أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > أدب > القصة و القصة القصيرة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 18/08/2008   #1
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي محمود البدوى




محمود البدوى قاص ومترجم مصرى ولد فى قرية ابنوب بمحافظة اسيوط بصعيد مصر تدرج فى التعليم حتى المرحلة النصف جامعية فقد ترك الجامعة وهو فى الفرقة التانية لظروف ( ما ) عمل بعد انقطاعه عن التعليم فى احدى الوزارات الحكومية ,,,انشغل فى اوقات الفراغ بترجمه الروايات الاجنبية ومحاولة ولوج عالم القصة القصيرة بالتجريب
اتهم فى بداية مشواره بالسطحية وضعف الاسلوب الا انه سرعان ما اثبت حضوره وجداره اسلوبه حتى اطلق عليه نجيب محفوظ لقب ( تشيخوف القصة القصيرة )
العالم السائد فى محيط كتاباته هو الجو المصرى الصرف بمشكلاته وهمومه كذلك معالجة هموم المصريين فى خارج المحيط المصرى ...روسيا ,,هونج كونج..طوكيو وغيرها
تعرض ادبه وما زال لاتهامات من الجمعيات النسائية المصرية التى ترى انه يدخل المرأة فى سياج قصصه كمعادل موضوعى للفتنة او المتعة
توفى البدوى وما زالت قصصه تحظى بالحضور الجدلى الذى هو سمة الادب الحى

اترككم مع بعض قصصه

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #2
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الرنين




رن جرس التليفون فى حجرتى بالفندق فى منتصف الليل .. ولم أكن أعرف أحدا فى موسكو .. ولا صلة لى بانسان .. ولذلك تركته يرن .. وبقيت فى الفراش تحت الأغطية الثقيلة ..
وكنا فى صميم الشتاء والثلج يتساقط ، والبرودة تصل إلى 25 درجة تحت الصفر ..
ولما طال الرنين تحركت من مكانى ورفعت السماعة ، فوجدت سيدة على الخط وكانت تتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ..
وقلت :
ـ هالو ..
ـ هالو ..
ـ أى خدمة ..
ـ أى خدمة ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
وهكذا ظلت تردد ورائى كل ما أقوله بلهجة مضحكة ، كانت تنطق الكلمة الإنجليزية خليطا بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية ..
ومع أنها سحبتنى من الفراش وأطارت النوم من عينى ، ولكن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل الساكن وفى هذه الوحدة أشعرنى بالراحة ، فأنا وحيد فى هذه المدينة الكبيرة ، وحيد فى الفندق .. من غير أنيس ولا رفيق .. وقد قضيت أسبوعين على هذه الحالة القاسية ..
ولهذا فإن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل هز مشاعرى ..
كنت أعيش فى حالة كآبة فى داخل الفندق ، ولا أستطيع التجول فى المدينة لشدة البرد القاتل ، وسقوط الثلج ، فإنه من الصعب على شخص لم يتعود على مثل هذه الحياة أن يتجول ..
كانت درجة البرودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر فى بعض الأيام ولا تقل عن 20 درجة فى معظم الأيام ، ولهذا حبست نفسى فى الفندق ..
ولم أكن أخرج إلا نادرا فى مشوار سريع إلى المكتبة العامة ، وأعود منه مغطى كلية بنتف الثلج ..

وفى الليلة التالية ، وفى نفس الساعة عاد الرنين ، تركت الجرس يرن طويلا ثم تناولت السماعة ، وسمعت نفس الصوت يردد ورائى ما أقوله بالحرف الواحد ..
وقلت فى صوت جاف :
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ شىء عجيب ..
ـ شىء عجيب ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ أريد أن أنام ..
ـ أريد أن أنام ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ووضعت السماعة وأنا فى أشد حالات الغيظ .. واستمر الحال على هذا المنوال عشرة أيام متصلة ، ومن العجب اننى كنت أضبط الساعة على رنينها .. فى منتصف الليل بالضبط .. وعندما تتلاقى العقارب الثلاثة كنت أسمع الرنين ..
ومن العجب أننى بعد هذه الأيام العشرة .. أصبحت أحن إلى سماع هذا الصوت ، وأخشى أن ينقطع الرنين .. والإنسان عبد لما تعود عليه .. ويعشق المجهول .. ولقد عشقت صوتها .. كان صوت هذه السيدة جميلا منغما كأنه كروان يغنى على الخط ، كروان يغنى بأعذب الألحان ..
وأصبحت أتصورها من صوتها شابة بين العشرين والخامسة والعشرين .. رشيقة القوام .. شقراء الشعر دعجاء العينين .. صبوحة الوجه .. ولها على الخد الأيسر شامة بحجم العدسة .. وأسنانها بيضاء تفتر عن ثغر جميل خلق للقبل ..
وتظل هذه الصورة فى رأسى مجسمة حية تتحرك ..
***

وفى الصباح وأنا فى طريقى لتناول طعام الافطار فى نفس الطابق الذى فيه حجرتى ..كنت أنظر إلى الأبواب المفتوحة فى الغرف المجاورة لغرفتى .. وألاحظ النساء على الأخص .. الرائحات والغاديات فى الطرقة .. وأسمع الأصوات ، وأحدق فى الوجوه .. لعلى أهتدى إليها ..
***

كان بالغرفة التى على يمين غرفتى ثلاث مضيفات فى شركة الطيران اليابانية .. وكن فى سن متقاربة لا يتجاوزن العشرين .. أنيقات فى زيهن الأزرق وقبعاتهن الصغيرة الزاهية .. وكان نطقهن للإنجليزية بارعا كأنهن إنجليزيات ، فاستبعدتهن تماما من الصورة ..
ثم شقراء بين بين الألمانية والبولندية .. وكانت تقيم وحدها فى الغرفة التى تلى غرفة اليابانيات .. وكانت جامدة الملامح رصينة ، وما أحسب أنها تفكر فى مثل هذا العبث فاستبعدتها أيضا ..

وسيدة هندية خمرية اللون ، طويلة الشعر ، تلبس السارى الهندى ، ومعها زوجها يرافقها ويلازمها ملازمة الظل .. وبعد مشقة سمعت صوتها ونطقها بالإنجليزية فاستبعدتها على التو ..
ثم سيدة روسية نصف .. يعنى فى منتصف العمر .. تشغل الغرفة الرابعة فى نفس الصف ولعلها رسامة جاءت إلى العاصمة فى مهمة عمل .. وهى تتحرك فى ملابس الروسيات الثقيلة ، ومستعدة للثلج وعواصف الشتاء ، وتراها دائما فى معطفها المبطنة بالفرو ووشاحها الصوفى وقبعتها الزرقاء .. تراها دائما فى هذا الزى الكامل فى الكافتيريا وفى البهو .. وفى قاعات الاستقبال .. وكانت صارمة الملامح عادة .. ولعلها مهندسة معمار ..
ولم أسمعها تنطق قط بغير اللغة الروسية فاستبعدتها على الفور ..
ثم سيدة عجوز وزوجها الكهل .. ومعهما ابنة شابة ومن حوارهم بالإنجليزية عرفت أنهم من الأمريكان فاستبعدت العجوز وابنتها لنطقهن ..
ثم شابة رأيتها فى الطرقة تتحرك على كرسى بعجل .. وتدفعها أمها .. ولم أسمعها تنطق .. وكانت تقيم هى وأمها فى الحجرة المواجهة لحجرتى .. وكانت الفتاة ضاحكة السن وتحدق بضراوة فى كل الوجوه التى تمر أمامها فى الطرقة بعينين نجلاوين متطلعتين ..
ثم سيدة جديدة فى مقتبل العمر ، رأيتها لأول مرة تضع المفتاح فى الباب المجاور لباب الفتاة الكسيحة .. ولم أسمعها تنطق بأية لغة وكانت صامتة وقلقة ويبدو على وجهها الأسى ..
واستبعدت النزلاء من الرجال الكبار والصغار فى الطابق الذى أقيم فيه وفى كل الطوابق .. فإن أصوات الرجال واضحة فى سمعى ومن السهل تمييزها مهما حاولوا تقليد النساء ..
وهكذا بقيت فى هذا الفندق الضخم أسمع الرنين ولا أهتدى لصاحبته .. وأنتظر أولجا لتأخذنى إلى بيت دستويفسكى لنطلع على المخطوطات ..
ولكن أولجا حبستها الثلوج فى تفليس وبقيت فى الفندق أسمع الرنين ..
وبعد تفكير طويل ، وبعد النظر فى كل الوجوه ، حصرت العابثة فى فتاة من عاملات الفندق .. وهى التى تعرف رقم التليفون فى غرفتى وتسلى نفسها فى الليل الطويل بهذا العبث ..
***

وفى قاعة البريد الملحقة بالفندق .. جلست أكتب رسالة لأولجا أعرفها بموقفى وحبسى فى الفندق وأغفر لها تأخيرها .. وعدم استطاعتها الحضور .. لأنى أعرف مقدار ما سقط من الثلوج فى قريتها .. وقلت لها بأنى مضطر للعودة إلى موطنى بعد الثامن عشر من يناير .. إن لم تستطع هى الحضور قبل ذلك .. وأعدها بأن أحضر مرة أخرى فى بشائر الصيف ..

وقبل أن أضع الرسالة فى المظروف .. وجدت عينين تحدقان فى وجهى من الكرسى المقابل على نفس المائدة ..

كانت سيدة طويلة نحيفة القوام سوداء الشعر جميلة ناعمة البشرة .. ناعمة البسمة .. وكل ما فيها ناعم رقيق ..
ولكن الوجه بكل ما فيه من جمال وتألق كان قلقا ..
والقلق هو الذى جعلها تحدق فى وجهى لأنها قرأت فيه القلق الذى فى نفسها ..
وتبادلنا بالإنجليزية كلمات قليلة عن الرسائل وطوابع البريد ومتى تفرغ صناديق البريد التى فى داخل الفندق ..
ودون أن توضح لى حالها تماما أدركت أنها تنتظر رجلا .. وأنا انتظر أولجا ..
والرجل حبيبها ولكن أولجا لم تكن حبيبتى .. أولجا مشرفة على بحث أدبى يشغل وقتى وحياتى ..
***

وأصبحنا نتقابل عرضا دون اتفاق سابق فى المطعم ، وفى ردهات الفندق وفى الصالة الكبيرة وأمام أبواب المصاعد .. وحدثتنى أنها كانت فى الطابق الثالث فلما خلت غرفة فى الطابق التاسع انتقلت إليها .. لأنها تود أن تمتع نفسها بالتطلع إلى المدينة من هذا الارتفاع الشاهق وترى الثلج المتساقط وهو يغطى الشوارع والميادين ويتراكم على أسلاك التليفون والبرق .. وترى العصافير وسط هذا الجوالثلجى وهى تحط آمنة على أغصان الشجر ..
وترى العاملات فى الليل يجرفن الثلوج تحت أنوار المصابيح التى غشاها الثلج فغدت تعكس كل الأضواء التى فى قوس قزح ..
واعتادت أن تستيقظ مبكرة .. كما أفعل .. فنذهب معا إلى الكافتريا لتناول طعام الافطار قبل أن يزدحم المكان بالنزلاء .. ونجلس إلى مائدة لا نغيرها ولم يكن بيننا بعد أسبوع من اللقاء المتصل ما يسمى بالحب أو حتى بالصداقة .. وانما كان مجرد ألفة أو لقاء بين غريبين أحسا معا بالأمان فى هذا اللقاء .. وقتل السأم فى محبس الفندق ..
وكان القلق قد أخذ يتبدد تماما .. سواء أقدم الرجل الذى تنتظره أم تخلف .. فإنها قد زارت موسكو كما تزورها كل عام .. وشبعت منها وفى هذا الكفاية ..
وكان الحال كذلك بالنسبة لشخصى فسواء أجاءت أولجا أم تخلفت فإنى قد اطلعت فى المكتبة على مافيه الكفاية .. وتكفى زيارة واحدة فى الصيف لانهاء البحث جميعه ..
وفى صباح يوم رأيت الشمس فيه طالعة .. قلت لها :
ـ الشمس اليوم تغرى بالخروج .. فهل ترافقينى إلى الجوم ..
ـ بكل سرور .. فى أى ساعة تود ذلك ..؟
ـ بعد الغداء .. والأحسن أن أتلفن لك .. لننزل سويا ..
ـ هذا أحسن .. وخذ رقم تليفونى ..
وقلت لها بعد أن دونت الرقم :
ـ وأنا سأعطيك تليفونى ..
ـ أنا أعرفه ..
فحدقت فيها باندهاش ..
إنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة فهل هى التى كانت تدق علىَّ فى الليل وتغير لهجتها لتخفى شخصيتها .. وإذا لم تكن هى فلماذا انقطع الرنين بعد أن التقينا ..؟
سبحت فى بحر من الغموض .. ومع ذلك فإنه من السهل عليها أن تعرف رقم تليفونى مادامت قد عرفت رقم غرفتى .. وتكفى نظرة سريعة فى دليل الفندق ..
وتحت تأثير هذه الخواطر ، ازدادت رغبتى فى أن أسمع صوتها فى التليفون لأبدد هواجسى .. فلم أطلبها وطلبتنى هى .. وسمعت صوتها .. كان مختلفا تماما عن الصوت الذى أسمعه فى نصف الليل .. ولكن فيه نفس الغنة .. يا لحيرتى ..
***

ذهبنا إلى الجوم متلاصقين فى الأتوبيس ولما دخلنا من باب هذه السوق الكبيرة شعرت بالزهو وهى بجانبى بفرائها ووشاحها ورشاقتها وجمال قوامها ..
وعندما كان الزحام الشديد يفرقنا عن بعض .. كانت تبحث عنى والخوف يطل من عينيها .. فسألتها :
ـ لماذا الخوف .. لست بالطفل ..
ـ أخشى أن تتوه .. ولن تجد شخصا يعرف الإنجليزية ويدلك على الطريق إلى الفندق ..
وكان هذا الخوف يدفعها لأن تلتصق بى عندما كان الجمهور يجرفنا فى ممرات السوق الضيقة .. أصبحت تمسك بيدى فى كل خطوة ..
واشترينا القليل .. اشترت وشاحا لبنتها .. وعرفت من هذا أنها متزوجة .. ولم أسألها عن زوجها إن كان حيا أم ميتا ..
وفى مصعد الفندق .. صعدنا وحدنا إلى الطابق التاسع .. وأحسست برغبة شديدة فى أن أقبل عينيها وخديها وثغرها .. وأمرغ وجهى فى صدرها .. وكانت فتاة المصعد لاتحول بيننا وبين فعل ذلك ولا شأن لها بعواطفنا ..
وعلى باب حجرتها أمسكت بيدها طويلا ثم تركتها .. وكأننى أسحب معها قلبى ..
***

وفى نفس الليلة .. وأنا أتناول من عاملة الفندق المفتاح .. وأستدير لأتجه إلى غرفتى فى الطرقة الطويلة .. سمعتها تنادينى بعد بضع خطوات ..
ـ يا مستر مختار ..
ـ نعم ..
ووقفت وحولت وجهى إليها ..
ـ ترك لك شخص هذه الربطة ..
ـ لى أنا ..؟!
ـ أجل .. وقال للمستر مختار فى الغرفة 926 ..
ونظرت فى الربطة فوجدت فيها زجاجة فودكا و خرطوشة سجائر كنت ..
فقلت للعاملة :
ـ هذه ليست لى لأننى لا أدخن ..
ـ ولكنه تركها لك ..
ـ أنا لاأعرف أحدا فى هذه المدينة وليس لى صديق فيها على الاطلاق ..
ـ ولكنها تخصك ..
وكانت واقفة بجانبى فى هذه اللحظة فتاة الغرف المختصة بجناحنا .. فمددت يدى إليها بالربطة ..
وقلت بالإنجليزية :
ـ خذى هذه الهدية منى .. مادامت زميلتك تصر على أنها تخصنى ..

