفس الإنسانية التي صارت علامة بالفعل بعدما كانت علامة بالقوة. وإنما صارت علامة بالفعل بعدما حصل فيها صور هوية الأشياء بطريق الحواس، وصور ماهيتها بطريق الفكر والروية.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #149
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أساس القياس البرهاني

وأعلم يا أخي بأن على هذين العلمين يبنى سائر القياسات البرهانية، أعني: هل هو، وما هو، مثال ذلك ما ذكر في كتاب أقليدس في أول المقالة الأولى تسع معلومات مما هو في أوائل العقول، ثم بتوسطها يبرهن على سائر المسائل، وهي قوله: إذا كانت أشياء متساوية لشيء واحد، فهي أيضاً متساوية، وإن زيد على أشياء متساوية أشياء متساوية، صارت كلها متساوية؛ وإن نقص منها متساوية، كانت الباقية متساوية. وإن زيد على أشياء غير متساوية أشياء متساوية، كانت كلها غير متساوية، وإن نقص منها أشياء متساوية، كانت الباقية غير متساوية. وإن كان كل واحد مثلين لشيء واحد، فهي متساوية، وإن كان كل واحد نصف الشيء، فهي أيضاً متساوية. وإذا انطبقت مقاديرها ولم يفضل بعضها على بعض، فهي أيضاً متساوية؛ والكل أكثر من جزء. فهذه الحكومات كلها مأخوذة من العلوم التي هي في أوائل العقول بالسوية، لا يختلف العقلاء في شيء منها، ثم يقاس عليها ما هم مختلفون فيه.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #150
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أوائل العقول وأوائل المعلومات

وأعلم يا أخي بأن هذه الأشياء وأمثالها تسمى أوائل في العقول، لأن كل العقلاء يعلمونها، ولا يختلفون فيها إذا تأملوها وأنعموا النظر فيها؛ وإنما اختلافاتهم تكون في الأشياء التي تعلم بطريق الاستدلال والمقاييس، وسبب اختلافهم فيها كثرة الطرق وفنون المقاييس وكيفية استعمالها، وشرح ذلك طويل قد ذكر في كتب المنطق وكتب الجدل، ونريد أن نبين كيف تحصل حقائق هذه المعلومات في أنفس العقلاء.
وأعلم يا أخي بأن هذه المعلومات التي تسمى أوائل في العقول إنما يحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئاً بعد شيء، وتصفحها جزءاً بعد جزء، وتأملها شخصاً بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصاً كثيرة تشملها صفة واحدة حصل في نفوسهم بهذا الاعتبار أن كل كما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس، وأشخاص ذلك النوع. مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحداً بعد واحد، فيجدها كلها تحس وتتحرك، فيعلم عند ذلك أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه. وهكذا إذا تأمل كل جزء من الماء أي جزء كان، فوجده رطباً سيالاً؛ وكل جزء من النار، فوجده حاراً محرقاً؛ وكل جزء من الأحجار، فوجده صلباً يابساً؛ علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه. فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق الحواس.
وأعلم يا أخي بأن مراتب العقلاء في مثل هذه الأشياء التي تحصل في النفوس بطريق الحواس متفاوتة في الدرجات، وذلك أن كل من كان منهم أنعم نظراً وأحسن تأملاً وأجود تفكراً وألطف روية وأكثر اعتباراً، كانت الأشياء التي تعلم ببدائه العقول في نفوسهم أكثر مما في نفوس من يكون طول عمره ساهياً لاهياً مشغولاً بالأكل والشرب واللهوواللذات والأمور الجسمانية.
وأعلم يا أخي بأن أكثر ما يدخل الخطأ على المتأملين في حقائق الأشياء المحسوسة، إذا حكموا على حقيقتها بحاسة واحدة. مثال ذلك من يرى السراب ويتأمله، فيظن أنه غدران وأنهار. وإنما دخل الخطأ عليه لأنه حكم على حقيقتة بحاسة واحدة، وليس كل الأشياء تعرف حقائقها بحاسة واحدة، ذلك أن بحاسة البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال، وحقيقة الماء لا تعرف باللون واللمس والشكل، بل بالذوق، وذلك أن كثيراً من الأجساد السيالة تشبه لون الماء مثل الخل المصعد؛ والنفط الأبيض وما شاكلها.
وأعلم بأن لكل جنس من المحسوسات حاسة تعرف بها حقيقة ذلك الجنس، والأجسام السيالة يعرف فرق ما بينها وبين غيرها باللمس، وبعضها يعرف الفرق بينها بالذوق، وألوانها تعرف بالبصر، فلا ينبغي للمتأمل أن يحكم على حقيقة شيء من المحسوسات إلا بتلك الحاسة المختصة بمعرفة حقيقة ذلك الجنس من المحسوسات، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس. ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول:
وأما قوله: ينبغي أن يوضع في القياس البرهاني أولاً شيء معلوم: هل هو، وما هو، ليعلم به شيء آخر، كما يفعل المهندس فيضع خط اثم يعمل عليه مثلثاً متساوي الأضلاع، أويقسمه بقسمين، أويقيم عليه خطاً آخر، أويعلم عليه زاوية، وما شاكل ذلك مما قد ذكر في كتاب أقليدس وغيره من كتب الهندسة. والمعلوم: هل هو، وما هو، خط اوالمطلوب المجهول، ليعلم أويعمل، هوالمثلث. فهكذا ينبغي أيضاً أن يعمل في القياس البرهاني أن تؤخذ أولاً أشياء مما هي معلومة في أوائل العقول، ويركب التأليف ضرباً من التركيب، ثم يطلب بها أشياء مجهولة، ليس تعلم بأوائل العقول، ولا تدرك بالحواس. وأما قوله: ولا ينبغي في البرهان أن يكون الشيء علة لنفسه، فهذا بين في أوائل العقول، أي أن الشيء المعلول لا يكون علة نفسه، ولكن من أجل أن كثيراً ممن يتعاطى البرهان ربما جعل المعلول علة لنفسه، وهولا يشعر لطول الخطاب.
مثال ذلك من يتعاطى علم الطبيعيات، إذا سئل: ما علة كثرة الأمطار في بعض السنين، فيقول: كثرة الغيوم. فإن سئل: ما علة كثرة الغيوم، فيقول: كثرة البخارات المتصاعدة من البحار والآجام في الهواء. فإن سئل: ما علة كثرة البخارات المتصاعدة، فيقول أويظن: كثرة المدود وانصباب مياه الأنهار والأودية والسيول إلى البحار. فإن سئل: ما علة كثرة المياه والمدود والسيول إلى البحار، فيقول: كثرة الأمطار. فعلى هذا القياس يلزمه أن علة كثرة الأمطار هي كثرة الأمطار، فمن أجل هذا يحتاج صاحب البرهان أن يقول: إحدى العلل كيت وكيت، والثانية والثالثة والرابعة، ليسلم من الاعتراض، إذ قد تكون الغيوم كثيرة، والأمطار قليلة، لأن لكل شيء معلول أربع علل كما بينا في رسالة العلل والمعلولات.
فصل في أن المعلول لا يوجد قبل العلة وقوله: أن لا يكون المعلول قبل العلة، فهذا أيضاً بين في أوائل العقول، لأن المعلول لا يكون قبل العلة، ولكن من أجل أنهما من جنس المضاف إنما يوجدان معاً في الحس، وإن كانت العلة قبل المعلول بالعقل، حتى ريما يشكل، فلا تتبين العلة من المعلول؛ مثال ذلك إذا سئل من يتعاطى علم الهيئة: ما علة طول النهار في بلد دون بلد، فيقول: كون الشمس فوق الأرض هناك زماناً أطول.
وإذا عكس هذه القضية وقيل: كل بلد يكون فيه مكث الشمس فوق الأرض أكثر، فنهاره أطول، فتصدق، فيخفى على كثير ممن ليست له رياضة بالتعاليم، أيهما علة للآخر، أكون الشمس فوق الأرض لطول النهار، أوطول النهار لكون الشمس فوق الأرض. وهكذا النار والدخان ربما يوجدان معاً، وربما يوجد أحدهما قبل الآخر، وربما يستدل بالدخان على النار، وربما تجعل النار سبباً لوجود الدخان، فلا يدري أيهما علة للآخر.
وأعلم يا أخي بأن النار والدخان ليس أحدهما علة للآخر، بل علتهما الهيولانية هي الأجسام المستحيلة؛ وعلتهما الفاعلية هي الحرارة، وهما يختلفان في الصورة، وذلك أن الحرارة إذا فعلت في الأجسام المستحيلة فعلاً تاماً، صارت ناراً، وإن قصرت عن فعلها لرطوبة غالبة، صارت دخاناً وبخاراً.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #151
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في قوله وأن لا يستعمل البرهان الأعراض الملازمة وإن علة الشيء من ذاتياته، وكون المقدمة كلية.