فتناولتها الفتاة مسرورة وتضرجت وجنتاها وحييتهما ودخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..
وكان الراديو الصغير الموضوع فى حجرتى يذيع موسيقى شجية تهدى الأعصاب .. فسحبته من مكانه ووضعته على منضدة بجانب الفراش .. ودخلت تحت الأغطية ..
***

وفى أخريات الليل استيقظت على حركة فى داخل الغرفة ..
ووجدت الفتاة التى أعطيتها الهدية تحرك الراديو من مكانه .. وقالت برقة لما وجدتنى قد استيقظت :
ـ لقد تركت الراديو مفتوحا ..
ـ شكرا .. وآسف جدا لقد أزعجت النزلاء ..
ـ لا عليك .. والآن نم هانئا ..
وكانت واقفة بالقرب من الفراش وتحدق وتنظر إلى وجهى بحنان .. فأمسكت بيدها برقة .. وتحركت إلى جانبى ..
ولأول مرة أعرف أن معها مفتاحا آخر لغرفتى ..

=================================
نشرت قصة الرنين فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976
وأعيد نشرها فىكتاب قصص من روسيا من اعداد وتقديم
على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى مكتبة مصر ط 2003
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #3
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي المعجزات السبع


حمل البريد الطواف إلى أمين عبد المولى .. وهو قروى من قرية نافع بالصعيد .. ومن أهل الطريقة ..رسالة معطرة من الشيخ رجب شيخ طريقتهم .. يخبره فيها بأنه سيزور القرية يوم الخميس ..

وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم .. وانتقل منها إلى القرى المجاورة ، فقد كان الشيخ رجب مشهورا فى المنطقة كلها ومعبود الجماهير .. وكان يتفضل عليهم بهذه الزيارة كل ثلاثة أعوام مرة .. مرة واحدة .. ليباركهم ويريهم من معجزاته ..

وفى ميعاد وصول القطار ، وقف أكثر من مائة قروى فى محطة أسيوط فى انتظار الشيخ .. ومنهم من لم يدخل محطة حديدية طول عمره .. ولم يركب قطارا فى حياته .. فاضطربوا والتصق بعضهم ببعض على الرصيف .. وأصبحوا كالقطيع قبل أن يدخل السلخانة للذبح .. يرفعون رؤوسهم ويتصايحون ويتدافعون بالمناكب .. وقليل منهم الذى تسلق الكوبرى ليصل إلى الرصيف الآخر حيث يقف القطار ..

وكان القطار يدخن ويصفر .. كأنه يشعرهم بأنه يحمل الشيخ الكبير ..

ومع ذلك لم يجد القرويون الشيخ على الرصيف .. ولم يروه وهو ينزل من القطار .. وإنما وجدوه بعد أن أعياهم البحث خارج المحطة واقفا بعباءته الفضفاضة .. كأنما هبط عليهم من السماء ..

وسأله أحدهم :
ـ أنت جيت فى إيه يا سيدنا الشيخ ..؟
وابتسم ابتسامته المعروفة .. ولم يرد على السائل ..
وصاح أحد الاتباع :
ـ صلى على النبى .. يا جدع .. صلى ..

وصلى الجميع .. وكبروا واهتزت للمعجزة الأولى أسلاك البرق .. فقـد خطى الشيخ .. جاء من القاهرة إلى أسيوط .. أسرع من الصوت .. فى أجواز الفضاء ..

وخرجت الجموع من المحطة .. ولم يركبوا سيارات لأن الشيخ كان يلذ له أن يسير على رأس هذه المظاهرة فى قلب المدينة .. ليراه الناس ووراءه هذا الجمع الغفير ..
***

وبعد أن خرجوا من المدينة ركبوا مركبا كبيرا يعبر بهم النيل ، لأن القرية على العدوة الأخرى .. ونشرت المركب شراعها وانطلقت .. ولكن الجو كان حارا .. والريح ساكنا .. وكان التيار يجذب المركب إلى الوراء .. أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام ..

وظهر الضجر على وجه الركاب .. ونظروا إلى الشيخ ينتظرون منه المعجزة ..

ورفع رأسه ومد بصره .. فرأى السحب تتفرق من بعيد مؤذنه بمقدم الريح .. فأخذ يتمتم ووجهه إلى السماء .. ثم وضع يده اليمنى فى الماء .. وحرك شفتيه ..

وهبت الريح وشال القلع .. وشقت المركب التيار .. وصاح أحد الركاب :
ـ صلوا .. على النبى .. صلوا ..
وكانت المعجزة الثانية ..
***

وعندما بلغوا الشاطىء ، كانت القرية كلها تستقبل الشيخ .. وكل واحد يحاول أن يقترب منه ويلمس ثوبه لتحل عليه البركة .. وخرج المريض العاجـز .. وحتى المشـلول .. والمقعد حمل على الأكتاف .. ليرى الشيخ .. وينتظر البركة .. وخرجت العاقر .. والمطلقة .. وذات الضرة .. والتى تلد الأناث .. والمتزوجه كهلا .. خرجن ليلقين الشيخ .. ويتمسحن به .. ويطلبن الأمانى والأحلام .. ومر الشيخ وهو سائر فى الطريق على مسطاح رجل .. وكان قد كوم الغلـة فى الجرن .. ووضع عليها القلة الفخارية .. وابتدأ فى الكيل ..

ونظر الفلاح المسكين إلى الشيخ الوقور .. ذى الذقن الطويلة والعباءة الفضفاضة .. نظرة المسكين إلى نبى ..
وصاح :
ـ باركنا .. يا سيدنا الشيخ .. باركنا .. وسيدى جلال تباركنا ..

ومال الشيخ على المسطاح .. ووضع يده فى الغلة .. وعندما كال الفلاح الغلة .. أتى الفدان بثمانية عشر أردبا ..

وتطايرت المعجزة الثالثة .. ورقص الفلاحون وهللوا .. ونسى هؤلاء البسطاء المساكين .. أن زراعة هذا الفلاح فى العام السابق أتت بأكثر من ثلاثين نقيصة للفدان .. وأنه أحسن من يزرع الأذرة من الفلاحين ..
***

ومر الشيخ على وابور الطحين .. وكان الوابور يعاكس ويتعطل كثيرا .. حتى أتعب صاحبه .. وأخيرا جاء له بمهندس المانى .. ففكه كله وربط العدد من جديد ..

وفى اللحظة التى مر فيها الشيخ على الماكينة وكانت تحت الجسر وألقى نظرته عليها .. كان العادم يخرج من الماسورة .. وصوت الماكينة .. يتك ..
وانطلقت المعجزة الرابعة أسرع من سابقاتها ..
***

وعندما دخل القرية كانت الطبول تدق والمزامير تزمر .. والرايات مرفوعة .. واشتد التصاق الفلاحين به واحتشادهم حوله .. ورآهم يتنازعون على أول من يتشرف بزيارته .. ويتقاتلون ..

وأطرق الشيخ ثم رفع رأسه كأنه يستلهم الوحى ..
وقال :
ـ سأدخل هذا البيت ..

وعندما كان يشرب القهوة فى فناء البيت .. سمع الزغاريد .. فقد وضعت زوجة صاحب الدار مولودا ذكرا .. لأول مرة فى حياتها .. بعد خمس بنات .. وجاء والد المولود .. يقبل أقدام الشيخ وهو يدفعه عنه فى تواضع الانبياء ..

وطارت المعجزة الخامسة وحلقت فى الأجواء .. وهبطت على كل قرية فى المديرية جمعاء ..
***

وطاف الشيخ بالقرية ومعه الامانى المعسولة .. وأحلام اليقظة .. وكان الشيخ يوزع بركته بالتساوى على الجميع ..

وظل الشيخ يطوف بالقرية حتى جاءت صلاة العشاء فصلوا وراءه فى المسجد ..

وبعد الصلاة .. مدت موائد الطعام فى الساحة التى اختارها الشيخ للذكر ..

وكان كل فلاح يتسابق بما عنده .. ذبحوا العجول والخراف وقدموا الفت والثريد والفطير .. على الطبالى .. ورفعوا المشاعل وجلسوا يأكلون .. ما لذ وطاب ..

وكان الخروف الذى على مائدة الشيخ تتصاعد منه رائحة زكية .. ولا ينقص أبدا .. شهد بذلك الجميع ..

والقلة التى رفعها إلى شفتيه شرب منها مع الحاضرين .. وظلت ممتلئة .. كما هى ..

وهكذا انطلقت المعجزة السادسة تسابق الريح ..
***

وبعد العشاء .. والشاى الأسود .. بدت حلقة الذكر فى الساحة ، ووقف الشيخ فى وسط الصف وحوله أتباعه ومريدوه .. وفى صفوف وراءهم وقف الفلاحون ..

وابتدأ الذكر بهمهمة لامعنى لها .. ثم بتمتمة .. ولم يكن اسم الله يذكر على لسان ..

ثم ابتدأ الطواف .. والزبد على الشفاة .. والصراخ .. ولوثة المشعوذين .. وكان الشيخ يرتفع بجذعه وينحنى حتى تلامس رأسه الأرض ..

وعندما كان يرفع رأسه كان يرى القرويات على سطوح المنازل متحجبات وسافرات يشاهدن الذكر ويتهامسن ..

وكان الشيخ عندما ينفرد نظره بمليحة منهن كان يطيل النظر إليها ثم يغلق عينيه كأنه يسبح ..

وشاهد فى المنزل المواجه له صبية فى جمال القمر .. وعندما انتهى الذكر بعد منتصف الليل .. وأخذ الفلاحون يتنازعون على البيت الذى ستحل فيه بركة النوم ..

قال لهم الشيخ :
ـ الجار أحق بالتشريف ..
واختار بيت الصبية لينام فيه ..

وكان البيت لقروى متوسط الحال .. ورث من أبيه فدانين وتزوج من هذه الصبية الحلوة .. لينجب ويأتى بالوريث .. ولكن بعد زواج أربع سنوات .. لم يأت الوريث .. وكان المسكين قلقا .. ومتبرما .. وعرض نفسـه على جميع الأطباء فى المدينة .. وحمل جميع أنواع الأحجبة .. دون نتيجة ..

وطار قلب الفلاح من الفرح عندما دخل الشيخ بيته .. وتجمع الناس حول الدار .. ولكن الاتباع صرفوا الناس لينام الشيخ .. فى هدوء ..

وحرصا على راحة الشيخ ترك الفلاح القاعة العلوية للشيخ .. ونزل لينام وحده فى الفناء ..

وظلت الزوجة الصبية تخدم الشيخ وتقدم له الماء فى الابريق ليتوضأ ويصلى الفجر .. وهى جالسة أمامه .. وكان هو يمسح على جبينها وشعرها ويتمتم ثم أخذ يباركها على طريقته ..
***

وارتفعت شمس الضحى .. وحلت صلاة الجمعـة فى مسجد القرية .. ولم يحضر الشيخ الصلاة ..

وقال الفلاحون :
ـ انه يصلى فى الكعبة ..
وجاءت المعجزة السابعة .. متأخرة .. قليلا فقد حملت توحيدة زوجة الفلاح العاقر الذى باركه الشيخ ونام فى بيته .. وتأكد الحمل بعد ثلاثة شهور من سفر الشيخ ..
وطبلت القرية كلها ورقصت لهذه المعجزة لأنها كانت أروع المعجزات ..

====================================
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية 11/11/1954
وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان الزلة الأولى و قصص من القرية ـ مكتبة مصر 2006
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #4
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي العذراء والوحش


كان الخواجة لمبو يملك فندقا جميلا على ترعة الإبراهيمية قريبا من شريط السكة الحديد ..

وكان للفندق حديقة مزهرة .. يجلس في ظلها النزلاء بالنهار .. وفي الليل كانت تتحول إلى مرقص ..

وكان لمبو يجلب لهذا المرقص أشهر الفرق الراقصة من القاهرة والإسكندرية وفيها أجمل الراقصات في دنيا الفن ..

وكان المكان يضيق على سعته .. بالعمد والأعيان والوجهاء من منطقة الصعيد كلها من حدود الروضة حتى سوهاج .. وكانت الأكف تضيق من التصفيق .. وأوراق البنكنوت من الفئات الكبيرة .. فئات العشرة جنيهات والخمسين جنيها تحرق تحت أنفاس الغانيات ..

كان كل رجل ينافس غريمه في إرضاء الغانية الأولى في الفرقة .. البريمادونا .. ليفوز بها في آخر الليل ..

وكانت زجاجات الخمر .. تفيض من الكؤوس المترعة على الموائد والمفارش .. وعلى سجاد الأرض مختلطة بأعقاب السجائر ..

وكان الدخان الذي يملأ سماء المكان يزكم الأنوف ويدمع الأعين ويهيج الصدور .. ويتحول إلى كثف من الضباب .. ولكن الجالسين في المكان كان إحساسهم متبلدا من فرط الصخب والضجيج .. فلا يحسون بهذا الاختناق .. وما هو شر منه .. لأن كل شيء ينسى في غمار الأجسام العارية التي كانت تتلوى .. وتتثنى على المسرح ..

ويحدث في كثير من الحالات .. أن تقف راقصة على حافة كرسي من الخيزران .. ترقص رقصا مثيرا .. وفي كل حركة بالبطن .. ولفتة بالعين .. وغمزه بالحاجب .. يتطاير طربوش .. أو تسقط لبدة على خشبة المسرح .. أو تتكور عمامة ..
ثم يبدأ التنافس المروع على حرق أوراق البنكنوت ..

ويخيل إليك وأنت تشاهد أوراق البنكنوت بالخمسين جنيها .. تمتد بها الأيدي لتشعل سيجـارة لراقصة .. لا تساوى مليما واحدا في الآدميين .. انك تعيش في مستشفي المجـاذيب .. ولكن هـؤلاء المجاذيب .. كانوا هم في الواقع الحكام الحقيقيين للإقليم ..

وكانت محادثة تليفونية بسيطة من واحد منهم .. تطير المدير .. ونظرة غضب تطيح بالحكمدار ..

وكان الواحـد منهم يأتي إلى البندر في موكب مسلح من العبيد ..

فإذا رأى الراقصـة التي يشتهيها .. تجالس آخر .. أو تساقيه الخمر .. يتطاير الشرر من عينيه .. ويبدأ أمامها في عرض جبروته وثروته .. بصورة مثيرة تثير الفزع حقا ..