قوله: أن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة، إنما هولأن الأعراض الملازمة لا تفارق الأشياء التي هي لازمة لها، كما أن العلة لا تفارق معلولها، وذلك أنه متى حكم على شيء بأنه معلول، فقد وجب أن له علة فاعلة له. والأعراض الملازمة، وإن كانت لا تفارق، فليست هي فاعلة له. مثال ذلك أن الموت، وإن كان لا يفارق القتل، فإنه ليس له بعلة، ولا القتل أيضاً علة للموت ذاتية، إذ قد يكون موت كثير بلا قتل، فلا يكون معلول بلا علة. وأما قوله: وأن تكون العلة ذاتية للشيء، فإنما قال هذا من أجل أنه قد يكون للشيء الواحد علل عرضية، ولكنها لا تكون مستمرة في جميع أنواع ذلك الجنس، ولا جميع أشخاص النوع، كالقتل الذي هوعلة عرضية للموت غير مستمرة في جميع أنواعه، ولكن تحتاج أن تكون العلة ذاتية، حتى تكون القضية صادقة قبل العكس وبعده، كقولك: كل ذي لون فهو جسم، فإذا عكسته وقلت: وكل جسم فهو ذولون، لأنه لا يوجد شيء ذولون إلا وهوجسم، فإذاً الجسم علة ذاتية لذي اللون.
وأما قوله: وأن تكون المقدمة كلية، فمن أجل أن المقدمات الجزئية لا تكون نتائجها ضرورية ولكن ممكنة، كقولك: زيد كاتب، وبعض الكتاب وزير، فيمكن أن يكون زيد وزيراً، وأما إذا قيل: كل كاتب فهو يقرأ، وزيد كاتب، فإذاً زيد بالضرورة قارئ.
فصل في أن الحكم بالصفات الذاتية وأما قوله: وأن يكون كون المحمول في الموضوع كوناً أولياً، فمن أجل أن المحمولات في الموضوعات على نوعين، منها أوليات، ومنها ثوان، مثال ذلك: كون ثلاث زواية في كل مثلث كوناً أولاً، لأنها هي الصورة المقومة له، فإما أن تكون حادة أوقائمة أومنفرجة، فهو كون ثان. فقد استبان أنه لا يستعمل في القياس البرهاني إلا الصفات الذاتية الجوهرية، وهي الصورة المقومة للشيء، وبها يكون ذلك الحكم المطلوب الذي يخرج في النتيجة الصادقة.
وأعلم يا أخي أن الصفات الذاتية الجوهرية ثلاثة أقسام: جنسية ونوعية وشخصية، كما بينا في رسالة إيساغوجي، فأقول، واحكم حكماً حتماً كما تعلمه ولا تشك فيه: بأن كل صفة جنسية فهي تصدق عند الوصف على جميع أنواع ذلك الجنس ضرورة. وهكذا أيضاً كل صفة نوعية فهي تصدق على جميع أشخاص ذلك النوع عند الوصف لها. فهذه الصفات هي التي تخرج في النتيجة صادقة، فاستعملها في البرهان، واحكم بها. وأما الصفات الشخصية فإنها ليس من الضرورة أن تصدق على جميع النوع، ولا كل صفة نوعية تصدق على جميع الجنس، فلا تستعملها في البرهان، ولا تحكم بها حكماً حتماً، فإنك لست منها على حكم يقين. فقد عرفت واستبان لك أن الحكماء والمتفلسفين ما وضعوا القياس البرهاني إلا ليعلموا به الأشياء التي لا تعلم إلا بالقياس، وهي الأشياء التي لا يمكن أن تعلم بالحس ولا بأوائل العقول، بل بطريق الاستدلال وهوالمسمى البرهان.
وأعلم يا أخي بأن لكل صناعة أهلاً، ولأهل كل صناعة أصولاً في صناعتهم، هم متفقون عليها، وأوائل في علومهم لا يختلفون فيها، لأن أوائل كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها في الترتيب.
فصل في أن صناعة البرهان نوعان وأعلم بأن أوائل صناعة البرهان مأخوذة مما في بداية العقول، وأن التي في بداية العقول مأخوذة أوائلها من طريق الحواس كما بينا قبل.
وأعلم أن صناعة البرهان نوعان: هندسية ومنطقية. فالأوائل التي في صناعة الهندسة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها مثل قول أقليدس: النقطة هي شيء لا جزء له، والخط طول بلا عرض، والسطح ما له طول وعرض، وما شاكل هذه من المصادرات؛ المذكورة في أوائل المقالات. فهكذا أيضاً حكم البراهين المنطقية، فإن أوائلها مأخوذة من صناعة قبلها، ولا بد للمتعلمين أن يصادروا عليها قبل البرهان. فمن ذلك قول صاحب المنطق: إن كل شيء موجود، سوى الباري - جل جلاله- فهو إما جوهر وإما عرض. ومثل قوله: إن الجوهر هوالقائم بنفسه، القابل للمتضادات، وإن العرض هوالذي يكون في الشيء لا كجزء منه، يبطل من غير بطلان ذلك الشيء. ومثل قوله: إن الجوهر منه ما هوبسيط كالهيولى والصورة، ومنه ما هومركب كالجسم. ومثل قوله: إن كل جوهر فهو إما علة فاعلة أومعلول منفعل، ومثل قوله: كل علة فاعلة فهي أشرف من معلولها المنفعل. ومثل قوله: ليس بين السلب والإيجاب منزلة، ولا بين العدم والوجود رتبة، وإن العرض لا فعل له؛ وما شاكل هذه المقدمات التي يصادر عليها المتعلمون قبل البراهين.
وينبغي لمن يريد النظر في البراهين المنطقية أن يكون قد ارتاض في البراهين الهندسية أولاً، وقد أخذ منها طرفاً، لأنها أقرب من فهم المتعلمين، وأسهل على المتأملين، لأن مثالاتها محسوسة مرئية بالبصر، وإن كانت معانيها مسموعة ومعقولة، لأن الأمور المحسوسة أقرب إلى فهم المتعلمين.
وأعلم بأن البراهين سواء كانت هندسية، أومنطقية، فلا تكون إلا من نتائج صادقة، والنتيجة الواحدة لا بد لها من مقدمتين صادقتين أوما زاد على ذلك، بالغاً ما بلغ، مثال ذلك ما بين في كتاب أقليدس في البرهان على أن ثلاث زوايا من كل مثلث مساوية لزاويتين قائمتين، لم يكن ذلك إلا بعد اثنين وثلاثين شكلاً. وعلى هذا المثال سائر الأشكال تحتاج إلى براهين أخر، وأن مربع وتر؛ الزاوية القائمة مساو لمربعي الضلعين، لم يكن البرهان عليه إلا بعد ستة وأربعين شكلاً، ويسمى هذا الشكل بشكل العروس، وعلى هذا المثال سائر المبرهنات. وهكذا أيضاً حكم البراهين المنطقية، وربما تكفيه مقدمتان، وربما يحتاج إلى عدة مقدمات، مثال ذلك في البرهان على وجود النفس مع الجسم تكفي ثلاث مقدمات، وهي هذه: كل جسم فهو ذوجهات، وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة في أولية العقل؛ والمقدمة الأخرى: وليس يمكن الجسم أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وهذه مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل؛ والمقدمة الثالثة: وكل جسم يتحرك إلى جهة دون جهة فلعلة ما تحرك، له مقدمة كلية صادقة في أولية العقل؛ فينتج من هذه المقدمات وجود النفس. والذي ينبغي ليبرهن بأنها جوهر لا عرض، أن يضاف، إلى هذه المقدمات التي تقدمت، هذه الأخرى: وكل علة محركة للجسم لا تخلوأن تكون حركتها على وتيرة واحدة في جهة واحدة، مثل حركة الثقيل إلى أسفل، والخفيف إلى فوق، فتسمى هذه علة طبيعية. وأما أن تكون حركتها إلى جهات مختلفة، وعلى فنون شتى بإرادة واختيار مثل حركة الحيوان، فتسمى نفسانية، وهذه قسمة عقلية مدركة حساً. وكل علة محركة للجسم بإرادة واختيار فهي جوهر، فالنفس إذاًجوهر، لأن العرض لا فعل له. وهذه مقدمات مقبولة في أوائل العقول، فينتج من هذه أن النفس جوهر.
فصل في كيفية البرهان على أنه ليس في العالم خلاء ومعنى الخلاء هوالمكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، وليس يعقل في العالم مكان لا مضيء ولا مظلم، مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل.
مقدمة أخرى: وليس يخلوالنور والظلمة أن يكونا جوهرين أوعرضين، أوأحدهما جوهراً والآخر عرضاً، وهذه أقسام عقلية صحيحة.
مقدمة أخرى: فإن يكونا جوهرين، فإذاً الخلاء ليس بموجود، أوعرضين، فالعرض لا يقوم إلا في الجوهر، فالخلاء إذاً ليس موجوداً، وإن يكن أحدهما جوهراً، والآخر عرضاً، فهكذا الحكم.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #152
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في البرهان على أنه ليس في العالم لا خلاء ولا ملاء

أعلم يا أخي بأن الخلاء والملاء صفتان للمكان، والمكان صفة من صفات الأجسام، فإن كان خارج الفلك جسم آخر، فقولنا: العالم، نعني به ذلك الجسم مع الفلك جميعاً، فمن أين خارج العالم شيء آخر.