يأمر بصوت جهوري .. أن تفتح جميع زجاجات الويسكى .. وتوزع على حسابه على جميع الحاضرين .. ليموت غريمه من الغم ..
أو يحـرق ثلاث أوراق من فئـة الخمسين جنيها لثلاث راقصات معا ..

وكانت إذا اشتدت المنافسة وتحول الكلام إلى نار .. يتدخل الخواجة لمبو .. بلباقته .. وابتسامته .. ويوزع الغانيات .. على المتنافسين ..

وكان الفندق يتحول في آخر الليل .. إلى وكر رهيب للملذات ..

وكان المال الذي يتدفق على لمبو .. يجعله قادرا على أن يغمض كل العيون ويخرس كل الألسنة ..

***

ثم هبت الريح العاتية .. وطار ورق الحديقة .. وعرى الشجر .. وقوض المرقص وانقطع العمد والأعيان .. وتحول الذهب إلى تراب .. وأصبح الخواجة لمبو لا يستطيع أن يدفع أجر ثلاثة من الفراشين هم كل من بقى من العمال في الفندق ..

وفي خلال تلك الفترة العصيبة ، ماتت زوجته .. وتركت له بنتا وحيدة في الخامسة عشرة من عمرها .. وكانت تتلقى العلم في مدرسة أجنبية في ملوى .. فلما انتهت من دراستها الثانوية .. أشارت عليها خالتها ماريكا بأن تأخذها معها إلى أثينا لتدرس الطب ..

ولم يكن في أثينا طب مشهور حتى تذهب إليه .. أورانيا ولكن الرجل وجد نفسه وجها لوجه .. أمام مشكلة لم يكن مستعدا ولا قادرا على مواجهتها وحده .. فترك الفتاة مع خالتها وسافرت بها ..

***

ولما عادت أورانيا بعد ثلاث سنوات .. لم تكن قد حصلت على إجازة تؤهلها لمزاولة مهنة الطب .. في مصر .. ولكنها حصلت على شىء آخر .. حصلت على جسم .. يفوق كل الأجسام .. التي كانت تتثنى على مسرح الفندق ..

وعندما دخلت الفندق .. لم يكن به أكثر من خمسة من النزلاء .. منهم موظف واحد يقيم بالشهر .. وبائع متجول يغدو .. ويروح .. ورجل عجوز من سكان القاهرة .. كان يجىء في فترة الإيجارات ليجمع إيجار الأرض .. ويبيع ما استطـاع من أملاكه .. فقد مرض مرضا شديدا .. توقع بعده الموت في كل لحظة .. وكان يجب أن يتخلص مما عنده قبل أن ترثه وزارة الأوقاف ، فلم يكن له وريث غيرها ..

وكانت مدخنة الفندق تدخن في الفترة التي يقضيها السيد عصام في الفندق .. فهو يصرف على طعامه وشرابه عن سعة وفي إسراف ..

وكان عصام قد اعتاد أن يشرب في مجلس من الصحاب ليتحدث ويضحك .. كما يفعل في الباريزيانا ..

ولكن كيف يجد الصحاب في الصعيد .. وهو غريب عن المدينة .. فكان يجالسه لمبو في وقت فراغه وتجالسه أورانيا .. كذلك ..

وكان هناك شخص في المدينة يتردد على الفندق في ساعة معينة كل ليلة ..

كان زكى نديم الأثرياء والوجهاء في حانة الفندق .. فلما ذهبوا ولم يعد يراهم أصبح يتجول في المدينة كل ليلة ويدخل كل حانة كانوا يترددون عليها ، وفي ساعات الليل التي ألف أن يراهم فيها ..

وكان يعرف أنهم ماتوا .. وأنهم ذهبوا إلى غير رجعة .. ولكنه .. كان يكرر الجولة .. في كل ليلة .. كأنه يتوقع عودتهم فجأة .. أو كأنه يعجب للقدر .. الذي انتزع منـه رزقه مرة واحـدة .. في قسوة شديدة ..

أو كأنه .. يقول للجالسين وهو داخل عليهم .. ألا تعرفونني ..؟ أنا نذير لكل السكارى ..

***

وذات ليلة لمح زكى أفندي .. السيد عصام جالسا إلى مائدة وأمامه الكأس .. فجلس بجانبه ومن وقتها أصبح جليسه .. ولكنه كان يجلس منكمشا طاويا قفطانه على ركبتيه .. وضاما جبته على صدره .. ومرسلا طربوشه إلى أسفل ..

وكان من نزلاء الفندق نزيل آخر رجل في الستين من عمره .. وكان من أصل شركسى وموظفا في أحد التفاتيش ، فلما استولى الإصلاح الزراعي على التفتيش بقى في مكانه .. وأقام بصفة دائمة في الفندق .. وكان الرجل .. مغرما بالكلاب .. يعيش معه كلب منذ سنوات طويلة .. وكان يلازمه ملازمة الظل ..

ولم يكن حسين .. يؤدى أي شيء خلاف رياضته للكلب .. كان ينطلق به في الصباح بين المزارع .. حتى يخرج من البلدة ..

وفي العصر يجول به نفس الجولة .. وكان الكلب .. في الواقع مدربا .. كأحسن كلاب الحراسة .. ويربض في الحديقة .. أو يدخل طرقات الفندق .. وينام في أى مكان يختاره .. أصبح مألوفا لدى الجميع وكأنه نزيل من النزلاء ..

وكان في الواقع يحرس الفندق كله .. ومع أنه كان شرسا إلى حد التوحش إذا أحس بحركة في المزارع القريبة أو سمع دوى الرصاص .. ولكنه كان في داخل الفندق لاينبح قط .. وكان يوجه إلى الداخل الغريب نظرة صارمة .. ثم يقعد .. واضعا رأسه بين رجليه ..

وفي الفترة التي كانت تقوم فيها ابنة صاحب الفندق بالعمل في المطبخ كانت تقدم له قطع اللحم .. والثريد .. وإذا عاد من جولة في الخارج وهو يلهث من الحرارة قدمت له مايرطب حرارة جوفه .. وأصبحت بينهما ألفة .. زائدة ..وكان الكلب إذا شاهدها من بعيد يبصبص بذنبه .. ثم يقف ينتظرها وكأنه يرحب بها .. فإذا جاءت إليه انطلق بجانبها .. وهو شاعر بالمرح والنشاط ..

وكان الفندق في العام المنصرم .. قد بدأ في الانتعاش .. وفي خلال موسم القطن كان يأتي إليه بعض النزلاء .. ثم يرحلون ..

وكان لمبو .. وقد ابيض شعره .. يجلس إلى الصالة المغطاة بإعلانات الخمور وحيدا .. وتكون ابنته قد فرغت من عملها .. وذهبت لتنام ..

يجلس في الركن .. يسترخى ويتـذكر .. يتذكر .. الرقص والأغاني .. والصاجات والشمبانيا .. وأوراق البنكنوت المحترقة .. والذهب الذي كان يتدفق عليه ويشعر بهزة ويتساءل لماذا ذهب هذا كله مرة واحدة .. لماذا ذهب ..؟ الأنه كان يسير في طريق معوج .. ويجمع المال بكل الطرق غير الشريفة ..؟ الأن الفندق كان ماخورا ..؟ ما أكثر المواخير الباقية ..

ولماذا هبت عليه العاصفة .. وحده .. لماذا ..؟ وكان ينظر إلى ابنته .. وقد غدت أنثى ويتصور أنها واقفة في الصالة الخلفية تتثنى .. وقد خلعت ملابسها قطعة قطعة .. كما كانت تفعل نرجس وعزيزة .. وباتريشا .. وأولجا .. من سنوات .. وعرق جسمه وأحس بالأرض تدور به .. ونهض بعد أن أفاق ليشغل نفسه بأي عمل ..

***

وحدث ذات مساء .. وكان أحد الأعيان قد شاهد أورانيا .. جالسة في الحديقة ورأى فتنتها وجمالها ..
أن قال للخواجه :
ـ إيه .. يا خواجه لمبو .. الحاجات الحلوة اللي نازلة عندك دى بتفكرنا .. بأيام زمان ..
فأحمر وجه لمبو ولم ينبس ..

وهمس الوجيه في أذن لمبو .. وهو صاعد إلى غرفته ..
ـ أبعتها مع عبده .. ومعاه زجاجة ويسكى .. واللي أنت عاوزه خده ..

فأحمر وجه لمبو وسقط رأسه على فكه ..
ـ إيه ..؟
ـ دى .. بنتي .. يا توفيق بيه ..
ـ بنتك .. عندك بنت حلوة كده ..؟ وكانت فين ..؟
ـ في أثينا ..
ـ جوزها .. حالا ..
ـ هيه .. عاوز يشتغل .. مش عاوز يجوز ..
ـ جوزها .. أولا .. دى خسارة ..
وصعد توفيق إلى غرفته آسفا .. وكان الخواجة لمبو .. في الواقع .. يريد أن يزوج أورانيا .. ويستريح ـ كأب ـ من مشكلتها ..

***

ومادام يعيش في الفندق فإنه لم يكن في حاجة إلى رعاية من المرأة .. لأن الخدم يقومون بطعامه وكل ما يحتاجه ..

وفي خـلال تفكيره .. في كوستا .. ابن مخالى .. كزوج مثالي لابنته .. أورانيا هبط نزيل جديد على الفندق ..

وكان سالم شابا في الرابعة والثلاثين من عمره .. وكان يعمل في الصباح فقط .. ويقضى بقية النهار والليل في الفندق ..

وفي خلال الأسبوع الأول من نزوله المدينة .. لم يشاهد في صحبة أحد .. وكان في الفنـدق يجلس وحيدا في المدخل .. وبيده مجلة مصورة .. قد تلوثت وتمزقت من الجوانب من عرق يديه ..
ولم يكن قصير القامة .. لكنه كان ينحنى بجذعه ويميل إلى الجانب الأيمن في مشيته فيخيل لمن يراه على هذه الحالة أنه قصير وأنه أحدب ..

وكان أول من يعود من النزلاء إلى الفندق في ساعة الغداء .. ويرى أورانيا في المطبخ .. أو جالسه بجانب والدها .. على الخزانة .. ولكنه لم يكن يوجه إليها أى كلام .. أو يبادلها أى تحية .. وقد حيته مرة .. بلفظة .. بنجور .. فلم يرد عليها .. وخرس لسانه في حلقه .. ومن وقتها لم تكلمه أبدا ..

وفي الليل .. كان يجلس منزويا في الحديقة ويرى أورانيا وهى جالسة تتعشى وتشرب مع السيد عصام .. وقد وضعت ساقا على ساق .. حتى كشفت عن فخذيها فكان يحس بمثل السعار .. ويعود منكمشا على نفسه ..

وكان يسهر وهو جالس في الحديقة وحده .. حتى لا يبقى أحد من النزلاء ..

فإذا وجده لمبو .. جلس بجواره قليلا .. يحادثه ولكن سالما في الواقع كان لا يستمع إلى ثرثرة لمبو ..

كان يرى أورانيا .. من بعيد .. وهى رائحة غادية في طرقات الفندق .. ثم تغيب عن بصره ..

***

وذات ليلة سمع صوتها وهو متمدد على السرير .. تحادث شعبان الفراش .. فتلفت وتسمع كالثعلب ..

ولما خرج شعبان سمعها تغنى قريبا منه .. فأيقن أنها بجواره .. في الغرفة الملاصقة له تماما .. وأحس برعشة .. ونهض .. ووضع أذنه على الحائط .. ودار برأسه في الغرفة .. يتفحصها .. فرأى لأول مرة أن الدولاب الذي في غرفته وراء باب يفتح على الغرفة المجاورة .. ووضع الدولاب وسمر الباب ليمنع الاتصال ..

ورأى شراعة زجاجية فوق الباب مغطاة بالقماش فدار في الغرفة يفحص كل شىء .. بعين صقر .. وقلبه يرتجف .. ثم سحب كرسيا .. وطلع من فوق الدولاب يتطلع في الظلام .. من الشراعة .. واستطاع بعد مشقة .. وبعد أن فتح ثغرة بأظافره وأسنانه في القماش أن يرى أورانيا .. في الغرفة المجاورة ذاهبة رائحة في الغرفة بقميص النوم وهي تنحني ..
ثم تنهض كأنها تبحـث عن شيء سقط منها .. قريبا من مائدة الزينة ..

***

وفي الليلة التالية .. حبس سالم نفسه في غرفته من الساعة الثامنة مساء .. وكان الصيف .. في حميمه والحر شديدا .. فحبس نفسه داخل الجدران .. في الظلام وأغلق النافذة الخشبية حتى لا يتسرب أي ضوء من الخارج .. وليكون الظلام على أشده .. وصعد إلى الشراعة ليوسع الثغرة .. ويرى أكثر .. وأكثر .. ولمس .. وهو يفعل هذا مسمارا .. ثم أدرك أن الشراعة .. تتحرك .. وأنها مسمرة من ناحيته فقط ..

***

وفي اليوم التالي جاء بكماشة ونزع المسامير في هدأة الليل .. بعد أن أحكم إغلاق باب الغرفة .. ورد النافذة ..

***

وفي العصر خرجت .. أورانيا من الفندق .. متعطرة وهى في أجمل ثيابها .. كان اليوم يوم أحد .. ورآها سالم وهى تمشى مع سيدتين على الترعة ..
وجلس ساعة في حديقة الفندق ثم خرج يتمشى .. وعاد في هدأة الليل إلى غرفته ..

وأغلق الباب وراءه بالمفتاح .. ورد النافذة الوحيدة .. وجلس يخلع ملابسه في الظلام .. وصعد إلى الدولاب .. وحرك الشراعة فانفرجت .. فأعادها إلى مكانها .. بهدوء ..

وجلس على سريره .. وقد أحس برغبة شديدة إلى التدخين .. فدخن ..

وبعد أن هدأت الرجل تماما .. وانقطع كل حس .. وأطفئت جميع الأنوار في الحديقة .. وبقيت فقط الأنوار الضعيفة التي في طرقات الفندق صعد مرة أخرى .. إلى الدولاب بعد أن تلثم .. حتى لا تعرفه أورانيا إذا كانت متيقظة .. وأزاح الشراعة فانفرجت ونظر إلى الفراش فرأى أورانيا .. نائمة ثانية فخذها .. وقد جعلها الحر الشديد لا تطيق حتى .. قميصها ..

وتصور هذا الجمال الذي سيكون في أحضانه بعد لحظة .. وأغلق عينيه وأخذ يتدلى من الناحية الأخرى بحذر شديد .. وأحس فجأة بكف وحش تضربه بمخالبها في صدره فصرخ وسقط على الأرض ..

وعندما دخل لمبو الحجرة على صياح أورانيا .. كان سالم .. قد استفاق من هول الصدمة .. وأدرك ما حدث .. ولكنه لم يستطع أن يتحرك من مكانه .. لأن الكلب كان رابضا أمامه .. وقد تهيأ للوثوب عليه إذا أبدى أية حركة ..

وعندما مر زكى .. على الفندق في الليلة التالية وجد مائدة عصام خالية ..
فقال باسما :
ـ ذهب أيضا ..

واسـتدار ليخرج فرأى الكلب في جانب من الحديقة رابضا وحده .. وكان حزينا لأن أورانيا .. كافأته على عمله النبيل بطرده .. من غرفتها ..

=================================
نشرت القصة بمجلة الجيل في 5/1/1959 وأعيد نشرها في
مجموعة قصص لمحمود البدوي بعنوان عذراء ووحش وفي مجموعة قصص من القرية ـ مكتبة مصر ط 2006
=================================
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #5
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي ليلة فى طوكيو


قال الكاتب الأمريكى توماس وولف : إذا أردت أن تعرف « نيويورك » فعش فى باريس ، وفى هذا القول اجتمعت كل الحقيقة .. من المدائن والناس..

وأردت أنا ( والقياس مع الفارق بينى وبين الروائى العظيم ) .. أن أعرف القاهرة فعشت فى « طوكيو » .. وحرام أن تظلم القاهرة فى هذه الأيام ، لأنها تمر بمحنة سوء الإدارة .. ومن هذه النازلة تتفرع جميع المساوئ .. سقطت بعض العمارات العالية فى القاهرة ، والذى شيد البناء ساقط . وكل من كان له اتصال بهذا العمل ساقط .. سقطت هذه العمارات ، ولكن لم تسقط الأهرامات التى شيدت منذ آلاف السنين لم يسقط منها حجر واحد .. ولم تسقط قلعة صلاح الدين .. ولم يسقط القضاء العالى .. سيظل شامخًا لأنه فخر مصر .. ورمز مصر الحضارة ، وحصن مصر الأمين .

حرام أن تقارنها بطوكيو مع التشابه الكبير فى عدد السكان .. وعدد الرءوس التى تتحرك فى الشوارع والميادين .. حرام على قاهرة المعز الشامخة بنيلها العظيم .. وبكل مأَذنها ، وقبابها .. وبهجة أنوارها .. حرام أن تقارنها بطوكيو لأن قاهرة المعز .. غشاوة فى هذه الأيام وبعد أن تنجلى هذه الغشاوة .. قارن ما شئت وقارن .
التقيت بالطبيب اليابانى تاشيو فى مدينة « هانشو » بالصين فى المستشفى الضخم الذى يعالج جميع المرضى بغير عقاقير .. وتحدثنا عن فعل الطبيعة فى جسم الإنسان .. وعن الأفذاذ من الأطباء الذين برزوا فى هذا المجال .. ولما علم بإعزازى « بأكفادن » قربنى إليه أكثر ، ودعانى إلى زيارته فى المستشفى الذى يعمل فيه بمدينة « طوكيو » ..
ووجدته فى انتظارى على باب المستشفى .. ومعه طبيب فى مقتبل العمر فى مثل سنى ، خصصه ليتجول معى فى أرجاء المستشفى لأنه فى يوم راحته ويتقن الإنجليزية ..

وطالعنى وأنا داخل إلى أجنحة المستشفى السكوت المطبق ، ودقة النظام ، واستعمال كل وسائل العلم فى كل خطوة .. ومراعاة خبايا النفس البشرية ومتطلباتها ، فالإضاءة مختلفة فى كل جناح .. وكذلك الممرضة والطبيبة .. فهن مختلفات فى الزى والسلوك ودرجة الجمال ..

وقال لى الطبيب المرافق بعد جولة استغرقت ساعة :
ــ حدثنى الدكتور تاشيو .. برغبتك فى تحليل الدم ..
ــ نعم .. وأرجو هذا ..

ودخلنا فى جناح طويل بلون البنفسج كل ما فيه يلمع .. وقدمنى المرافق إلى طبيبة شابة ..

وخلعت معطفى الأبيض المعقم وجاكتتى وقميصى .. وأسلمت لها ذراعى ..

فقالت برقة :
ــ سنأخذ الدم مرتين .. وبين كل مرة زمن ..

ولاحظت وهى تمسك براحتى أن ظفر الإصبع السبابة .. مهروس ..

فقالت وهى منكسة رأسها :
ــ هناك ظفر جديد ينمو مكان هذا .. انظر ..

فقلت وأنا مأخوذ بعظمة الخالق !
ــ سبحان الخلاق العظيم .. إننا بكل علمنا وتقدمنا فى الطب والجراحة ، والفلك والدوران حول الأرض والصعود إلى القمر .. لا نستطيع أن نخلق مثل هذا الظفر .. وهو أضأل شىء فى جسم الإنسان ..
ــ هذا حق .. فلماذا يشمخ الإنسان بأنفه ويتكبر !!

وقالت وهى تضم ذراعى دون أن تنظر إلى وجهى :
ــ وحدك فى طوكيو .. ؟
ــ نعم ..
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ رائع .. هناك الفتيات الجميلات يعملن فى كل الطوابق .. !
ــ ولكنهن ينصرفن فى الليل .. بعد العاشرة !
ــ ويعدن لإيقاظك فى الصباح .. فغيابهن قصير .. !
ــ ولكنى مشغول بعملى إلى درجة تفقدنى كل تسلية ..
ــ مهما يكن عملك .. ولكن خسارة أن تكون بطوكيو .. ولا ترى قصر الإمبراطور .. ولا ترى « جنزا » فى الليل .. ولا تزور « فوجى » ..
ــ زرت هذا كله فى المرة السابقة ..
ــ إذن فقد جئت إلى هنا من قبل .. ؟
ــ نعم ..
ــ لا شك أنك تحب المدينة .. وإلا ما كررت الزيارة ..

وابتسمت بوداعة .. ووضعت عينة الدم مع بطاقة صغيرة باسمى وسنى فى طاقة مستديرة .. ونزل كل شىء بشريط كهربائى إلى المعمل .. وجاءت فتاة أخرى أصرت على أن تساعدنى فى لبس ما خلعته من ملابسى .. وقادتنى إلى حيث يوجد الدكتور .. تاشيو ..

وفى مكتب الدكتور تاشيو .. قال لى ..
ــ سنشاهد معًا .. بعد ربع ساعة عملية تدليك للقلب فى الجناح 21 .. وسيقوم الدكتور هيكامو بعملية فى الكلية .. ويمكنك أن تشاهد هذه العملية على شاشة التليفزيون ..
ــ قد أكتفى بعملية تدليك القلب .. لأن عملية الكلية لا يتسع لها وقتى..
ــ كما تحب .. ويمكنك الاكتفاء بعملية الإعداد للعملية الثانية ، وترى كيف تجهز الغرفة ، وفى هذا فائدة كبيرة لك ..
ــ شكرًا عظيمًا .. يا دكتور لكل أريحيتك وسماحة نفسك واهتمامك ..

وكان مريض القلب سمينًا متوسط القامة ، ويبدو فى الخمسين من عمره .. ولم تكن ملامح وجهه يابانية وإن كان ينطقها ..

ومده على طاولة بيضاء بذراعين ، وهو شبه ميت ، وحوله ثلاثة من الأطباء.. وكانت الأنوار فى زرقة ، وفى الغرفة رائحة أشبه برائحة البنفسج .

ووقفت أنا والدكتور تاشيو فى جانب .. وبدأ مسح الجسم بخفة من يد طبيب شاب ، قصير القامة ، هادئ الملامح والطباع .. ثم قامت طبيبة بعملية تدليك القلب .. ببراعة وسرعة .. وخيل إلىّ من سرعة يدها أنها أخرجت مضخة القلب فى يدها ثم ردتها ..

وتنفس المريض وعادت عيناه تسبحان فى الزرقة .. وأمسكت ممرضة برسغة وجست نبضه ..

وخرجنا إلى بهو جميل التنسيق مزهر .. وقدمنى الدكتور تاشيو إلى الطبيبة التى قامت بالعملية فهنأتها بحرارة ..

وسألتها :
ــ هل كل العمليات ناجحة يا دكتورة .. ؟
ــ بالطبع .. إذا كانت للمريض رغبة فى الحياة !
ــ وإذا لم تكن عنده الرغبة .. ؟
ــ لا فائدة من الطب إطلاقًا ..
ــ ما أعظم حكمتك !

وأصرت على أن تقدم لنا الشاى والفطير .. فى صالة المستشفى العلوية ..

ولاحظت من الوجوه التى التقيت بها فى المستشفى والشارع أن اليابانى سيظل يابانيًا فى خلقه وطباعه وسلوكه العام والخاص .. وأنه لا يختلط بأحد.. ولا يحب الاختلاط بالغريب .. وفى طبعه التفرد .. وهو جم التهذيب وسريع الابتكار والحركة ، كما أنه سريع التحول .. وهو ينحنى لك ثلاث مرات إذا أسمعته كلمة حلوة .. ولكن إذا أغضبته وأهنته طعنك بالسونكى .. والمرأة لاتزال تلبس الكومينو .. وتنحنى فى الشارع للسيدة الأكبر منها سنًا .. وتحمل طفلها على ظهرها بطريقة بديعة .. وتتحدث بصوت ناعم كزقزقة العصافير .. وكعاملة فى المتاجر الكبرى ، والفنادق ، والمطاعم ، وقاعات الشاى تسيل رقة وعذوبة .. وكأنها تخرجت فى مدرسة أعدتها لذلك العمل..

وتمشى الوجى فى الطريق .. يعنى بخطوات قصيرة .. كظاهرة مميزة على النعومة والرقة ، وهما من متطلبات الأنثى ..

ولكنك تشاهد إلى جانب هذه من تلبس الزى الأوربى الخالص .. وتقود السيارة بسرعة 100 كيلو فى الساعة .. والجيل الحديث كله من النساء والرجال يتحدث الإنجليزية .. أما كبار السن فندر منهم من يعرفها .. إلا إذا كان يشتغل بالتدريس ومن أساتذة الجامعات .

وشكرت الدكتور تاشيو .. واستأذنت فى الانصراف ..

فقال لى الدكتور :
ــ أتعرف الطريق إلى الفندق .. ؟
ــ نعم .. لقد جئت وحدى ..
ــ إذا اختلطت عليك المعالم فى الليل .. نستطيع أن نرافقك ..
ــ شكرًا .. طوكيو ليست غريبة علىّ .. أعرفها كما أعرف القاهرة .. وسأركب المترو .. وسينزلنى فى شمباسى ..
ــ نعم .. المترو أحسن من التاكس .. لأن المسافة طويلة ..

وسلمت على الجميع .. واتخذت الطريق إلى المترو .. والليل زحف وخيم .. وسماء طوكيو تموج بالبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء ، وهى تتلألأ وتسطع فى كل مكان .. وأينما ترفع رأسك تشاهدها تتراقص .

لم تتغير طوكيو عما شاهدته منذ سنوات .. سوى أن العمارات الحديثة انطلقت إلى عنان السماء .. وكثر هذا فى قلب طوكيو .. ولا تزال فى أطراف المدينة المنازل الخشبية القديمة من طابقين ومن طابق واحد .. وهنا يبرز الكومينو فى الطريق والبيت .. ويعد أجمل اجتماع على شرب الشاى ..

المستشفى يقع فى حى هادئ وعلى طريق جانبى ، ولكن لما خرجت منه إلى الطريق العام شعرت بحركة المرور السريعة .. كان المارة يتحركون بسرعة عجيبة ويهبطون من الأفاريز إلى الأنفاق ..

ونزلت درجات قليلة إلى نفق المترو .. ولم يكن فى المحطة أكثر من عشرة أشخاص من الرجال والنساء .. وعللت ذلك بكثرة القطارات التى تمر .

وركبت أول قطار قادم .. ويبدو أنه أحدث القطر التى سيروها على الخط.. فقد كان متأنقًا متألقًا وفخمًا .. ومقاعد العربة من القطيفة الزرقاء ، صفت فى صفين .. المقعد المفرد .. ومن هو على شكل كنبة طويلة .. فاخترت المفرد .. ولم يشعر بدخولى الركاب .. لانشغالهم بحالهم .. وللسكون المطبق على العربة .. وفى المحطة التالية ركبت جماعة امتلأت بهم المماشى .. وما جلسوا حتى عاد السكون .. وبرز راكب واحد من بين ركاب العربة جميعًا .. أحس بوجوده كافة الركاب .. فقد تمدد على كنبة طويلة شغلها وحده .. ومد حذاءه فى وجه الركاب جميعًا .. وبدأ يهذى بصوت عال .. وبكلمات غير مفهومة .. كان فى أقصى حالات السكر .. ويرتدى بنطلونًا غامقًا وصدارًا من الصوف فى لونه .. وكان فى قامة اليابانيين .. ولكنه ممتلئ الجسم بادى العضلات كأنه صب فى قالب صبًا ، وخرج على هذا الطراز المتماسك .

وظل يهذى والعينان تقدحان بالشرر وفى جلسته وكلامه وقاحة .. وعجبت لمقابلته بالصمت والسكوت من الجالسين حوله .. وليس من طباع اليابانى الجبن ولا الاستكانة .. فهو أشجع خلق اللّه .. ويهزأ بالموت ، والحياة عنده رخيصة ، ويستهين بنفسه فى لحظات كدرت عليه الحياة وضاق بها ..
شاهدت مثل هذه العربة وهذا المخمور فى فيلم أمريكى .. وقابله الجالسون فى العربة الأمريكية بالصمت الأخرس الذى طال .. ودعا إلى الضجر والنفور والتقزز .. ثم تحرك جندى معوق فى العربة وأسكت هذا المخمور إلى الأبد .

فهل يحدث مثل هذا الآن فى العربة اليابانية التى أركبها .. ؟ حدث أن قال المخمور اليابانى كلامًا أضحك فتاة كانت تجلس إلى مقعد بجانب مقعدى.. فلانت ملامحى لضحكتها .. وضحكت مثلها ..

وانتصب المخمور وهو لا يكاد يتماسك واتجه إلينا وفى عينيه يقدح الشرر الضارى ويبرز الجنون الأعمى ..

وقبل أن يصل إلى الفتاة .. أدركته يد قوية من جالس طرحته أرضًا ..

وكان القطار فى هذه اللحظة يهدئ من سرعته وهو داخل المحطة ، وعندما فتح الباب وتوقف القطار طرح اثنان من الركاب بالمخمور وألقياه على الرصيف .

حدث كل هذا فى خطف البرق وسرعة عجيبة حتى إن نصف ركاب العربة لم يشعروا بالذى جرى ..

وتحرك .. وبدت الأنوار القوية تلمع فى الشوارع وفى سقف العربة ، والكل فى سكون .. وخفت من هذا السكون .. وخشيت أن يكون هذا القطار من الطراز الذى يتحرك من غير سائق .. فأنا منذ ركبت لم أر وجه سائق ولا سحنة كمسارى . واستقر رأيى على النزول فى أول محطة يقف فيها القطار ..

ونزلت والليل من حولى كله ضياء ، والجو رائع منعش .. والبالونات تسبح فى السماء من كل الألوان وكل الأحجام ..