فصل في

معنى قول الحكماء هل العالم قديم أومحدث

فإن كان المراد بالقديم أنه قد أتى عليه زمان طويل، فالقول صحيح؛ وإن كان المراد به أنه لم يزل ثابت العين على ما هوعله الآن، فلا؛ لأن العالم ليس بثابت العين على حالة واحدة طرفة عين، فضلاً عن أن يكون لم يزل على ما هوعليه الآن، وذلك أن قول الحكماء في تسميتهم العالم إنما يعنون به عالم الأجسام، وهونوعان: فلكي وطبيعي. فأما الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، فهي نوعان: الأركان الكليات والمولدات الجزئيات. فالمولدات دائماً في الكون والفساد، وأما الأركان الكليات فهي دائماً في التغير والاستحالة، لا يخفى هذا على الناظرين في الأمور الطبيعية. وأما الأجسام الفلكية فهي دائماً في الحركة والنقلة والتبدل في المحاذيات، فأين ثباتها على حالة واحدة، وأما أن يكون يراد بالثبات الصورة والشكل الكري الذي هوعليه في دائم الأوقات، فليعلم بأن الشكل الكري والحركة الدورية ليسا للجسم من حيث هوجسم، ولا مقومين لذاته، بل هما صورتان متممتان بقصد قاصد كما بينا في رسالة الهيولى والصورة. وكل صورة من الصور بقصد قاصد، لا يكون ثابتة العين، أبدية الوجود، وإنما يكون الشيء ثابت العين، أبدي الوجود بالصورة المقومة.
وأعلم يا أخي بأن الحافظ للعالم على هذه الصورة، هو سرعة حركة الفلك المحيط، والمحرك للفلك هو غير الفلك، وأن تسكين الفلك عن الحركة بطلان العالم، وإنما يكون طرفة عين كما قال- عز وجل-:" وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أوهو أقرب".
وأعلم بأنه إن وقف الفلك عن الدوران، وقفت الكواكب عن مسيرها، والبروج عن طلوعها وغروبها، وعند ذلك تبطل صورة العالم وقوامه، وتقوم القيامة الكبرى، وهذا لا محالة كائن، لأن كل شيء في الإمكان، إذا فرض له زمان بلا نهاية، فلا بد أن يخرج إلى الفعل؛ ووقوف الفلك عن الدوران من الممكن، لأن الذي يحركه يمكنه أن يسكنه، وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. وقد بينا في رسالة المبادئ ما العلة في حدوث عالم الأجسام، وفي رسالة البعث والقيامة ما علة فناء عالم الأجسام.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #153
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أن

الإنسان إذا ارتقى نفساً صار ملكاً

وأعلم يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها، مثل ما سلك به في خلق جسده وصورة بدنه، فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة، ويقرب من باريه- عز وجل- ويجازى بأحسن الجزاء، مما يقصر الوصف عنه، كما وصف الله- عز وجل - فقال:" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون". وأما ما سلك به في خلقه فهو أنه ابتدئ من نطفة من ماء مهين، ثم كان علقة؛ جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة؛ ثم كان جنيناً مصوراً تاماً، ثم كان طفلاً متحركاً حساساً، ثم كان صبياً ذكياً فهماً، ثم كان شاباً متصرفاً قوياً نشيطاً، ثم كان كهلاً مجرباً عالماً عارفاً، ثم كان شيخاً حكيماً فيلسوفاً ربانياً، ثم بعد الموت تكون نفسه ملكاً سماوياً روحانياً أبدي الوجود، ملتذاً مسروراً فرحاً باقياً سرمداً أبداً.
وأعلم يا أخي بأنك لم تنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلع عنك أعراض وأوصاف ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف، فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف، إلا وتخلع عن نفسك أخلاقاً وعادات وآراء ومذاهب وأعمالاً، مما كنت معتاداً لها منذ الصبى من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية، وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السموات وسعة عالم الأفلاك، وتجازى هناك بأحسن الجزاء وأوفر الثواب، وتعيش بألذ عيش مع أبناء جنسك الذين سبقوك إليها من الحكماء والأخيار المؤمنين الأبرار، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وأعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبى، كما هو مجبول على استعمال الحواس بلا فكر ولا روية كما بينا قبل، ولكن قوانين القياسات مختلفة، كما قد تبين في كتب المنطق وشرائط الجدل بشرح طويل، ولكن نذكر منها طرفاً ليكون مثالاً على سائرها. فمن ذلك أن الصبيان يجعلون قوانين القياسات مختلفة، كما يجعلون قياساتهم أحوال أنفسهم وآبائهم وإخوانهم، وتصرفهم في الأمور، وما يجدون في منازلهم من الأشياء، أصولاً على سائر أحوال الصبيان وتصرف آبائهم، وما يكون في منازلهم، وإن لم يروهم ولم يشاهدوا أحوالهم، قياساً على ما عرفوا من أحوال أنفسهم. وأما العقلاء البالغون من الناس فإنهم جعلون قوانين قياساتهم ما عرفوه من الأمور، في متصرفاتهم وما قد جربوه من الأحوال، أصولاً يقيسون بها سائر الأشياء مما لم يشاهدوه ولا جربوه، بل قياساً إلى ما عرفوه حسب. وأما العلماء الذين يتعاطون الجدل ودقيق النظر، فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم ما قد اتفقوا عليه هم وخصماؤهم، أصولاً ومقدمات يقيسون عليها ما هم فيه مختلفون، سواء كان ما اتفقوا عليه حقاً أوباطلاً، صواباً أوخطأً، وأما المرتاضون بالبراهين الهندسية أوالمنطقية فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم الأشياء، التي هي في أوائل العقول، أصولاً ومقدمات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى ليست بمحسوسات ولا معلومات بأوائل العقول، بل مكتسبة بالبراهين الضرورية، ثم يجعلون تلك المعلومات المكتسبة مقدمات وقياسات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى هي ألطف وأدق مما قبلها؛ وهكذا يفعلون دائماً طول أعمارهم. ولوعاش الإنسان عمر الدنيا لكان له في تلك متسع.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #154
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أن الحيوانات تتفاوت في الحواس

ومعلوماتها

وأعلم يا أخي بأن كل حيوان كان أكثر حواس فإنه يكون أكثر محسوسات، فأما الإنسان فله هذه الخمس بكمالها، ولكن كل من كان من الناس أكثر تأملاً لمحسوساته، وأكثر اعتباراً لأحوالها، كانت المعلومات التي في أولية العقل في نفسه أكثر. ومن كان بهذا الوصف وجعل هذه المعلومات الأولية مقدمات وقياسات، واستخرج نتائجها، كانت المعلومات البرهانية في نفسه أكثر. وكل من كان أكثر معلومات حقيقة، كان بالملائكة أشبه وإلى ربه أقرب.

فصل في المعلومات البرهانية

والأمور الروحية

وأعلم يا أخي بأن الإنسان العاقل اللبيب إذا أكثر التأمل والنظر إلى الأمور المحسوسة، واعتبر أحوالها بفكرته، وميزها برويته، كثرت المعلومات العقلية في نفسه. وإذا استعمل هذه المعلومات بالقياسات، واستخرج نتائجها، كثرت المعلومات البرهانية في نفسه. وكل نفس كثرت معلوماتها البرهانية، كانت قوتها على تصور الأمور الروحانية التي هي صورة مجردة عن الهيولى بحسب ذلك، وعند ذلك تشبهت بها وصارت مثلها بالقوة. فإذا فارقت الجسد عند الممات صارت مثلها بالفعل، واستقلت بذاتها، ونجت من جهنم عالم الكون والفساد، وفازت بالدخول إلى الجنة عالم الأرواح التي هي دار الحيوان، لوكانوا يعلمون أبناء الدنيا الذين يريدون الحياة الدنيا، ويتمنون الخلود فيها:" يود أحدهم لويعمر ألف سنة، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر." فأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، بل كن من أبناء الآخرة وأولياء الله الذين مدحهم بقوله تعالى توبيخاً لمن زعم أنه منهم فقال- جل جلاله-:" قل: يا أيها الذين هادوا؛ إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين." فبادر يا أخي واجتهد في طلب المعارف الربانية واكتساب الأخلاق الملكية، وسارع إلى الخيرات من الأعمال الزكية قبل فناء العمر وتقارب الأجل، واغتنم خمساً قبل خمس، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اغتنم فراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وتزود فإن خير الزاد التقوى، فلعلك توفق للصعود إلى ملكوت السماء وسعة الأفلاك، وتدخل إلى الجنة عالم الأرواح بنفسك الزكية الروحانية. لا بجسدك الجثة الجرمانية، وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه رؤوف بالعباد.
تمت الرسالة بعون الله سبحانه وتعالى، والحمد لله وحده، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً، وبها تم القسم الأول في الرياضيات من كتاب" إخوان الصفا وخلان الوفا" ويتلوه القسم الثاني في الطبيعيات الجسمانية، أوله رسالة الهيولى والصورة.
\/رسائل الجسمانيات والطبيعيات
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #155
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