ولزمت الرصيف الطويل متجهًا إلى الوجهة التى أتصور فيها الفندق .. وكلما قابلنى عابر سألته عن الفندق ، وجدته بالمصادفة لا يعرف الإنجليزية .. وتكرر ذلك وأنا أسير فى اتجاه واحد ثم أصبحت أدور وألف وحدى .. وأصبحت المفرد تحت البالونات .. فهل خلت المدينة التى يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين من سكانها ومن البوليس .. وهل قادتنى قدماى إلى ضاحية ساكنة جامدة مهجورة من ضواحى طوكيو .. وأنا لا أدرى .. ؟

وشعرت بالخوف يشل حركتى .. وفى مثل خطف البرق لمحت عربة متوسطة من عربات السياحة اليابانية التى يعمل مثلها فى المطار .. فاستوقفتها صارخًا بالإنجليزية .. فوقفت وسألت عن الفندق ..

فقال الراكب الذى بجوار السائق :
ــ انزل واركب المترو .. خمس محطات .. !

وشكرته وأنا شاعر بالغيظ ..

واستأنفت السير وأنا أقول لنفسى ما أشد حماقة الإنسان .. لماذا لا أركب تأكسيًا وأتخلص من هذا الضيق . والمسافة ليست بالبعد الذى أتصوره فالبالونات لا تزال تتموج فوق رأسى والبالونات كلها فى قلب « جنزا » والفندق فى طرف من جنزا .. فلماذا الهلع .. ؟

  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #6
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وتخطيت الشارع وقد عاد إلى قلبى وبصرى الهدى .. لأشير إلى أول تاكسى يمر .. وفيما أنا أهم بذلك لمحت ضوءًا صغيرًا من لافتة تشير إلى «نزل». لافتة بالإنجليزية مضاءة بحروف صغيرة جدًا تتجاوزها العينان فى الليل .. ولكنى قرأتها بقلبى وبصيرتى ..

واتجهت إليها وقلبى يزداد وجيبه لشعور لا أعرف كنهه ..

وطالعنى وأنا أجتاز ممر الحديقة المعشب ، بسكون جامد ، حتى تصورت أن ليس بالنزل أحد .. ووجدت على كرسى بجانب الباب المغلق شيخًا يابانيًا.. أفسح لى الطريق بعد أن قرع جرس الباب ، وأدركت من زيه وعمله أنه خفير النزل ..

وخلعت حذائى ومشيت تحت الأنوار الخافتة على طرقة مفروشة بالحصر المضفر الملون .. إلى حيث توجد فتاة فى لباس الكومينو .. جالسة على حشية مزركشة ، وبجانبها طاولة ورفوف من الخشب .. وحييتها وأنا أقدم لها جواز السفر .. صامتًا .. مستغربًا .. محدقًا فى وجهها ببلاهة .. أخذتنى الرجفة ..

وسمعتها تقول بإنجليزية سليمة :
ــ لا داعى لجواز السفر .. هنا نزل خاص ويكفى أن تدون اسمك وعنوانك فى هذه البطاقة .

ودونت ما طلبته وأنا أحدق فى وجهها وأزداد تحديقًا واستغرابًا .. وسلمتها البطاقة .. فقرأت ما فيها ..

وقالت .. بصوت عال ..
ــ طبيب ..
ــ وكأنها سرت لأنى طبيب .. وأحمل هذه المهنة ..

وقلت :
ــ نعم .. وأنا قادم من مستشفى الدكتور تاشيو .. ورأيت هناك طبيبة تشبهك تمامًا .. شبهًا يدير العقل .. بل أنت فى الواقع .. التى كانت هناك .. وهذا ما جعلنى فى شبه ذهول ..
ــ أنا .. أنا ما برحت هذا المكان .. وعملى فى هذا النزل فقط ..
ــ ألك توأم .. ؟
ــ أبدًا ..

وضحكت من قلب طروب ..
وقلت وأنا أضحك أيضًا ..
ــ إن هذا لعجيب وهذه ليلة العجائب ..
ــ أهذه أول ليلة لك فى طوكيو .. ؟
ــ لا .. نزلت طوكيو منذ عشرة أيام .. وأقيم فى فندق دايتشى .. وحدث أن ضللت الطريق إلى الفندق ، وأنا راجع وحدى من المستشفى .. وهدانى قلبى إلى هذا المكان .. لأقضى فيه ليلة .. بدلاً من الدوران بالتاكسى..
ــ جميل أن تستدل علينا فى الليل دون دليل .. لأن اللافتة الخاصة بالنزل مكتوبة بحروف دقيقة لا تكاد تقرأ .. !
ــ هذا من حسن حظى ..
ــ والآن .. سأريك الغرفة ..

وسارت أمامى فى طرقة مستديرة مزينة بالأصص والورود والزخارف اليابانية .. وعلى الجانبين حجرات منها الصغير والكبير ، تقسم بأبواب خشبية متحركة حسب الرغبة ..

وقالت تشير إلى غرفة وصلنا إلى بابها :
ــ اخترت لك هذه الغرفة ..
وأرتنى غرفة جميلة مفروشة بالحصر والحشيات والمساند .
ــ لا توجد أسرة فى نزلنا وستنام على الحصير !
ــ لقد نمت على الحصير مع جدتى فوق سطح بيتنا .. أعوامًا طويلة .. فهى ليست غريبة على مثلى ..

ونظرت بتأمل ثم قالت :
ــ سأجىء لك بقميص .. فليس معك بيجامة !
ــ شكرًا .. وأستطيع أن أنام بالبنطلون والقميص .

وأزاحت بابًا جانبيًا صغيرًا .. وهى تقول بزهو لأنها تعرف أن ما تقوله يسر كل مسافر ..
ــ والحمام داخل الغرفة ..
ورأيت المناشف والمرايا والنظافة والأناقة ..

وسألتها وأنا أحدق فى البانيو الصغير الحجم .. وهو معد قطعًا للمرأة قبل الرجل ..
ــ سمعت أن المرأة اليابانية تستحم كثيرًا .. فكم مرة فى اليوم ..
ــ ثلاث وأربع مرات .. !
ــ ثلاث وأربع مرات .. وليس عندكن النيل مثلنا .. وإذا وجد النيل فكم مرة .. ؟
ــ ولا مرة .. !!
وضحكنا كثيرًا .. لأن هذا ما يحدث فعلاً ..

وسألت : أتعشيت .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ سنعد لك العشاء ..
ودلتنى على مائدة الطعام ..
ــ أتحب أن تتعشى الآن .. ؟
ــ الأحسن بعد ساعة .. لأنى أكلت فطيرًا مع الشاى فى المستشفى ..
ــ كما تحب ..

وتحركنا فى الطريق إلى الأمام .. لترينى حديقة « النزل » ومرت بنا عاملة وهى تمسح عبراتها .. وسألتها مرافقتى بالإنجليزية :
ــ ما الخبر .. ؟
فردت هذه اليابانية وهى تشهق حابسة عبراتها .. واجتازتنا مسرعة فسألت مرافقتى فى خجل :
ــ ما الذى جرى .. ؟
ــ فتاة من العاملات فى النزل ماتت .. مع أن الطبيب كان عندها منذ ساعة وطمأنها .
ــ ما الذى كانت تشكو منه .. ؟
ــ أشياء كثيرة .. عدة أمراض ..
ــ أمتزوجة .. ؟
ــ أبدًا .
ــ هل أستطيع أن أراها .. ؟
سأقول لماما .. وماما .. صاحبة النزل لأن بابا ميت ..

وجلسنا فى البهو على الحشيات .. وجاءت ماما سريعًا ، تلبس البياض فى بياض .. لأنها بيضاء فى قمة رأسها وما لفته حول عنقها .. وتدثرت به حتى قدميها .. وطالعتنى بوجهها السمين ، وبعينيها الساكنتين .. وكان معها شيخ يابانى جلس صامتًا يحدق فى وجهى .. ولم يقدمه لى أحد .. فأدركت أنه من أقربائهن ..

ولم يطل الصمت .. حدثت الفتاة أمها برغبتى .. وتحركنا جميعًا إلى غرفة الميتة ..

ودخلت وهم حولى وركعت على الأرض بجانب الميتة .. لأنها كانت مطروحة على خشية .. وتبدو صفراء ذابلة كأجمل الورود .

ورفعت رأسى وأشرت إلى النافذة .. وهم يتفرسون باستغراب وفضول .

ونظرت إلى عينى الميتة وحركت الجفن .. ورأيت فى الشعيرات الدقيقة للعين الحياة .. الحياة ..

وقلت لمن حولى بزهو :
ــ إنها لم تمت ..

وخرجت من الجموع الواقفة همهمة عالية ، وصرخة عفوية مكتومة ، مع كل ما هم عليه من تهذيب ورقىّ .

وتحولت سريعًا إلى الفتاة مرافقتى وقلت لها :
ــ استدعى طبيبها أو أى طبيب يابانى حالاً ..
ــ وأنت .. !!
ــ أنا لا أستطيع أن أزاول المهنة هنا .. من غير تصريح ..
ــ أرجوك يا دكتور « حسن » أن تنقذها .. لعنة اللّه على التصريح .. إن حياة هذه المسكينة على يديك ..
ــ سأشترك مع الطبيب اليابانى عندما يجىء .. فلا تراعى ..

وكنت أعرف أن الطبيب فى اليابان يأتى فى زمن يقل عن ثلاث دقائق .. وأقل من هذا الزمن يأتى الإسعاف والبوليس .. ولذلك لم أشعر بالقلق على المريضة ولم يؤنبنى ضميرى .. لأنى تركتها من غير علاج بعد أن عرفت أنها حية ..
وجاء طبيبها وقدمونى له .. وحدثته على عجل .. وأصبحت أنا وهو والسيدة الكبيرة والفتاة مرافقتى داخل الغرفة وخرج الجميع وأغلقنا الباب .

وكشفت الفتاة عن صدر زميلتها .. وشعرت بالخجل وأنا أرى هذا الجمال الأسر .. سبحان من أعطى المرأة اليابانية كل هذه النعومة وهذه الأنوثة وهذه الفتنة وسلبها من الرجل .

وقفت خجلاً مبهورًا والفتاة تكشف فتنة الأنثى فى منبع الأمومة والرضاعة والحنان .

كان الطبيب اليابانى يرغب فى إعطائها حقنة فاعترضت بأدب .. وقلت له :
ــ إنها الآن فى حاجة سريعة إلى تدليك أولاً .. وبعد ذلك تأتى الأدوية والحقن ..
وأخذ الطبيب بوجهة نظرى وانحنى عليها وأخذ يدلك قلبها .. ونظرت المرافقة إلى ناحيتى .. فابتسمت وأدركت غرضها ..

وقلت للطبيب اليابانى بأدب :
ــ هل تسمح لى بمساعدتك يا دكتور .. !
فتنحى جانبًا ..

وركعت بجانب الميتة .. وحدقت فى عينيها .. ووضعت خدى على قلبها .. ولمست يداى صدرها .. وأخذت أدلك فى نعومة ودقة.. ولأول مرة أنسى نفسى وأضع فمى على فمها وأنفخ فيه بحرارة .. وشعرت بشرايين الحياة .
وفتحت المريضة عينيها بثقل .
وفى غمرة الفرح بنجاة الفتاة طوقنى الطبيب اليابانى وكل من كان فى داخل الغرفة .

وقلت للطبيب :
ــ إن هذه الخبرة تعلمتها منكم والدكتور تاشيو هو أستاذى وأنا فخور به كأستاذ .

وأحنى رأسه محييًا .. ورأيت أن يبقى هو بجانب المريضة ، ويعطيها ما يشاء من الأدوية .

وقادتنى المرافقة إلى غرفة الطعام .. وهى تطير من الفرحة ..
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #7
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..

وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..

وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .

وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .

وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .

واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .

وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
ــ بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
ــ وإذا مشيت .. ؟
ــ تصل صباح الأربعاء ..

وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
ــ وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
ــ أريد أن أرى السفينة ..
ــ أية سفينة .. ؟
ــ السفينة الراسية على شط جنزا ..
ــ غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
ــ وركابها .. ؟
ــ غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
ــ ولكنهما التقيا ..
ــ أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
ــ قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
ــ أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
ــ اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
ــ لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
ــ ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
ــ أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..

وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..

وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .

ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .

وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
ــ أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..

وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
ــ وبكم المشاهدة .. ؟
ــ الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..

ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
ــ إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
ــ ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .

وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..

وسألتنى :
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..

وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..

وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..

بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .

وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..

وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..

وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
ــ أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
ــ سأذهب معك ..

وحاولت أن أقول شيئًا ..
ــ لا تفتح فمك ..

وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..

وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..

ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .

وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .

قالت بظل ابتسامة :
ــ تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
ــ أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
ــ سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
ــ ما عمله .. ؟
ــ إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .

لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
ــ وابنك .. كبير .. ؟
ــ عمره ست سنوات

وأحسست بالأرض تدور
ــ أحب أن أراه .

فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
ــ أمعك صورة له ..!
ــ معى ..
ــ أرينيها .. أرجوك ..
ــ أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..

وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #8
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الشيخ عمران


وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..

كانت عندنا فرس من كرام الخيل ، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها ، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل ، أم ذهبت على وجهها فى الحقول ؟!..
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر ..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ عمران فى النجع .. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق ..
وراح الخدم يخرجون الخيل .. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية ، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر . وكان معى خفيران من خفراء المزرعة ، مسلحان بأحدث طراز من البنادق ، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد ..
وأخذ مسعود ـ أحد الخفيرين ـ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى.. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له ، فمر تحته قارب صيادين ، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج ، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه ، وأحس بهم الشيخ عمران .. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال ، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك !..

وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية الوليدية فى أسيوط .. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز ، وأخذ يحصدهم حصدًا ..

ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان ، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان ، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع .. وأدير الكوبرى .. ومر العرب يقرعون الطبول ..

قص على مسعود هذا وغيره . وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران ، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا ، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها .. وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها .. إنه رجل رهيب ، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها ، وإذا تنكر لقوم بطش بهم .. مسحهم من الوجود مسحًا .. بدأ حياته كقاطع طريق صغير ، ثم تطور وعظم أمره ، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا ، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا ..

ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال ، رجلا فى طول المارد وبطشه ، له جسم ثور وقوة عنترة .. دائما مسلح ، دائما مقاتل ..

واقتربنا من النجع ، وكانت الجياد تتصبب عرقًا ، والتعب قد بلغ منا منتهاه . ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح ، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة .. والكلاب تنبح فى كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل ..

ولم نجد الشيخ عمران فى النجع ، بل كان فى جزيرة وسط النيل ، فتركنا الخيل فى النجع ، وركبنا زورقا إلى الجزيرة ..

* * *


وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة . ولقد ذهلت عندما رأيته ، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة ، مدور الوجه جامد الملامح ، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام ، جاوز الخمسين هادئًا ، ساكن الطائر . هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها ؟!..

رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة ، ولم يكن يلقى باله إلينا ، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض !! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا ... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد ..؟!

وعرف مسعود ، ونظر إلىّ قليلا ثم قال :
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم ؟..
ـ أجل ..

فرحب ، وفرش لى زكيبة وجلست بجواره فى الظل ، وعيناى لا تتحولان عنه . لا ، إننى مخطئ . إن نظرتى الأولى كانت عاجلة . إن هذا الرجل ليس كالرجال ، إنه من طراز آخر ، إن له شخصية جبارة ..