الرسالة الاولى في بيان الهَيُولى والصورة والحركة

والزمان والمكان

وما فيها من المعاني إِذا أُضيف بعضها إِلى بعض وهي الرسالة الخامسة عشرة من رسائل إِخوان الصفاء بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، آللهُ خيرٌ أَمّا يُشرِ كون؟ اعلم أَيها الأَخ، أَيدك الله وإِيانا بروحٍ منه، أَنَّا قد فرغنا من الرسائل الرياضية بجُملتها حسب ما وعدنا في صَدر الكتاب، واستوفينا الكلام في ذلك حسب ما يليق بنا؛ فعلينا أن نشتغل بذكر القسم الثاني وهوفي "الجسمانيات الطبيعيّات" فلنبدأ بالرسالة الأوُلى منها في "الهَيُولى الصورة" فنقول: لما كان النظر في علم الطبيعيات جُزءاً من أَجزاء صِناعة إخواننا، أيّدهم الله، والأصلُ في هذا العلم هومعرفة خمسة أشياء، وهي الهَيُولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من معاني إذا أُضيف بعضها إلى بعض، احتَجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرَفَاً من معاني الهَيُولى والصورة، شِبهَ المدخل والمقدمات، ليكون أقربَ من فَهم المبتدئين عند النظر في الطبيعيات، وأسهلَ على تعليمهم، فنقول: اعلم، وفَّقك الله، ان معنى قول الحكماء: "الهيولى" إنما يَعنون به كلّ جوهر قابلٍ للصورة، وقولُهم "الصورة: يَعنون به كل شكلٍ ونقشٍ يَقبَله الجوهر.
واعلم ان اختلاف الموجودات إنما هوبالصورة لا بالهيولى، وذلك أنا نجد أشياءَ كثيرةً جوهرها واحدٌ، وصُورُها مختلفة، مثالُ ذلك السكين والسيف والفأس والمنشار وكلُّ ما يُعمَل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجل اختلاف صورها، لا من أجل اختلاف جواهرها، لأن كلّها بالحديد واحدٌ. وكذلك الباب والكرسيُّ والسرير والسفينة وكلُّ ما يُعمَل من الخشب، فإن اختلاف اسمائها إنما هوبحسب اختلاف صورها، فأما هَيُولاها التي هي من الخشب فواحدةٌ. وعلى هذا المثال يُعتبر حال الهَيُولى والصورة في المصنوعات كلها، لأن كل مصنوع لا بُدّ له من هيولى وصورة يُركّب منهما.
واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع، منها هَيُولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكُلّ، والهيولى الأولى. فهيولى الصناعة هي كلُّ جسم يَعمَلُ منه وفيه الصانع صَنعَته، كالخشب للنجارين، والحديد للحدّادين، والتراب والماع للبنائين، والغَزلِ للحاكة، والدقيق للخبّازين، وعلى هذا القياس كلُّ صانع لا بُدَّ له من جسم يَعمَل صَنعَته منه وفيه، فذلك الجسمُ هوهيولى الصِّناعة. أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها فهي الصورة، فهذا هومعنى الهيولى الطبيعية فهي الأركانُ الأربعة، وذلك أن كلَّ ما تحت فلك القمر من الكائنات أعني النباتَ والحيوانَ والمعادن، فمنها تتكوّنُ وإليها تستحيل عند الفساد. أما الطبيعة الفاعِلةُ لهذا فهي قوةٌ من قُوى النفس الكُلّيّة الفلكية، وقد بيّنّا كيفيّة فِعلهافي هذه الهَيُولى في رسالة أُخرى. وأما هيولى الكلّ فهي الجسم المُطلَق الذي منه جُملةُ العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع، لأنها كلّها أجسام وإنما اختلافُها من أجل صُورها المختلفة. وأما الهيولى الأولى فهي جوهرٌ بسيط معقول لا يُدركه الحسُّ، وذلك أنه صورةُ الوجود حَسْبُ، وهو الهُوِيَّةُ. ولما قَبِلت الهوية الكميّة صارت بذلك جسماً مُطلقاً مشاراً اليه أنه ذوثلاثة أبعادٍ التي هي الطول والعَرض والعُمق، ولما قَبِلَ الجسمُ الكيفيّة وهي الشكل، كالتداوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال، صار بذلك جسماً مخصوصاً مُشاراً إليه، أيُّ شكلٍ هو؛ فالكيفية هي كالثلاثة، والكيفية هي كالاثنين، والهُوية كالواحد، وكما أن الثلاثة متأخرةُ الوجود عن الكميّة؛ وكما أن الاثنين متأخرة عن الواحد، كذلك الكميّة متأخرة الوجود عن الهُوية؛ والهُوية هي مُتقدمة الوجود عن الكميّةِ والكيفيةِ وغيرهما، كتقدم الواحد على الاثنين والثلاثة وجميع العدد.
ثم اعلم أن الهُوية والكمية والكيفية كلُّها صورٌ بسيطة معقولة غيرُ محسوسة، فإذا تُركت بعضُها على بعض صار بعضها كالهيولى، وبعضُها كالصورة، فالكيفيةُ هي صورةٌ في الكمية والكمية هيولى لها؛ والكمية هي صورةٌ في الهوية والهوية هيولى لها، والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورةٌ في الثوب، والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغَزل، والغزل هيولى له، والغزل صورةٌ في القطنِ، والقطن هيولى له، والقطن صورةٌ في النبات، والنبات هيولى له، والنبات صورةٌ في الأركان وهي هيولى له، والأركان صورةٌ في الجسم، والجسم هيولى لها، والجسمَ صورةٌ في الجوهر، والجوهر هيولى له، وكذلك الخبزُ صورةٌ في العجين، والعجينُ هيولى له، والعجين صورةٌ في الدقيق، والدقيقُ هيولى له، والدقيق صورةٌ في الحَبِّ، والحبُّ هيولى له، والحبُّ صورة في النبات، والنباتُ هيولى له؛ والنباتُ صورة في الأركان، وهي هيولى له، وهي صورة في الجسم، والجسمُ هيولى لها؛ والجسمُ صورةٌ في الجوهر، والجوهرُ هيولى له.
وعلى هذا المثال يُعتَبرُ حال الصورة عند الهيولى، وحالُ الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلُّها إلى الهيولة الأولى التي هي صورة الوجود حَسْبُ، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهرٌ بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابلٌ للصور كلِّها ولكن على الترتيب كما بيّنا لا أيَّ صورةٍ كانت، تأخرت أوتقدمت، بل الأول فالأول؛ مثال ذلك أن القطن لا يَقبلُ صورةُ الثوب إلا بعد قَبوله صورةَ الغَزَل، والغزلَ لا يَقبَلُ صورة القميص إلا بعد قَبوله صورة الثوب. وكذلك الحَبُّ لا يقبلُ صورة العجين إلا بعد قَبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبَلُ صورة الخبز إلا بعد قَبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قَبول الهيولى للصوَر واحدةً بعد أُخرى.
ثم اعلم أن الأجسام كلّها جنسٌ واحد من جوهرٍ واحدٍ وهيولى واحدةٍ، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورِها، ومن أجلها صار بعضُها أصفى من بعض وأشرف، وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالَمَ الأركان بَعضها أشرف من بعضٍ، وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطفُ منه، والماءَ أصفى من التراب وأشرفُ منه، وكلّها أجسامٌ طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض؛ وذلك أن النار إذا أُطفئِت صارت هواء، والهواءَ إذا غَلظ صار ماء، والماءَ إذا غَلظ وجَمُدَ صار أرضاً، وليس للنار أن تَلطُف، أوللأرض أن تغلظَ فتصير شيئاً آخر، بل إذا تكوّنت أجزاؤها يكون منها المولِّدات، أعني المعادِنَ والنباتَ الحيوانَ، لكن يكون بعضها أشرَف تركيباً من بعضٍ، وذلك أن الياقوت أصفى من البِلَّور وأشرفُ منه، وأن البِلّور أصفى من الزُّجاج وأشرف منه، والزُّجاج أصفى من الخزف وأشرف منه، وكذلك الذَّهبُ أشرفُ من الفضة وأصفى منها، والفضةُ أصفى من النُّحَاس وأشرف منه، والنحاسُ أصفى من الحديد وأشرف منه، والحديد أشرف من الأُسرُبِ، وكلها أحجارٌ معدنية أصلُها كلها الزِّئبَقُ والكِبريت؛ والزِّئبَقُ والكِبريت أصلُهما التُّراب والماء والهواء والنار، فهَيولاها واحد، وصورها مختلفة، وصفاؤها وشرَفها بحسب تركيبها واختلاف صورِها، وكذلك حُكم الحيوان والنبات، فإنها بالهيولى واحدٌ، وإن اختلافها وشرف بعضِها على بعض بحسبِ اختلاف صُورِها.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #156
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في الأجسام الجزئية

اعلم أن الأجسام الجزئية منها ما يَقبل صورةَ الكُلّي إذا صوِّرَ فيه، فيَصيرُ بقَبوله تلك الصورة أفضل وأشرف من سائر الأجسام الجُزئية السَّاذجة، والمثالُ في ذلك قِطعةٌ من النُّحاس إذا صُوِّر فيها الفلك، مثلُ الأصطَرلابِ وذاتِ الحلَق والكُرَةِ المصوَّرة، فإنها عند ذلك تكون أشرف وأفضل وأحسن من أن تكون ساذجةً، وكذلك كلُّ جسم قَبِلَ صورةً ما، فإنه عند ذلك يكون أفضلَ وأشرف وأحسن من كونِه ساذجاً، فهكذا الحُكمُ في جواهر النفوس، وذلك أنها كلَّها جنسٌ واحد وجوهرٌ واحد، وأن اختلافها بحسَبِ معارفها وأخلاقها وآرائها وأعمالها، لأن هذه الحالات هي صوَرٌ في جواهرها وهي كالهيولى، وكذلك النفسُ الجُزئيّة إذا قَبِلت عِلماً من العلوم تكون أفضلَ وأشرف من سائر النفوس التي هي أبناء جنسها.
ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصوَّرتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهرُ النفس لصوَر تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصوّر بصورة النفس الكُليّة، ومنها ما يقاربها وذلك بحسب قَبولها ما يَفيض عليها من العلوم والمعارف الأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولاً كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثلَ نفوس الأنبياء، عليهم السلام، فإنها لما قَبِلت بصفاء جوهرها الفيضَ من النفس الكلّية أَتت بالكتب الإلهية التي فيها عجائب العلوم الخفيّة، والمعاني اللطيفة، والأسرار المكنونة التي لا يَمَسُّها إلاَّ المُطَّهرون من أدناس الطبيعة، وما وضَعَت من الشرائع العلمية النافعة للكلّ، والسُّنن العادلة الزكيّة، فاستنقذوا بها نفوساً كثيرةً غريقةً في بحر الهيولى، وأسرِ الطبيعة؛ ومثلَ نفوس المُحقِّقين من الحكماء التي استنبطت علوماً كثيرة حقيقية، واستخرجت صنائعَ بديعةً، وبنًتْ هياكلً حكيمةً، ونَصَبتْ طِلّسماتٍ عجيبةً؛ ومثل نفوس الكهنة والمُخبِّرة بالكائنات قبل كونها بدلائلَ فلكيةٍ وعلاماتٍ زَجْرية، وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: الفلسفةُ هي التشبيه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، وإليها أشاروا بقولهم: من خاصيّةِ العقل المنفعل أن يقبل الجزءُ منه صورة الكُلّ؛ وإليها أشار القائل بقوله: كلُّ الهياكل صورةٌ مذمومةٌ،إلاّ التي في صورة الأفلاكِوأتمُّها بين الـذواتِ لأنـهـاقَبِلتْ تماماً صورة الإدراككم بين نفسٍ شامخٍ في ذِروةٍ،أوما يكونُ حِجارة الحَكّـاكِوإليها أشار القائل بقوله: وما كان إلاّ كوكباً كان بـينـنـافودَّعنا، جادتْ معاهِـدَه رُهْـموأصبحَ روحاً لم يُقيِّدْه مَـنـزِلٌ،وأضحى بسيطاً ليس يُدرِكه وَهم رأَى المَسكَن العُلْويَّ أَولى بمثلِه،ففاز، وأَضحى بين أَشكاله نَجْمُواعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضةً على الأنفس الجزئية دُفعةً واحدة،مبذولة لها دائمَ الأوقات؛ لكنّ لأنفسّ الجزئية لا تُطيق قبولها إلاّ شيئاً بعد شيء في مَمرِّ الزمان، والمثالُ في ذلك فيضُ الأنفس الجزئية بعضِها على بعض، وذلك أن الأب الشفيقَ والمعلِّم الحريص على تعليم تلميذه، يوَدُّ أن يَعلَمَ كلَّ ما يُحسنه، ويُعلِّمهُ لتلميذه دُفعة واحدة، ولكنّ نفس المتعلم لا تقبل إلاّ شيئاً بعد الشيء على التدريج.
ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعةً واحدة هولأجل استغراقها في بحر الهيولى وتراكم ظُلُمات الأجسام على بصرها، لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية، وغرُرها باللذات الجِرْمانية، فمتى انتَبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رِقدة الجهالة، وصحَتْ من سَكرة عَمايتها، وأفاقت من غَمرة غَشْيتِها، وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال، لحقَت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهيّة، ونالت تلك الملاذَّ الروحانية والسُّروراتِ الدَّيموميّةَ الأبديّةَ، التي كلُّها أشرف وأعلى منزلةً مما كان، فوق ما تقدَّم قبله، ودون ما يأتي بعده. ومتى هي أعرضت عمّا وصفنا، وأقبلتْ على طلب الشهوات الجسمانيَّة والزينة الطبيعيّة، بَعُدت من هناك وانحطّتْ إلى أسفل السافلين، وغرِقت في بحر الهيولى، وغشيتْها أمواجُها، وتراكمت على بصرها ظلُماتها، وإلى هاتين الحالتين أشار، عزَّ اسمه، بقوله تعالى: "الله نورُ السموات والأرض، مثلُ نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، المصباحُ في زجاجةٍ، الزجاجةُ كأنها كوكبٌ دُرّيٌّ" الآية. ثم قال تعالى: "أوكظُلُمات في بحرٍ لُجّيّ يَغشاه موجٌ من فوقه موج، من فوقِه سَحابٌ، ظلمات بعضها فوق بعض" الآية.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #157
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أقاويل الحكماء في ماهيّة المكان

أما المكان عند الجُمهور فهوالوعاء الذي يكون فيه المتمكِّن، فيقال: إن الماء مكانه الكوزُ الذي هوفيه، وإن الخلَّ مكانه الزِّقُّ الذي هوفيه، وعلى هذا القياس مكانُ كلِّ شيء هوالوِعاء الذي هوفيه، وكما يقال إن مكان السمك هوالماء، ومكان الطير هوالهواء؛ وبالجملة مكان كل متمكِّن هوالجسمُ المحيطُ به. وقيل أيضاً إن المكان هوسطحُ الجسم الحاوي الذي يلي المَحويَّ، وقيل لا بل المكان هوسطحُ الجسم المَحوِيِّ الذي يلي الحاوي، وعلى كِلا الرأْيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهراً. وقيل إن المكان هوالفصلُ المشتركُ بين سطح الجسم الحاوي وسطح المَحْوِيّ، وعلى هذا الرأْي يجب أن يكون المكان عَرَضاً. وقيل أيضاً إن المكان هوالفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهباً طولاً وعرضاً وعمقاً، وإن كان كلُّ جسم مثله سَواء، فإن كان الجسم مدوَّر الشكل أومربّعاً أومثلثَّاً رأوغيرهما من الأشكال، فأن مكانه مِثله سَواء لا أصغرُ ولا أكبرُ، حتى قيل في المثَل إن المكان مكيال الجسم، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهراً.
واعلم أن الذين قالوا إن المكان هوالفضاء، إنما نظروا إلى صورة الجسم، ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية، وصوَّروها في نفوسهم، وسمّوها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سمَّوها المكان، وهذا يدلّ على قلّة معرفتهم أيضاً بجوهر النفس وكيفيّة معارفها ومعانيها.
واعلم أن من شرف جوهر النفس، وعجائب قُواها، وظرائف معارفها، أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصوّرها في ذاتها، وتنظر إليها خِلواً من الهيولى، وتفرُق بين الهيولى والصورة. وانظر إلى كل واحد منهما تارةً مفردة، وتارةً مركبَّة. وإن من شدة قوّتها الوهميَّة أنها تارة تنظر إلى العالم وكأنها خارجة منه، وتارة تنظر إليه وكأنها داخلة فيه، وربما ترفعُ العالَمَ من الوجود أصلاً، وربما تقدّمت الزمانَ الماضي ونظرت إلى بدء كون العالَمِ،وبحثتْ عن علَّة كونه بعد أن لم يكن شيئاً. وربما سبقت الزمانَ المستقبل، ونظرت إلى فناء العالم قبلَ حِينه، وتصوَّرْ كيف يكون ذلك. وإن من شدَّة قوتها أيضاً إنها تضاعف العدد إلى ما لا نهاية له، وتُجري المقادير إلى ما لا نهاية لها، وتتوهّم أيضاً أن خارج العالم فضاءٌ إلى ما لا نهاية له، وما يشاكل هذا من أفعالها العجيبة، وما يتصوّر بقوَّتها الوهمية، فمن ظن أن الفضاء هوجوهر قائم بنفسه، وأن خارج العالم فضاءٌ لا نهاية له، وأن المدَّة جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزّأ أبداً، وما شاكل هذه المسائل، فكلُّ هذه الأقاويل قالوها لقلّة مَعرِفتهم بجوهر النفس وعجائب قُواها وكيفيَّة تصرُّفِها في المعارف والعلوم.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #158
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أقاويل الحكماء في ماهيّة الحركة