وشربنا القهوة ، وحدثته عن الفرس ، فضحك وقال :
ـ لم يبق إلا هذا ..!
ثم أردف :
ـ لقد شرفتنا ، ونحن فى موسم الإيجار ، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا ، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى ، وتعود إلى والدك محملا بالمال ..

ابتسمت وشكرته ، إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة ..

وتغدينا وأكلنا البطيخ ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما :
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية ...
ومشى معى يطوف بالحقول ..

* * *


مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة ، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران ، كانوا فى أخصاص من البوص قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول . لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها ، فإذا بصروا بنا نهضوا ، وزجروا الكلاب ، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه ، فإذا رفضنا قال فى حماسة :
ـ إن هذا لا يصح .. إن هذا لا يصح ..

ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه .. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها .. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا ، ولا خنجرًا ولا بندقية .. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران ، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة .. إنها فى قبضة مارد جبار .. وحدثته عن هذا ، فنظر إلى مليًا ، ثم قال مبتسمًا :
ـ إن كل شىء هنا حسن .. والشر يجىء لنا دائمًا من المدينة ، عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق ، يعرف الشاى الأسود والتمباك والحسن كيف .. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة ، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق .. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين ، ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل ، والملاهى البراقة فى كل مكان ، يرى كل هذا ، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا ، كان كمن ضرب على أنفه ، إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات ، وروث البهائم .. هل أنا كائن حى ..؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا؟.. هل أنا من طينة هؤلاء ؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا . وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة ، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة .. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا .. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار .. ويغشون ويخادعون ، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل ، لأنك صاحب الأرض ، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم ..

فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى :
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون .. ظلم أجيال وأجيال . إن الفلاح المصرى يسرق ، ويخادع ، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين ، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ..؟

ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا ..

وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة ، ونودع الشمس الغاربة ..

* * *

ابتدأ النساء فى الجزيرة يخرجن من الأخصاص ، وعلى رؤوسهن الجرار ويتجهن إلى النيل . رأيت سواعدهن البضة وهى تتحرك من بعيد ، وبعض وجوههن النضرة .. كن يمشين فى خفر أسرابا ، وكن جميلات فاتنات ..

ونزل الشيخ عمران إلى النيل وتوضأ ، ولما غربت الشمس صلى ، وعاد فجلس بجوارى صامتًا ، وكان الظلام يتساقط رويدًا رويدًا ..

وتعشينا ، وفرشوا لى لأنام ، كان الشيخ عمران يود أن أنام داخل الخص ولكننى رأيت أن أنام فى العراء لأرى هذا الرجل الرهيب فى الليل ..
إنه لا يدخن ، وهو رجل قليل الكلام ، كثير الصمت ، وصوته ليس جهوريا ، ولكنه قوى آمر . ولعل ذلك راجع إلى أنه تعود صيغة الأمر دائمًا فى حديثه مع الناس . وهو فى الليل لا يغير ثوبه كما يفعل كثير من القتلة ، وإنما يظل كما هو لا يتغير فيه شىء .. تتركز حواسه كلها فى باصرتيه ويغدو خفيف الحركة ، سريع اللفتة ، يقظ السمع ، يرنو ببصره إلى بعيد ، لقد أدركت قوة بصره فى الليل وهو يرى من وراء الأبعاد ، ويخترق به حجب الظلام ، ويسمع أدنى حس . كانت تمر تحتنا قوارب الصيادين ، وكان يسمع حركة المجاديف وهى مقبلة من بعيد ، فإذا اقتربت من رأس الحجر فى طرف الجزيرة صاح بصوته المرعب :
ـ من هناك ..؟
ـ نحن يا عم الشيخ عمران ..
ـ ابتعد عن الحجر وخليك إلى الشرق ..
ـ حاضر ..
إنه لا يريد أن يقترب أحد من عرينه .. إنه قاتل ، والقاتل فى الصعيد دائما مطارد ، ولو عاش ألف عام . وعندما يخور الشيخ عمران ويستضعف سيتمزق إربا ، ولقد خلف وراءه فتيانا أشداء ، وله أسرة مرهوبة الجانب ، وقد يعيش فى هذه الشيخوخة فى ظلها وعلى حسها ، وإن كان لا يزال شامخ الأنف ، لم يسقط فى حياته سقطة واحدة ..

شمل الظلام كل شىء ولفنا فى ردائه ، ونام من معنا من الفلاحين ، وبقيت ساهرًا مع الشيخ عمران . لقد شعرت بطراوة الهواء ولينه ، وعمق السكون ، وكنت أود لو أتمرغ على الرمل وأنزل لأسبح فى النيل ، كان كل شىء ساكنا ، والطبيعة سافرة طليقة من كل قيد ، تشعر الإنسان بالحرية الصحيحة ، كنت أشعر أننى قد تحررت من قيود المدنية الزائفة وأخذت أنظر إلى النجوم البراقة فى السماء ، وإلى الغياهب .. غياهب الليل .. وإلى النيل الجارى تحتنا ، وإلى مزارع النيل من حولنا .. وأتأمل وأفكر ..
إن الشيخ عمران يجلس على هذه الربوة وحيدا فى الليل ، وأولاده فى كل مكان ، معاذ فى الماكينة ، و سلمان فى النجع ، وعبد الكريم فى الجبل ، ولكن أنفاسهم جميعا معه ..

وفى الهزيع الثانى من الليل ، رأيته يدخل العريشة ويعود وفى يده شىء ، إنها بندقيته .. وهى من طراز هندى ككل البنادق التى تراها فى الريف .. ولكنها فى يده شىء آخر .. وضعها بجانبه واستلقى وعينه إلى الغرب .. وضعت رأسى على الفراش وحاولت أن أنام ، فالشيخ عمران ساهر علينا جميعا ، ولكننى لم أنم ، وظللت أراقبه .. تحرك ، ومد البندقية .. وأطلق .. أطلق فى الهواء .. وسمعت صوت الطلقة وطاف بذهنى شىء .. لقد تذكرت ، سمعت صوت هذه الطلقة فى الليل من قبل ، كانت طلقة واحدة تنطلق فى ساعة معينة بعد نصف الليل .. وكنا نسمعها ونحن فى أجران العزبة ، ونصيح فى صوت واحد :
ـ الشيخ عمران !..
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #9
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


إنه ظل على عادته يرسل هذه الطلقة كل ليلة .. طلقة واحدة ليس إلا ، ثم يضع البندقية تحته وينام ..

اعتمدت بمرفقى على تل من الرمل ، وأقبلت أتحدث معه .. أخذ يحدثنى عن مغامراته فى الليالى السود ، والمعارك الدامية التى تحدث فى القرى على لا شىء .. وحوادث السرقة فى وضح النهار ، والزمن الذى تطور ، وطوى معه كثيرا من القتلة فى الريف .. كان حديثه طليا ساحرا يستغرق الحواس كلها ..
طلبت منه أن يحدثنى عن أول حادثة قتل فى حياته ، فتجهم وأطرق طويلا .. لقد نبشت دخيلة نفسه .. إنه يتذكر .
رفع رأسه وقال فى صوت متغير :
ـ سأحدثك يا بنى ..
وأطرق مرة أخرى ، ثم رفع رأسه وقال :

كان ذلك منذ سنين طوال .. كنت فى صباى .. وكان والدى يحب أن يزوجنا صغارًا ، فزوجنى من ابنة عم لى ، على عادة العرب فى قصر زواجهم على الأقارب .. وكانت صغيرة .. وكنا قد شببنا معا ، ورعينا الغنم معا ، فكان حبى لها قويا .. وكان كل شىء فى الحياة يمضى رتيبا ثقيلا .. لم تكن الحال كما تراها الآن آلات للرى ، وزراعة ، وعمران ، بل كان جدبا شديدًا وفقرًا شاملا ، كنا نعيش من بيع الملح .. نجىء به من الجبال ونبيعه فى القرى النائية . وكنت أطلب الرزق أينما وجد . فلم يكن من السهل على رجل فى مثل شبابى ورجولتى أن يتبطل ..
وكان هذا الفقر يدفع العرب إلى السلب والنهب ، وقطع الطريق على الناس .. فكانت الحوادث تترى ، والرصاص يدمدم فى كل ساعة ..
وحدث أن أغار جماعة من العرب على مزرعة واستاقوا مواشيها ، وقتلوا خفيرا من خفرائها .. وجاء الجند ، وعلى رأسهم ضابط طوقوا النجع .. وبدأوا يفتشون فى بيوتنا لأنها فى اعتقادهم وكر الجريمة ..! وكنت غائبا ، ودخلوا بيتى وفتشوه ، وسأل الضابط « جميلة » زوجتى :
ـ أين زوجك ..؟
ـ مسافر يا سيدى منذ شهور يجرى وراء معاشه ..
ـ ومن الذى وضع هذا فى بطنك إذن ..؟
ووضع أصبعه على بطنها ، وكانت حبلى « بمعاذ » ..
فعل هذا وخرج .. وصعقت المسكينة .. وطار الخبر فى كل مكان ..

وعدت من سفرى وسمعت بما حدث وأنا فى الطريق .. ودخلت البيت ولكننى لم أحادث جميلة ولم أر وجهها .. وتناولت بندقيتى وخرجت .. وذهبت عند صديق لى فى الجبل ، ومكثت عنده أياما .. وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..

وتركت البندقية عند صاحبى ، وخرجت متنكرا أطوف حول « النقطة ».. ورأيت خير ما أفعله أن آخذه ، وهو خارج للدورية ، بعيدًا عن النجع والقرى المجاورة لنا ..

وخرجت فى ليله سوداء لا أنساها ما عشت ، ففى هذه الليلة تقرر مصيرى يابنى ، ورسم القدر خط الحياة لى .. وكانت ليلة من ليالى الشتاء ، ضريرة النجم شديدة البرد ، وكانت معى بندقيتى وخمسون طلقة ، وكنت على استعداد لأن أقاتل جيشا بأسره ، وأفتك بكل من يعترض سبيلى حتى ولو كان أبى ..
كانت ثورتى جامحة ، وغضبى لا يصور ..
وكمنت فى زراعة قصب ، وانتظرته وهو مار على ظهر جواده فى الطريق.. وجاء .. وصوبت وسقط ..
وأطلق العساكر النار ، ولكن طوانى الليل ..
وبت هذه الليلة فى بيتى ، واستطعت أن أقابل « جميلة » ..

وصمت الشيخ عمران قليلا ثم أضاف :
ـ بعد هذه الليلة يا بنى تغير فى كل شىء ، وجدت شيئا جديدا يعتمل فى داخل نفسى ، واستطعمت رائحة البارود ، وأصبحت حياتى كما تعرف وترى .. وأنت لا تستطيع أن تغير الدم .. الدم الجارى فى عروقك ، أو تمحو أثر البيئة ، وأنت تتعلم وتتهذب وترقى ، ولكن دمك سيظل عربيا لأنك ولدت فى النجع ونشأت فى النجع ، وفى هذا الجو الطليق عشت ، وتنفست أول نسيم للحياة ..

وصمت الشيخ عمران وتركنى لأنام ..
مضى وحده فى الظلام ، فقد سمع نباح كلاب شديد ..


* * *

بعد قليل عاد إلى مكانه ، وكانت الكلاب قد كفت عن النباح ، وعاد السكون .. وكانت النجوم تهوى فوقنا متعاقبة ، والظلمة شديدة ، والماء يجرى تحتنا ويهدر .. ومن ساعة إلى أخرى كنا نسمع صوت رصاصة تنطلق فى الجو .. لابد من هذا فى الريف ، كان صوت الرصاص مألوفا عند الفلاحين ..

بل لعلهم يأتنسون به أكثر من صوت الكلب ، وصوت الإنسان ، ويشعرون بالوحشة عندما يشتد السكون ..

غلبتى النعاس ، وصحوت والشمس تغمر وجهى ، ولم أجد الشيخ عمران .. وسألت عنه فقيل لى :
ـ انه ذهب إلى النجع ..
ورأيته بعد ساعة مقبلا من بعيد يمشى تحت وهج الشمس .. ووراءه ابنه معاذ .. معاذ الذى يحرس « الماكينة » بذراع واحدة .. فقد ذهبت ذراعه الأخرى فى حادث .. كان وهو غلام فى « الماكينة » ومعه أخوه الأكبر .. وذهب أخوه إلى القرية ليجىء بشىء ، وتركه وحده .. فهجم عليه اللصوص فى الغروب .. وظل يقاتل .. واخترق الرصاص ذراعه ، ومع هذا لم يستسلم ، ولم يستطع أحد أن يقترب منه ، أو يمس حديدة فى « الماكينة » .. هذا هو معاذ ، إنه من دم عمران ومن صلبه ، كان يجىء إلى قريتنا كثيرا يحمل الإيجار ، ويحاسب على الأرض ، وكنا نعرفه جميعا .. وكان إذا تأخر واحد من إخوتى فى الليل ، أو بات فى الأجران ، سأل والدى عن الذى معه .. فإذا عرف أنه معاذ اطمأن وكف عن السؤال .. كنا نسميه « أبو ذراع » وكان واسع الحلم طيب المعشعر .. فإذا غضب انقلب أسدًا ..

حيانى معاذ وجلس .. وبعد قليل تحركت ذراعه .. ودفع يده فى جيبه وأخرج صرة ناولها لى وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامة :
ـ هذا إيجار زراعات الماكينة جميعا ..
ـ جمعته كله يا معاذ ..
ـ أجل ..
ـ ولم يبق أحد .. ؟
ـ ولم يبق أحد ..
ونظرت إليه ، وكان يبتسم وعيناه تلمعان .. إنه صورة من والده .. نفس النظرة القوية .. ونفس الملامح الصارمة .. ونفس الشخصية الجبارة التى تفرض نفسها على من حولها ..

جمع الشيخ عمران باقى المستأجرين ، وشغلت طول النهار بتحصيل الإيجار ، وفى المساء وضعنا الأوراق المالية والفضة فى كيس كبير أعطيته للشيخ عمران فوضعه فى العريشة أمام الجميع ..!

وهبط الليل ، وكنت قد تعبت طول النهار ، فنمت فى أول الليل وصحوت على صوت طلقة .. لم تكن الطلقة التى تعودت سماعها من الشيخ عمران .. طلقة تذهب فى الهواء تدمدم .. لا .. إنها طلقة مكتومة .. رصاصة أصابت جسما واستقرت فيه .. فتحت عينى وتلفت حوالى .. لا أحد بجوارى غير عمران .. كان على قيد خطوات منى ، نائما على بطنه ويده تعمل فى البندقية .. لقد أخرج الظرف وألقى به بعيدًا ، ولما أحس بى ، وعرف أنى صحوت ، قال وهو يبتسم :
ـ لا شىء .. إنه ثعبان ! ..
ـ أقتلته ..؟

وصمت ولم يقل شيئا ، وظل وجهه مبتسما ، ويداه تعملان فى البندقية .. ثعبان .. ؟ تلفت مرة أخرى .. أرسلت بصرى إلى رأس الحجر كان هناك شىء أسود وفتحت عينى جيدًا ، وتفرست فى الظلام ، وتملكنى الرعب .. إنه رجل نصفه فى الماء ، ونصفه على الأرض .. وقد منعته الحجارة من أن ينجرف مع التيار ..