الحركة يقال على ستة أوجُهٍ: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغيّر والنُّقلة. فالكون هوخروج الشيء من العدم إلى الوجود، أومن القوَّة إلى الفعل، والفساد عكس ذلك. والزيادة هي تباعُد نهايات الجسم عن مركزه، والنُّقصان عكس ذلك. والتغيّر هوتبدُّل الصفات على الموصوف من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات. وأما الحركة التي تسمَّى النُّقْلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى آخر، وقد يُقال إن النُّقلة هي الكونُ في محاذاة ناحيةٍ أُخرى في زمان ثان، وكلا القولين يصحّ في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة؛ فأما التي على الاستدارة فلا يصحّ، لأن المتحرّك على الاستدارة ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصيرُ في محاذاةٍ أُخرى في زمان ثان، فإن قيل إن المتحرِّك على الاستدارة أجزاؤها كلُّها تتبدل أماكِنُها وتصيرُ في محاذاةٍ أُخرى في زمانٍ ثان إلاّ الجُزء الذي هوساكنٌ في المركز فإنه ساكن فيه لا يتحرك. فليًعلمْ من يقول هذا القول ويظن هذا الظن أويُقدِّر أن هذا الرأي صحيح، أن المركز إنما هونُقطة متوهَّمة وهي رأس الخط، ورأس الخط لا يكون مكان الجُزء من الجسم. وليعلمْ أيضاً أن المتحرِّك على الاستدارة بجميع أجزائه متحرِّكٌ، وهولا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصير مُحاذياً بشيءٍ آخر في زمان ثان. فأما الحركة على الاستقامة فلا يمكن الا بالانتقال من مكان إلى مكان والمرور بمُحاذيات في زمان ثان، فإذا قيل إنه يمكن ذلك فإن الإنسان مثلاً قد يُحرّك يده أوبعض أجزائه، وهولا ينتقل من مكان إلى مكان، فماذا ترى كيف يكون حال اليد، هل يجوز أن تتحرَّك ولا تخرج من مكان إلى مكان، وكذلك حُكم الأُصبُع هل يجوز أن يتحرَّك ولا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يمر بمُحاذاة أُخرى في زمان ثان؟ واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحرَّكت تلك الجملة، ومتى تحرَّكت تلك الجملة فقد تحرَّكت تلك الأجزاء، لأن تلك الأجزاء ليست غيرَ تلك الجملة. وذلك أنه إذا تحرَّك الإنسان فقد تحرَّكت أعضائه؛ وإذا تحرَّكت أعضاؤه فقد تحرَّك هو؛ وإن تحرَّكت يدُه وحدَها فقد تحرَّكت أجزاء اليد كلُّها، أن اليد ليست شيئاً غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرَّك أُصبُع واحد فقد تحرَّكت أجزاء الأصبع كلُّها، لأن الأُصبع ليست غيرَ تلك الأجزاء، فمن ظنَّ أنه يجوز أن تتحرَّك الأجزاء ولا تتحرَّك الجُملة، أوتتحرَّك الجُملة ولا تتحرَّك بعضُ الأجزاء فقد أخطأ.
واعلم أنه قد ظنَّ كثير من أهل العلم أن المتحرِّك على الاستقامة يتحرَّك حركات كثيرةً، لأنه في حركته بمُحاذَياتٍ كثيرةٍ في حال حركته، ولا ينبغي أن تُعتبر كثرةُ الحركات لكثرة المحاذَيات، فأن السهم في مرورها إلى أن يقع حركةً واحدةً يمرُّ بمُحاذَياتٍ كثيرة، وكذلك المتحرِّك على الاستدلرة فحركتُه واحدةٌ إلى أن يقف وإن كان يدور أدواراً كثيرة.
ثم اعلم أنه لا تنفصلُ حركةٌ عن حركةٍ إلاّ بسكونٍ بينهما، وهذا يعرفه ولا يشُكّ فيه أهلُ صِناعة الموسيقى، وذلك أن صِناعتهم معرفةُ تأليف النَّغَم، والنَّغَمُ لا يكون إلاّ بالأصوات، والأصواتُ لا تحدُث إلا من تَصادم الأجسام؛ وتصادُم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضُها عن بعضٍ إلا بسكوناتٍ تكون بينها، فمن أجل هذا قال الذين نظروا في تأليف النَّغم إن بين زمان كلّ نقرتَين زمانَ سكونٍ، وقد بيَّنا طرفاً من هذا العلم في رسالتنا في تأليف اللُّحون: ما هي، وكم هي، وكيف هي، فاعرِفْها من هناك.
واعلم أنه ينبغي لمن ينظر في حقائق الأشياء، ويبحث عن ماهيّاتها، أن يبتدئ أولاً وينظرَ ويبحث هل الشيء جوهرٌ، أوعَرَضٌ، أوهَيولى، أوصورةٌ جسمانية، أوروحانية، فأن كان جوهراً فأي جوهرٍ هو؟ وإن كان عرضاً، فأيُّ عَرضٍ هو؟ وإن كان هَيولى، فأي هَيولى هو؟ وإن كان صورةً، فأي صورةٍ هي وكيف هي؟ واعلم أن الحركة في بعض الأجسام جوهرية كحركة النار، فإنها متى سكنت حركتُها طَفِئتْ وبطَلت وبطَل وجودها؛ وفي بعض الأجسام عرضيةٌ لها حركة كحركة الماء والهواء والأرض، لأنها ان سكنت حركتها لا يبطُل وِجدانُها.
واعلم أن الحركة هي صورةٌ جعلتها النفسُ في الجسم بعد الشكل، وأن السكون هوعَدمُ تلك الصورة؛ والسكون بالجسم أَولى من الحركة، لأن الجسم ذوجهاتٍ لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعةً واحدةً، وليست حركتُه إلى جهة أولى به من جهة، فالسكونُ به إذاً أولى من الحركة.
واعلم أن الحركة، وإن كانت صورةً، فهي صورةٌ روحانية مُتمِّمة تسري في جميع أجزاء الجسم، وتنسلُّ عنه بلا زمان كما يسري الضوء في جميع أجزاء الجسم الشفَّاف وينسلُّ عنه بلا زمان، فإنك ترى السراج إذا دخل البيتَ أضاءَ البيتُ من أوله إلى آخره دفعةً واحدةً، وإذا خرج أظلمَ الهواء في البيت دفعةً واحدةً بلا زمان؛ وكذلك الشمسُ إذا طلَعت بالمشرق أضاء الهواءُ من المشرق إلى المغرب دفعةً واحدة، فإذا غابت بالمغرب أظلم الهواءُ دفعةً واحدة، فالحرارةُ إذا بدت تدبُّ، أولاً فأولاً يحمى الجوبزمان، وكذلك إذا طلعت الشمسُ، يحمى الجوأولاً فأولاً بزمان، وكذلك إذا غابت الشمس بَرَد الهواءُ أولاً فأولاً بزمان.
واعلم أن الحركة حُكمُها كحكم الضوء، وذلك لوأن خشبةً طولها من المشرق إلى المغرب نُصِبت ثم جُذبت إلى المشرق أوإلى المغرب عقداً واحداً، لتحركت جميعُ أجزائها دُفعةً واحدة.
واعلم أن بعض أفعال النفس في الجسم بزمانٍ، وبعضَ أفعالها بلا زمان، دلالةٌ على أن جوهرها فوق الزمان، لأن الزمان مقرونٌ بحركة الجسم، والجسم مفعول النفس، وأن النفس لما جعلت الجسمَ الكلِّيّ كُرِيَّ الشكل الذي هوأفضلُ الأشكال، جعلتْ حركته أيضاً الحركة المستديرة التي هي أفضلُ الحركات.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #159
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في ماهية الزمان من أقاويل العلماء.

أما الزمان عند جمهور الناس فهومرور السنين والشهور والأيام والساعات، وقد قيل إن عدد حركات الفلك بالتكرُّر، وقد قيل إنه مدّة يعدُّها حركات الفلك، وقد يظُنّ كثير من الناس أن الزمان ليس بموجودٍ أصلاً إذا اعتُبرَ بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السِّنون، والسِّنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلاّ شهراً واحداً، وهذا الشهر منه أيامٌ لم تجئ بَعدُ، وليس الموجود منها إلا يوماً واحداً، وهذا اليوم ساعات منها ما قد مضت ومنها ما لم تجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلا ساعةً واحدةً، وهذه الساعة أجزاءٌ منها ما قد مضى وآخَرُ ما جاء بعد، فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجودٌ أصلاً.
فأما الوجه الآخر إذا اعتُبرَ فالزمانُ موجودٌ أبداً، وذلك أن الزمان كلِّه يومٌ وليلة، أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائماً. بيان ذلك أنه إذا كان نصفُ النهار في يوم الأحد مثلاً في البلد الذي طوله تسعين درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودةٌ في البلدان التي طولها من درجة إلى خمسَ عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ستّ عشرة درجةً إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودةٌ في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمسٍ وأربعين درجة، والساعة الرابعة في البلدان التي طولها من ستّ وأربعين درجة إلى ستين درجة، والساعة الخامسة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وستين درجة إلى خمس وسبعين درجةً، والساعة السادسة موجودة في البلدان التي طولها من ستٍّ وسبعين درجة إلى سبعين درجة، والساعة السابعة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وتسعين درجةً إلى مئةٍ وخمس درجات، والساعة الثامنة موجودة في البلدان التي طولها مائة وست درجات إلى تمام مائةٍ وعشرين درجة، والساعة التاسعة موجودة في البلدان التي طولها مائةٌ وخمس وثلاثون درجة، والساعة العاشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائةٍ وخمسٍ وستين درجة، والساعة الثانية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة.
وفي مُقابلةِ كلّ بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها، ولكل موضع من الأرض أقدارٌ مختلفة من الليل والنهار، والشمس تضيء في نصف الأرض أبداً حيث كانت، ويسترُ قُطر الأرض عن نصفها الآخر الذي كان أشرق على نصفها الذي يلي الشمس، فيكون ما طلعت عليه الشمس، نهاراً، وما سترتْ بقُطرِها عن نصفها من ضوء الشمس، ليلاً. وكلما دار النهار دار الليل معه، كلُّ واحدٍ منهما ضدُّ صاحبه، وكلما زال أحدهما زال الآخر ومعه، فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض، ثم يسيران على مسيرة الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل. فإن شكَكتَ فيما قلنا، فاسأل أهل الصِّناعة الناظرين في علم المَجِسطي يُخبروك بصِحة ما قلناه، فإنه قد قيل: استَعينوا على كلِّ صناعة بأهلها.
ثم اعلم أن من كُرور الليل والنهار حولَ الأرض دائماً يحصُلُ في نفس من يتأمَّلُها صورةُ الزمان كلُّها، يحصُلُ فيها صورةُ العدد من تكرار الواحد: وذلك أن العدد كلَّه أفرادَه وأزواجه، صحيحَه وكسُرَه، آحادَه وعشراته ومئاته وألوفه، ليست بشيءٍ غيرَ جُملة الآحاد تحصل في نفس من يتأمّلها كما بيّنا في رسالة العدد، وهكذا الزمانُ ليس هوبشيءٍ سوى جُملة السنين والشهور والأيام والساعات، تحصُل صورتها في نفس من يتأمّل تكرار كُرور الليل والنهار حولَ الأرض دائماً، فهذه الخمسةُ الأشياء التي أتينا على شرحها، وهي الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة، محتوية على كل جسم، فمن لم يكن مُرتاضاً بالنظر في هذه الأشياء، فلا يسَعهُ النظر في أمور الطبيعة، لأنه لا يمكن له أن يَعرِفها كنهَ معرفتها البتَّة، ولولم يكن مُرتاضاً في الأمور الطبيعية، فلا يسَعُه الكلام في الأمور الإلهية، لأنه لا يمكنه أن يَعرِفها كنهُ معرفتها.
فتفكَّرْ فيما ذكرنا يا أخي في هذه الرسالة من أقاويل العلماء لتفهم ما قالوه، وتصوَّرْ ما وضعوه من معاني هذه الأشياء، فإن كان عندك زيادةٌ عليها أفَدناها، وإن أنكرت شيئاً مما قالوه فبَيِّنْه لنا، وإن اشتبه عليك شيء مما حكيناه، فلا تتَّهمنا بأنَّا قصَّرنا في البيان أوقُلنا ما ليس بالحق.
ثم اعلم أن لكلّ صِناعة أهلاً، ولكل أهلِ علمٍ وصناعةٍ أصولاً، هم فيها متّفقون، وفي فروعها يتكلمون، وعلى تلك الأصول يقيسون فيما يختلفون.
واعلم بأن النظر في الأمور الطبيعيةجزءٌ من صِناعة إخواننا الكرام، أيدهم الله تعالى، والأمور الطبيعيةُ هي الأجسام وما يَعرِض لها من الأعراض اللازمة والمُزايِلة، وقد عَمِلنا في هذه العلوم سبعَ رسائلَ أولاها هذه الرسالةُ التي ذكرنا فيها الهيولى والصورة والحركة والمكان والزمان، إذ كانت هذه الأشياء الخمسة مُحتويةً على كل جسم، وقد ذكرنا في رسالةِ الحاسّ والمحسوس الأشياء العارضة للأجسام بقولٍ وجيزٍ، ثم يتلوهذه الرسالةُ التي ذكرنا فيها السماء والعالَمَ ووصفنا فيها تركيب الأفلاك وكميّتها وسعة أقطارها، وسُرعة دورانها، وعِظَم الكواكب، وفنون حركاتها، وأوصاف البروج وتخصيصَها، ثم يتلوها الرسالةُ التي ذكرنا فيها الكون والفساد وماهيَّة الأركان الأربعة التي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، وصفنا فيها كيفيّة استحالة بعضها إلى بعضٍ، وحدوث الكائنات منها؛ ثم يتلوها الرسالةُ الرابعة التي فيها حوادث الجووالتغييرات التي تحدث في الهواء، ثم يتلوها الرسالة الخامسة التي ذكرنا فيها جواهر المعادن، ووصفنا كيفيَّة تكوُّنها في باطن الأرض وجوفِ الجبال وقعرِ البحار، ثم يتلوها الرسالة السادسة التي ذكرنا فيها أمر النبات، ووصفنا أجناسه وأنواعه وخواصَّه ومنافعه ومضارّه، ثم يتلوها الرسالة السابعةالتي ذكرنا فيها أجناس الحيوانات وأنواعها واختلاف طِباعها بقولٍ وجيز.
وقد عملنا خمس رسائل أُخَر قبل هذه الرسالة في الرياضيات، أُولاها رسالة العدد وخواصِّه وكيفيَّة نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين؛ ثم يتلوها الرسالة الثانية التي ذكرنا فيها أُصول الهندسة وأنواع المقادير وكيفية نشوئها من النُّقطة التي هي في صناعة الهندسة كالواحد في العدد؛ ثم يتلوها الرسالة الثالثة التي ذكرنا فيها النجوم ووصفنا الأفلاك والكواكب، وبيّنا أن نِسبَتها إلى الشمس كنسبة العدد من الواحد، ومنشأ مقادير الهندسة من النقطة؛ ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها النسبة العددية والهندسية والتأليفيّة، وأن منشأها كلِّها من نسبة المساواة كمنشأ العدد من الواحد، وكمنشأ مقادير الهندسة من النقطة؛ ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها المنطق ووصفنا فيها المَقًولات العشرة التي كلُّ واحدٍ منها جنسُ الأجناس، وبيّنا كمية أنواعها وخواصِّها، وأن الواحد منها هوالجوهر، والتسعةَ الباقيةَ هي الأعراضُ، وتعلّقها في وجودها بالجوهر كتعلق العدد بالواحد الذي قبل الاثنين. وقد تكلم في هذه الأشياء من قبلنا من الحكماء الأولين ودوّنوها في الكتب وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن من أجل أنهم طوَّلوا فيها الخُطَب، ونقلوها من لغة إلى لغة، أَغلَقَ على الناظرين في تلك الكتب فَهمُ معانيها، وضاعت في الباحثين معرفةُ حقائقها؛ من أجل هذا عمِلنا هذه الرسائل، وأوجزنا القول فيها شِبهَ المَدخل والمقدَّمات، لكيما يقرُبَ على المتعلمين فَهمُها، ويسهُلَ على المبتدئين النظرُ فيها.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #160
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل واعلم إن كنت محبّاً لأهل العلم