ولقد جاء بعد أن عبر النيل فى زورق أوسواه ليقتلنى أو ليقتل الشيخ عمران ، ولكنه انتهى فى لحظة واحدة وما أحس به إنسان ..

ونظرت إلى الشيخ عمران .. نظرت إلى هذا الرجل ، وحاولت أن أقرأ على وجهه شيئا ينم عن فعلته ، شيئًا يدل على أنه قتل نفسا بشرية ..

ولكنه على حاله .. لم يتغير فيه شىء .. إنه هادىء ساكن ، وما نبض فى جبهته عرق ، ولا إختلجت شفة ، ولا اهتزت يد .. أى قلب ..! وأى أعصاب ..! ومن أى طينة هذا الرجل .. إننى إذا ضربت خادما بعصا فى ثورة غضب ، أظل طول الليل أتململ فى فراشى ، والندم يأكل قلبى ، ولا أعود لنفسى إلا إذا طلبت من الخادم أن يصفح عنى .. أما هذا الرجل فهو يقتل إنسانًا .. ولا تتحرك فيه جارحة ، ولا يظهر على وجهه شىء .. أى قلب ..! وأى أعصاب ..!

بعد قليل تحرك ، ومشى إلى رأس الحجر .. مشى متمهلا ، ورأيته يدفع الرجل العالق بالحجر برجله .. وذهب الرجل مع التيار ..
وعاد عمران إلى مكانه كما كان أول الليل .. كأن لم يحدث شىء ..


* * *

فى أصيل اليوم التالى ، غادرنا الجزيرة إلى النجع ، وبعد أن استرحنا ، وشربنا القهوة فى مضيفة الشيخ عمران ، أمر بإعداد الركائب ، وكان هو وابنه « معاذ » سيرافقاننى إلى قريتى ..

ولما خرجت إلى الساحة ، وجدت فيها ما أدهشنى .. وجدت فرسنا التى سرقت مسرجة ومعدة لركوبى ..! ونظرت إلى ذلك الرجل الجبار نظرة امتنان وشكر .. سأعود الآن إلى قريتى مرفوع الرأس وكل ذلك بفضله .. ولقد علمت أن معاذًا جاء بالفرس منذ يومين وكتموا عنى الخبر لأفاجأ هكذا ..

وركبنا نحن الثلاثة وخرجنا من النجع . وكان الشيخ عمران يركب حمارًا وكذلك ابنه ، ولهذا سرنا متمهلين نقطع الطريق بالحديث والتندر مع معاذ .. وكان دائم المرح حلو الدعابة ، لا يكف عن الضحك ولا يعير باله لشىء فى الوجود وهو الرجل المقطوع الذراع .. وكانت وجوهنا إلى الشمس .. فلما غربت تنفسنا الصعداء ، وأسرعنا فى السير ، وكان الطريق على عادته مقفرا وكل شىء فى سكون .. وأخذ الظلام يشتد ويلف كل شىء فى ردائه الأسود ..

وكنا كلما أوغلنا فى السير زاد السكون ، واشتدت الوحشة فى الطريق .. وقطع هذا السكون دوى رصاص شديد انهمر فى غير انقطاع مرة واحدة ، واستمر عدة دقائق .. فتمهلنا فى السير ، وأمسكنا بالبنادق ..

وقلت للشيخ عمران وأنا أتسمع :
ـ عرس فى القرية ..
فقال وهو ينظر إلى ومض البارود :
ـ إنه ليس بالرصاص الذى يطلق فى الأفراح ، إنه شىء آخر ..

انقطع صوت الرصاص ، وخيم السكون من جديد .. وظللنا نرقب .. ورأينا من بعيد خطا أسود يزحف إلى الغرب .. ومددنا أبصارنا وتبين الخط الأسود .. وضح ما فيه .. إنها ماشية تساق سراعًا فى طريق غير مألوف .. وخلفها وأمامها رجال مسلحون .. لقد سرقوا هذه المواشى من القرية ، واشتبكوا مع الحراس فى المعركة التى سمعنا دويها . ثم تغلبوا عليهم وهاهم قد أفلتوا بالماشية يسوقونها سراعا ..

وترجل الشيخ عمران ، وأشار علينا بالنزول .. ترجلنا وبحثنا عن مكان نربط فيه الركائب ، ووجدنا ساقية خربة .. فربطناها فى ترسها وأخذنا نرقب .. تحول الرجال بالماشية إلى طريق آخر ، ومضوا فى الظلام وابتدأ عمران يعمل بسرعة .. تناول بندقيته ومضى فى أثرهم .. ولما هممنا بالذهاب معه ، رفض .. وحلف على معاذ بالطلاق أن يبقى معى فى الساقية ولا يتركنى حتى لو قتل .. وبعد أن تنتهى المعركة بخير أو بشر نستأنف السير إلى القرية ..

وخرج الرجل وحده ، رأيناه يمضى سريعا كما يمضى الليث فى الظلام ..

وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم .. ابتدأ عمران يقاتل وحده .. أخذت بندقيته تزأر .. إن له طريقة فريدة فى القتال ، كما أنه رجل فذ فى كل شىء ..

واستمرت المعركة حامية مدة . ثم انقطع صوت النار .. وخيم السكون ولاحت لنا أشباح تتحرك . تتحرك فى اتجاهنا . إنها المواشى . وها هو عمران وراءها يسوقها .. لقد خلصها من اللصوص وحده ..

ودخلنا بالمواشى المسروقه القرية ، واستقبلنا أهلها استقبال الفاتحين .. وكان عمران يسير فى المؤخرة وحده .. مطرق الرأس ، متواضعا كأنه ما فعل شيئًا ..

=================================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 7/12/
1946 وأعبد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان العربة الأخيرة و قصص من الصعيد
من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #10
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الغزال فى المصيدة


نزلت سنية من الترام تحمل صغيرها على صدرها .. وكانت شمس يوليو حامية الحر يلفح الوجوه .. وصعدت فى الشارع الطويل المؤدى إلى المستشفى وهى تحس بالتعب الشديد وبوخز الإبر فى عظامها ولحمها .. فقد أرهقها مرض ابنها ومزق أعصابها .. عالجته بكل الوصفات المعروفة دون نتيجة .. وأخيرا ذهبت به إلى المستوصف القريب من بيتها فأخبرها الطبيب بأنه مريض بالحمى ويجب نقله إلى المستشفى فورا ، وإلا ضاع بين يديها .. سمعت هذا وطار قلبها شعاعا .. وحملته إلى المستشفى وهى تحبس عبراتها ..
ولأنه وحيد وقطعة من كبدها وجاءت به بعد موت اثنين من ابنائها .. فقد تجمعت كالقوقعة واحتضنته وحرصت على أن يبقى لها .. ولا يموت كما مات من قبله .. وأن تزود عنه عاديات الأيام .. وكل الاعاصير التى تهب فجأة فى وجه الفقير .. وأن تكافح لتمرضه بكل ذات نفسها وكل ذرة فى جسمها ..
وكانت الشمس تتوسط كبد السماء ، ولم تجد سنية مكانا للظل فى الشارع ، وكان هناك صف من العربات التى تجرها الخيل واقفة فى بداية الشارع ، تنتظر النازلين من الترام ، لتهون عليهم مشقة الطريق إلى المستشفى ، أو إلى أى مكان آخر فى هذا الجو الشديد الحرارة ، ولكن سنية لم تكن ممن يركبن العربات ، فسارت وحدها فى الطريق الصاعد ، ولمحت عن بعد نسوة يتقدمنها فى ملاءات سوداء .. نساء يلبسن نفس زيها .. وفى مثل فقرها وبأيديهن الصرر ، ووراءهن أطفال يتدحرجون فى الشارع الساكن ..
وعندما مالت فى الطريق الرملى إلى اليسار ، سألت عن المستشفى بعد أن اختفى أثر النسوة .. فقد خشيت أن تتوه بعد أن تكشفت أمامها رمال الصحراء .. وتعددت البنايات الكبيرة ..
وعرفت المستشفى من عربات الطعام والفاكهة الواقفة بجانب السور والتى يحط عليها الذباب بكثرة .. ورأت سيارة من سيارات نقل الموتى قريبة من الباب الواسع .. ونساء فى سواد يولولون .. فانقبض قلبها لمنظر السيارة وحال النسوة ..
وكان الباب مفتوحا على مصراعيه لأنه يوم زيارة عامة .. فدخلت سنية مع الداخلين ..
ودلوها على غرفة الاستقبال .. وكشف الطبيب على الصبى .. وحملوه عنها إلى عنبر فيه غيره من الأطفال المرضى .. وكانوا فى حالة تعيسة .. وجوه شاحبة وعيون تبدو واسعة بعد أن هزل اللحم وبرزت العظام .. وقذارة فى الفراش وفى الأرض .. وأصاب سنية الذعر ولكن ماذا تفعل .. أرقدوا ابنها على حشية عليها ملاءة قذرة تغير لونها من فرط ما سكب عليها وكان الذباب يتكاثر فى العنبر والجو خانقا ..
وبقيت سنية جالسة على الأسفلت بجانب ابنها ملتصقة بالسرير ودافنة رأسها فى الملاءة القذرة التى تغطى الحشية .. كان الصبى جامد النظرات ، ساكن الجوارح .. ولكن على وجهه الرضا لأنه يحس بوجود أمه عن قرب ..
ووقفت ممرضة على رأس سنية وقالت لها :
ـ تعال يا ست ..
ـ إلى أين ..؟
ـ ستأخذين حقنة ..
ومشت وراء الممرضة فى الطرقات الطويلة .. وفى بناية فى حديقة المستشفى حقنها طبيب بحقنة ضد التيفود .. وخرجت من البناية لتعود إلى ابنها .. ورأت بابا مفتوحا فى غرفة قليلة الضوء .. غرفة ساكنة باردة فى هذا الحر .. فدخلت من الباب تنظر .. رأت جسم صبى ملقى فى حوض كأحواض السمك وعليه قطع الثلج .. وتقدمت لتنظر وقد أقشعر بدنها .. وأدركت أن الصبى ميت وهذه هى الثلاجة .. وحاولت أن تصرخ ولكن خانها صوتها .. وخرجت مهرولة إلى عنبر ابنها .. وهناك احتضنته .. ودفنت رأسها فى صدره ..
واستغرقت سنية فى وضعها ونسيت نفسها ثم استفاقت على صوت التمرجى يقول لها بغلظة :
ـ ميعاد الزيارة انتهى .. اتفضلى .. روحى ..
وسألته :
ـ أروح .. واترك الولد ..؟
ـ نعم .. هذا مستشفى .. وليس بيتا ..
وأحست بحرقة ، أحست بمن يخنقها ، تتركه لهم ليضعوه فى حوض وعليه الثلج كالذبيحة .. أبدا .. أبدا ولو قطعوها إلى قطعتين .. تتركه هكذا وهو بين الموت والحياة .. أبدا ..
أخرجوها من العنبر بالقوة .. ومن باب المستشفى .. ولكنها ظلت لاصقة بالسور ..
***
وعندما خيم الظلام على الصحراء وشمل السكون المنطقة .. اقتربت من الباب ودفعت خمسة قروش للبواب ودخلت متسللة كاللصة .. كانت تعرف مكانه رغم تعدد العنابر وكثرة الطرقات ..
ودخلت العنبر وهرولت إلى سرير ابنها وهى تدير عينيها فى الضوء الباهت بذعر ورجفة .. لم يكن هناك ممرض ولا ممرضة .. وكانت تسمع بكاء الأطفال فى العنبر فيرتجف قلبها .. واحتضنت ابنها وأحست بالحرارة الشديدة فى جسمه .. وكان الصبى يهذى وجسمه الصغير يرتعش وألصقت قلبها بقلبه .. وخيل اليها أنها لاتسمع ضربات القلب الصغير .. وألصقت خذها بخده وأخذت تبكى .. ابنها يموت ..
وخرجت من العنبر مهرولة تبحث عن طبيب لينقذ ابنها .. وظهر رجل فى رداء مصفر فى نهاية الطرقة .. فلما رآها أسرع نحوها وأمسك بها وقال بخشونة :
ـ كيف دخلت المستشفى فى مثل هذه الساعة ..؟
ـ ابنى يموت ..
ـ وما الذى جاء بك فى الليل .. وكيف دخلت ..؟
ـ من الباب .. ابنى يموت ..
ـ من الباب .. مستحيل .. تعالى .. نسأل البواب .. وليلته سوداء إن كان قد أدخلك ..
وأمسك بها من يدها بعنف وجرها إلى البواب .. وأنكر هذا أنه رأى حتى ظلها ..
وقال التمرجى وهو يحد النظر إلى وجهها :
ـ إذن فقد تسلقت السور لتسرقى .. ولا بد من تسليمك للبوليس ..
ـ سرقت ..!؟
ـ أجل .. والعنبر ملآن بأشياء الحكومة .. والمخزن مفتوح .. وكل ليلة تسرق أغطية وبطاطين وآلات طهى .. ولا نعرف السارق .. وأخيرا وقعت ..
وأخذت تتوسل ..
ورأى لأول مرة جمالها الباهر وصباها .. وعينيها والثوب الأسود والمنديل الأزرق يغطى الرأس ويزيد وجهها نضارة وتألقا ..
وبكت ..
ـ اعمل معروف .. أنا مسكينة والولد بيموت .. أليس عندك أولاد ..
ـ عندى ولكنى لا أتسلق السور فى الليل ..
ـ البواب .. كذاب .. حلفه .. لقد دخلت من الباب ..
ـ طيب .. تعالى .. وفى الصباح سنسلمك للمعاون وهو يتصرف ..
وسحبها إلى غرفة فى حديقة المستشفى ..
ـ نامى هنا إلى الصباح ..
وأغلق عليها الباب ..
ظلت متيقظة فى الظلام تنظر إلى السقف .. وهى ترتعش من الخوف .. كانت قد فوجئت بهذا الاتهام الذى شل حركتها وإرادتها تماما .. ورقدت خائفة .. وبعد ساعة أحست به يدخل عليها ويرقد بجوارها ..
وقاومت بكل شبابها وأنشبت أظافرها فى لحمه .. ولكنه لم يتراجع واغتصبها وهو يسيل عرقا من فرط مقاومتها العنيفة ..
وفى الصباح لم يسلمها للمعاون وتركها تذهب إلى العنبر الذى فيه ولدها ..
ومضت أيام وهى فى داخل المستشفى بجانب ابنها ..
وجعلوها تغسل بلاط العنبر وطرقات المستشفى وتحمل التراب والنفايات .. جعلوها تفعل كل هذه الأشياء لكى تبقى بجانب ابنها .. ومادام ليس معها نقود .. فقد كانت تدفع عرقها ..
كان كل همها أن يعيش الصبى .. ومادامت بجانبه ترعاه سيعيش ..
***
وظلت عشرين يوما فى المستشفى ..
وكانت تذهب إلى البيت خطفا ثم تعود جريا إلى المستشفى .. ونسيت زوجها الفران .. كان عمله كله فى الليل ، فإذا جاء فى الصباح عرف أنها فى المستشفى ونام .. كان يحب الولد وكان مطمئنا عليه مادامت أمه بجانبه ..
ظلت تكنس وتمسح البلاط وترضخ لكل ما تطلبه منها الممرضات وهى فى كل يوم خائفة أن يقدمها ذلك الرجل للبوليس كسارقة .. ومن السهل على مثله أن يلفق لها تهمة كبيرة .. كانت تخاف منه وكان هو يخاف منها أن تحدث الناس بفعلته .. تحكى القصة لطبيبة أو لممرضة وهذه تأخذها إلى مدير المستشفى ثم يصل الأمر إلى النيابة فى الحال ، كان يخاف منها أكثر مما تخاف منه .. وفى كل يوم كان يحب أن تبقى فى المستشفى وأن يراها بعينيه لأنها لو خرجت ستتحدث .. ولو تحدثت بما جرى لها سيحرضها الناس على إبلاغ البوليس ..
كان وجودها تحت سمعه وبصره يطمئنه .. كما أنها كانت تطمئن عندما تراه فى طرقات المستشفى ساكنا جامدا .. فتدرك أنه نسى أمرها ..
وفى ظل هذا الخوف الرهيب المتبادل قضيا معا عشرين يوما يطوقهما سور المستشفى الكبير وهما فى عداء باطنى خفى قاتل ..
كان يكرهها وكانت تكرهه ..
كانت تكرهه لأنه سبب لها كل هذا الرعب .. وكان يكرهها لأنها قد تكون السبب فى فصله من عمله وتشريده فى الطرقات ..
***
فى الظهر .. مر الطبيب وكشف على الطفل .. وسمح له بالخروج ..
وخرجت به سنية من باب المستشفى فى مثل الساعة التى دخلت فيها منذ ثلاثة أسابيع .. وكانت الشمس حامية والحرارة أشد ضراوة .. ومشت فى نفس الطريق الذى جاءت منه من قبل ..
كانت فى هذه المرة تنزل ولم تكن تصعد ، وكان المشى أكثر سهولة .. ولكنها كانت تشعر بالانقباض .. كان الصبى قد شفى تماما واسترد كامل صحته .. ولكن عافيته لم تشعرها قط بالفرحة .. كان هذا الصبى هو السبب فيما حل بها من بلاء ، لو كان معها نقود لمرضته فى البيت ونجت من هذا الوغد .. مرضته فى البيت بعيدا عن العيون .. ودون أن تخبر أحدا بنوع مرضه .. ولكنه مرض بحمى معدية .. ولا بد أن يشيع الخبر ويتسرب من أى شخص .. وكتمانه من المستحيل .. وسينقلونه إلى المستشفى رغم أنفها ..
إن ما حدث كان مقدرا لها والمحنة التى مرت بها لن تغفر لها خطيئتها قط .. كان يجب أن تستقتل ولو مزقها إربا وقطع أنفاسها ..
وقبل أن تخرج من الشارع الرئيسى مرت بجانبها سيارة صغيرة وأطل رأس رجل فى قميص مفتوح وأوقف السيارة وقال برقة :
ـ تعالى أوصلك .. يا سنية ..
وجفلت .. كيف عرف اسمها .. ثم تذكرت هذا الوجه .. أنها رأته فى المستشفى .. وكان دائما بشوشا طلق المحيا كما هو الآن .. فى أى عنبر رأته وفى أى مكان ..؟ لم تكن تدرى ..
وردت سنية بضعف :
ـ كتر خيرك .. قربنا من الترام ..
ـ اركبى من أجل الصغير .. الشمس حامية ..
ونظر إليها مرة أخرى نظرة كلها حنان ..
فقالت لنفسها :
ـ وماذا يضير .. وما الذى بقى لى بعد الذى جرى ..؟
وركبت فى المقعد الخلفى صامتة والغلام فى حجرها ..
وقال الطبيب وهو يسير بالسيارة متمهلا :
ـ ابنك .. استرد عافيته ..
فهمست :
ـ ليته .. مات ..
ولم يسمعها ..
وقال وهو ينظر إلى الطريق دون أن يدير رأسه إلى الخلف :
ـ لقد حقنتك حقنة التيفود .. بعد أن وضعنا الصبى فى العنبر .. وكنت لا تريدين أن تشمرى عن ذراعك .. أتذكرين ما حدث ..؟
وضحك .. وابتسمت ..
ـ أنا جاهلة .. يا بيه .. وهذه أول حقنة فى حياتى وكيف أشمر عن ذراعى أمام رجل ..؟
وتذكرت كل شىء لقد حقنها حقا .. وكان رقيقا مهذبا وإنسانا ولكنها كانت فى دوامة ، ومر هذا سريعا .. مرت هذه اللمحة الإنسانية سريعا وبقى الأثر المدمر .. الذى محا كل عاطفة أخرى تأتى من إنسان ..
لقد جرجروها ومزقوها بغلظتهم لأنها فقيرة .. واستغل الرجل النذل جمالها ليلطخه بالوحل .. النذل أرهبها ليوقعها فى الشرك .. نصب لها المصيدة الجبان .. النذل ..
وسمعت الطبيب الشاب يسألها :
ـ ساكنة فى أى جهة ..؟
وخجلت أن تقول فى الدراسة قريبا من المقابر ..
وقالت :
ـ قريبا من الحسين ..
ونظر إلى عينيها وكان يود أن يقول لها :
ـ أنت جميلة يا سنية ولم أر مثل جمالك قط فى أنثى .. وأنا سعيد بركوبك معى .. سعيد سعادة ليس لها من حدود ..
وقالت بعد أن اقتربت العربة من شريط الترام :
ـ سأنزل ..
ـ لا .. سأوصلك إلى بيتك ..
وصمتت وكانت الدموع فى عينيها وهى تحدق فيه ..
وهمست :
ـ أخيرا .. يجىء إنسان ..
وسألته وهى نازلة .. تضع طرف طرحتها على جسم الصبى ..
ـ ألا تريد شيئا .. يا دكتور ..؟
ـ أبدا .. شكرا ..
ـ أنظف لك البيت .. وأغسل ملابسك ..
ـ شكرا .. تسلم يدك ..
وظلت واقفة فى مكانها شاردة حتى بعد أن تحركت العربة واختفت عن نظرها ..
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #11
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الرجل الصامت