والحكمة

أنك تحتاج أن تسلُكَ طريق أهلها، وهوأن تقتصر من أمور الدنيا على ما لا بدَّ منه، وتترُك الفُضول، وتجعل أكثر هِمَّتكَ وعنايتِك في طلب العلوم، ولقاء أهلها، ومجالستهم بالمذاكرة والبحث، وأن تروضَ نفسَكَ بالسيرة العادلة التي وُصِفت في كتب الأنبياء، عليهم السلام، وبالنظر في هذه العلوم التي تقدَّم ذكرها، وهي التي كانوا يُرُوضُون أولاد الحكماء بها، ويُخرِّجون بها تلاميذتهم، ليقوى فهمُهم على النظر في الأُمور الإلهية التي هي الغرضُ الأقصى في المعارف.
ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصُّوَرُ المجرَّدة من الهيولى، وهي جواهر باقيةً خالدة لايعرِض لها الفسادُ والآفات، كما يَعرِض للأمور الجسمانية، واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصُّوَر، فاجتهد في معرفتها لعلك تُخلِّصُها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأَسر الطبيعة التي وقعنا فيها بجنايةٍ كانت من أبينا آدم، عليه السلام، حين عصى ربّه فأُخرج هووذريَّتُهم من الجنة التي هي عالمُ الأرواح، وقيل لهم: "اهبِطوا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ، ولكم في الأرض مُستقرٌّ ومَتاعٌ إلى حين. فيها تموتون ومنها تُخرجون". فقد قيل في المثَل إن أولَ أُناسٍ، إذا نُفِخَ في الصُّور وشُقَّ عليهم القبور يومَ البَعث والنُّشور، وقيل: "انطلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاث شُعَبٍ"، هوعالم الأجسام ذوالطول والعَرض والعُمق. فاجتهدْ يا أخي في معرفة هذه المرامي والرُّموز التي ظهرت في كتب الأنبياء، عليهم السلام، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف الربَّانية، وتعيش بحياة العلوم الإلهية، وتسلمُ من الآفات الطبيعية.
واعلم أن النفس بمُجرَّدها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحِدثان، لأن هذه كلَّها تَعرِض لها من أجل مُقارنتها للجسد، لأن الجسد جسمٌ قابلٌ للآفات والفساد والاستِحالةِ والتغيّر، فأما النفسُ فإنها جوهرةٌ روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفةُ أنفسهم، لتركهم النَّظَر في علم النفس، والبحثَ عن معرفة جواهرها، والسؤالَ من العلماء العارفين بعلمها؛ ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلبِ خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة، والخروج من ظلمة الأجسام، لشدة ميلهم في الخلود إلى الدنيا، واستغراقهم في الشهوات الجسمانية، والغرور باللذات الحيوانية، والأُنس بالمحسوسات الطبيعية؛ ولغفلتهم عمّا وُصِف في الكتب الإلهية والنواميس الشرعيّة النبويّة من نعيم الجِنان، وما في عالَم الأرواح من الرَّوْح والريحان والنعيم والسرور واللذة والكرامة وبقاء الأبد التي وُعِد المتَّقون: "فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسِنٍ، وأنهارٌ من لَبَنٍ لم يتغيَّر طَعمُه، وأنهار من خمرة لذَّةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسل مُصفى، ولهم فيها من كل الثمراتِ، والنخيل والأعنابِ، تتَّخذون منه سَكَرا ورِزقاً حسناً، إن في ذلك لآياتٍ لقوم يؤمنون".
وإنما قِلَّةُ رغبتهم فيها لقِلَّة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء، عليهم السلام، وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء مما يَقصُر الوصفُ عنه من لطيف المعاني ودقائق الأسرار، فانصرفت هِمَمُ نفوسهم كلُّها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعيهم كلّه لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمَناكِح والمَراكِب، وصيَّروا نفوسهم عبيداً لأجسادهم، وأجسادهم مالكةً لنفوسهم، وسلَّطوا الناسُوت على اللاهوت، والظُّلمةَ والشياطين على النور والملائكة، وصاروا من حِزبِ إبليس وأعداءِ الرحمن.
فهل لك يا أخي بأن تنظرَ لنفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلبَ نجاتها، وتفُكَّ أسرها، وتخلِّصَها من الغرق في بحر الهيولى وأسر الطبيعة وظُلمة الأجسام، وتخفِّف َعنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها عن الترقّي إلى ملكوت السماء، والدخول في زُمَر الملائكة، والسَّيَحان في فُسحة عالَم الأفلاك، والارتفاع في درجات الجِنان، والتَّشمُّم من ذلك الرَّوح والرَّيحان المذكور في القرآن، وأن ترغب في صُحبة أصدقاء لك نُصَحاء، وإخوانٍ لك فضلاء، وادّينَ لك كُرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفُسهم، قد خلعوا أنفسهم من خدمة أبناء الدنيا، وجعلوا عنايتهم وكدّهم في طلب نعيم الآخرة، بأن تسلكَ مَسلكهم، وتقصِدَ مقصِدَهم، وتُخلِص سِرَّك معهم، وتتخلّق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم، لتعرف اعتقادهم، وتنظُرَ في علومهم لتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية، والمعارف الحقيقية، وسِرت بسيرتنا الملكية، وعمِلت بسنَّتِنا الزكية، وتفقَّهت في شريعتنا العقليّة، فلعلَّك تُؤَيَّدُ بروح الحياة، لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء، مخلَّداً مسروراً أبداً، بنفسك الباقية الشريفة الشفَّافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغيّر المستحيل الفاسد الفاني. وفَّقكَ الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا للرشاد، حيث كانوا في البلاد، إنه رؤوفٌ رحيمٌ بالعِباد.
تمت رسالة الهيولى والصورة وتتلوها رسالة السماء والعالم
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #161
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


الرسالة الثانية الموسومة بالسماء والعالم

في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق

وهي الرسالة السادسة عشرة من رسائل إخوان الصفاء بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عِباده الذين اصطفى، آللهُ خيرٌ أمّا يُشركون؟ اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر الجسم المُطلَق، وما يخصّه من الصِّفات المُقوِّمة لذاته من الهيولى والصورة، وما يتبعها من سائر الصفات اللازمة مثل الحركة والسكون وما شاكلهما، أردنا أن نذكر في هذه الرسالة المُلقَّبة بالسماء والعالَم الأجسام الكلّيات البسيطات التي هي الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، إذ كان الجسم المُطلَق أول ما ينقسم إليها، ثم من بعدها الأجسام الجُزئيات المُولَّدات التي هي الحيوان والمعادن والنبات.
فصل في بيان

معرفة قول الحكماء إن العالم إنسان كبير

اعلم أيها الأخ أن معنى قول الحكماء: العالَم، إنما يَعنون به السموات السبعَ والأرَضينَ، وما بينهما من الخلائق أجمعين، وسمَّوه أيضاً إنساناً كبيراً، لأنهم يرون أنه جسمٌ واحدٌ بجميع أفلاكه وأطباق سمواته وأركان أُمهاته ومولَّداتها، ويَرَون أيضاً أنَّ له نفساً واحدةً ساريةً قواها في جميع أجزاء جسمها كسرَيان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة صورة العالم ونصِف كيفية تركيب جسمه، كما وصِفَ في كتاب التشريح تركيب جسد الإنسان، ثم نصِف في رسالةٍ أُخرى ماهيّة نفس العالم، وكيفيّة سريان قواها في الأجسام التي في العالم من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ثم نبيّن فنون حركاتها وإظهار أفعالها في أجسام العالم بعضها في بعضٍ، فنرجِعُ الآن إلى وَصف جسم العالَم فنقول: الجسم هوأحد الموجودات بطريق الحواس، بتوسُّط أعراضِه، كما بيَّنا في رسالة الحاسّ والمحسوس، والموجودات كلُّها جواهر وأعراضٌ وصورٌ وهيوليّاتٌ مركَّبٌ منها، كما بيّنا في رسالة الهيولى والصورة. والصورة نوعان، مُقوِّمة ومُتمِّمة، كما بيّنا في رسالة العَرض والعُمْق، إذا وُجِدت في الهيولى التي هي جوهر بسيط قابل للصورة. والصورة المُتمِّمة للجسم المُبلغة له إلى أفضل حالاته كثيرةٌ لا يُحصي عددها إلاّ الله، عزَّ وجل، ولكن نذكر منها طرَفاً لتفهم معانيها: فمن الصورة المتمِّمة للجسم الشَّكل؛ والأشكال كثيرةٌ، كالتثليث والتربيع والتخميس والتدوير وما شاكلها. ومن الصورة المتمِّمة أيضاً الحركة؛ والحركات ستة أنواع، أحدُها النُّقلة وهي نوعان: دوريّة ومستقيمة. ومن الصور المتمِّمة أيضاً النور، وهي نوعان: ذاتيٌّ وعَرَضيٌّ. ومن الصور المُتمِّمة للجسم الصفاءُ، وأفضل الأشكال الشكل الكُرِيُّ كما بيّنا في رسالة الهندسة، وأتمُّ الحركات الدوريّة كما بيّنا في رسالة الحركات، وأبهى الأنوار الذاتيّة، وأصفى النُّعوت الشفَّاف، كما بيّنا في رسالة الصفات والموصوفات. فجسم العالم بأسره كُريُّ الشكل، وحركات أفلاكه كلِّها دوريّةٌ، ونور الكواكب السماوية كلِّها ذاتيٌّ إلاّ القمر، وأجرام الكُرة كلِّها شفَّافةٌ إلاّ الأرض، فقد بيّنا ما العِلة في أمر الأرض والقمر في رسالة العِلل والمعلولات.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #162
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في أن السماوات هي الأفلاك

واعلم يا أخي أن السماوات هي الأفلاك، وإنما سُميّت السماء سماءً لسمُوِّها، والفلك لاستِدارته. واعلم بأن الأفلاك تسعةٌ: سبعةٌ منها هي السماوات السبع، وأدناها وأقربها إلينا فلك القمر، وهي السماء الأولى؛ ثم من ورائه فلك عُطارد وهي السماء الثانية؛ ومن ورائه فلك الزُّهرة وهي السماء الثالثة؛ ثم من ورائه فلك الشمس وهي السماء الرابعة؛ ومن ورائه فلك المِرّيخ وهي السماء الخامسة؛ ومن ورائه فلك المُشتري وهي السماء السادسة؛ ثم من ورائه فلك زُحَلَ وهي السماء السابعة، وزُحَلُ النجمُ الثاقب، وإنما سُمّي الثاقِبَ لأن نوره يَثقُب سَمْكَ سبع سماوات حتى يَبلُغ أبصارنا؛ هكذا روي في الخبر عن عبد الله بن عباس ترجمان القرآن. وأما الفلك الثامن، وهوفلك الكواكب الثابتة الواسع المحيط بهذه الأفلاك السبعة، فهوالكُرسيُّ الذي وَسِع السماوات الأرض. وأما الفلك التاسع، المحيط بهذه الأفلاك الثمانية، فهوالعرش العظيم الذي يحمله فوقَهم يومئذ ثمانيةٌ كما قال الله، عز وجل.
واعلم يا أخي أن كلّ واحدٍ من هذ السبعة المقدَّم ذكرها سماءٌ لما تحتَه وأرضٌ لما فوقَه، ففلكُ القمر سماءُ الأرض التي نحن عليها وأرضٌ لفلك عُطارد، وكذلك فلك عُطارد سماءٌ لفلك القمر وأرض لفلك الزُّهرة، وعلى هذا القياس حُكم سائر الأفلاك، كلُّ واحدٍ منها سماءٌ لما تحته وأرض لما فوقه إلى فلك زُحل الذي هوالسماء السابعة.
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 20:48 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.29634 seconds with 12 queries