أحمد إبراهيم ولم يكن هذا اسمه المدون في شهادة الميلاد .. ولكنه كان اسمه الذي اشتهر به وأصبح لا يسمع سواه ولا ينادى بغيره .. حتى نسى على توالى الأيام اسمه الحقيقي ..
وعندما التقيت به لأول مرة استرعى انتباهي بهندامه الغريب وملامح وجهه الفريدة ، كان رأسه كبيرا .. وجبهته عريضة .. وأهدابه غزيرة كثة وعيناه ضيقتين تلتمعان بحدة .. وأنفه قصيرا .. وشعر رأسه أسود خشنا كفروة الخروف ..
وكان يعمل طاهيا في بيت ضابط النقطة وفي بيتي ، وفي بيوت كثيرة في الحي .. وما كنا جميعا ندرى كيف تتاح له كل هذه المقدرة ..
ولكنه في الواقع لم يكن طاهيا بالمعنى الدقيق لصاحب هذه الصفة .. بل كان لا يعرف إلا صنفا واحدا من الطعام يطهوه في كل البيوت .. وكنت أجد الكفاية في أن يجيء إلى شقتي يومين في الأسبوع يطهو فيهما وينظف البيت ..
وأحسب ضابط النقطة كان يفعل مثلى .. ويترك ما بقى من الخدمات للعساكر ..
ولا أدرى كيف وقع عليه الضابط .. أما أنا فقد وقعت عليه في عصر يوم وأنا راجع من الجامعة ونازل من الترام في دوران فم الخليج ..
وكان معي كراسة المحاضرات في يد .. وفي يدي الثانية بطيخة اشتريتها بقرشين من الميدان .. فأشفق على منظري وحمل عنى البطيخة إلى البيت ، ومن وقتها لازمني ..
وكان يرتدى بدلة عسكري كاملة .. السترة سترة ضابط والبنطلون بنطلون رجل من رجال السواري .. ضيق محبوك .. والسترة واسعة مهلهلة .. مفككة الأزرار منفوخة الجيوب ..
فكان منظره مضحكا لكل من يشاهده ، ولكن ما من شخص كان يجرؤ على الضحك عليه ، لأنه كان مرهوبا من الحي كله لمجرد التصاقه بالنقطة ولأنه يخدم الضابط ..
ولم يكن الضابط الشاب مكروها ، بل كان محبوبا طيب المعشر .. ولم يكن من طباعه أن يحتجز أحدا من الناس في النقطة إلا في حالات الضرورة التي يتطلبـها الموقف .. بل كان يتصرف بالحسنى والمرونة والكياسة في غالبية الحالات العارضة ..
وظل هذا الطبـع الخـير يلازمه في أثنـاء المظاهرات التي كانت كثيرة في هذه الحقبة من حياتنا .. والتي كانـت تأتى حشوده من الجيزة ، مركز تجمع الطلبة ، وتعبر كوبري عباس .. إلى كوبري الملك الصالح .. وعنـد دوران فم الخليج ، كان الضابط يفرقها بالكلمة الطيبة والجلد على مغالبة الموقف .. قبل أن تصـل إلى مدرسة الطب في شارع القصر العيني .. وكان دائما يبعد الكونستبلات الإنجليز عن الاحتكاك بالطلبة وإثارتهم .. ويتصرف بلباقة .. وبجانبه يقف إبراهيم في بدلته العسكرية ، طويلا صامتا ، كأنه الجنرال الذي يكتفي بإصدار الأوامر مرة واحدة .. ثم يطبق بعدها فمه إلى نهاية الجولة .. وما أظن إلا أن حدة الطلبة كانت تتكسر على طلعته وزيه الغريب .. وتخبو مرة واحدة .. وفي غمضة عين تصبح النار المشتعلة رمادا وهشيما ..
وكان إبراهيم يستريح من عناء كل الأعمال بعد الغروب ، ويتبختر مزهوا في المنطقة بين كوبري الملك الصالح ودوران فم الخليج .. ويفرض أتاوته على المعدية .. وعلى الباعة الجائلين ..
وإذا أرخى الظلام رواقه ، أصبح شاطئ الترعة الذي يخيم عليه الشجر الضخم الملتف رهيب الوحشة في الليل .. شديد الظلام مرعبا .. حتى لا ترى موضع قدميك بعد ثلاثة أقدام .. لأن هذه المنطقة لا تضاء بالمصابيح إطلاقا ، كما لا توجد حوانيت في الواجهة المقابلة تخفف من وطأة الظلام .. بل كانت هذه الرقعة الكثيفة الأشجار خالية تماما من الدكاكين .. وحتى المنازل المتناثرة هنا وهناك كانت صامتة رمادية شهباء خرساء .. تضفي ظلا كئيبا موحشا على الشارع كله .
ويحدث أن يصدم الترام ، أو تدهس سيارة عابر سبيل وتلقيه تحت الشجر ، أو يطعن شخص غريمه في هذه الظلمة الرهيبة ..
وعندما يبلغ الحادث للنقطة يكون إبراهيم في خطف البرق قد نفض جيوب المصاب .. قبل أن يأتي المحقق أو تصل عربة الإسعاف ..
وكان يلتذ من هذه العملية حتى وإن لم يجد في الجيوب غير بضعة قروش قليلة .. ويعد هذا العمل مغامراته الكبرى .. ويترقب الحوادث ويشتمها من بعيد بلذة عارمة ..
وكان يحكى لي كل ما يجرى ويعترف بعملية السطو الليلية هذه وهو هادىء الملامح تماما .. كأنه يقوم بعمل مشروع ..
ولما أبديت له سخطي ونفوري من فعله .. قال في سخرية :
ـ إذا لم أسرقهم أنا سيسرقهم غيري .. قبل أن يصلوا إلى المستشفي .. أو إلى المشرحة في زينهم .. هل تتصور أنه يمكن أن توجد أمانة في هذا الجو ..؟
ـ لماذا لا ..؟
ـ إن هذا مستحيل تماما .. الحياة غير الذي تقرؤه في الكتب يا عبد الحميد أفندي .. عندما تنام عين الإنسان يتحرك الشيطان .. ويتحرك بكل ضراوة .. وسم هذه خسة .. ولكنى أفعلها .. وسأظل أفعلها ..
وقد عجبت لهذه الأفكار السوداء في رأس إبراهيم .. وقدرت أن طفولته كانت قاسية ومرة .. حتى جعلته هكذا ..
ورغم هذه النزوة التي كان يندفع إليها في الليل ، وهو مسلوب الإرادة تماما .. فإنه كان في منتهى الأمانة في كل ما يتسوقه لي من أشياء .. ولا يزيد مليما واحدا ، بل كان يتحمل المشقة ويذهب إلى حي السيدة .. ليشترى لى الأجود والأرخص ويوفر بضعة قروش في كل مرة ..
ومن البيوت التي كان يخدمها .. شقة في الدور الرابع في نفس العمارة التي كنت أقيم فيها .. وكانت تسكنها سيدة ومعها بناتها الثلاث وكن جميعا يلبسن السواد في الليل والنهار .. ووجوههن شاحبة حزينة ..
وكانت هذه الأسرة ضحية لرجل اشتعلت في رأسه الوطنية ـ منذ الصبا ــ وأخذ يكافح الاستعمار الإنجليزي بكل الوسائل .. وحدث أن وقعت حادثة اغتيال لبعض كبار الإنجليز في مدينة القاهرة فاتهم فيها .. وأعدم .. ونسى الناس الأرملة وبناتها نسوهن تماما .. وعشن بعد عائلهم في فقر وحزن .
وعرفت من إبراهيم أنهن يعشن من دخل ضئيل ولولا هذا لمتن من الجوع .. وكنت كلما شاهدتهن أشعر بشيء ثقيل يحط على قلبي ويكاد يسحقه .. ويضاعف من ألمي أنني كطالب فقير لا أستطيع أن أفعل لهن شيئا..
وكنت أتساءل كيف نسيهم الناس ونسيتهم الأحزاب .. ثم أدركت السبب .. كان الخوف من بطش الإنجليز وإرهابهم يبعد الناس عنهم .. لقد أمات الإرهاب كل مروءة وشهامة في طباع البشر .. وقتل الخوف كل خير في الإنسان ..
وإلى جانب هذه الأسرة التاعسة التي نسيها الناس .. يعيش في القاهرة نفسها المهرجون والخونة والمتجرون في الوطنية .. يعيشون في القصور ويكنزون الأموال ..
وكان إبراهيم الذي لا يعبأ بالطعام ، ولا بالشراب ، ينام كيفما اتفق في مدخل العمارة .. أو على البسطة التي أمام شقة الأرملة وبناتها .. يفرش حصيرا ويتمدد .. وكثيرا ما كانت تنتابه حالة اكتئاب حادة تجعلني في حيرة من أمره .. وفي أثناء هذه الحالة يكون طعامه رديئا .. وطباعه متغيرة .
وكان يتقاضى منى جنيها واحدا في الشهر نظير خدمته .. ولا يطلبه إلا إذا أعطيته له .. فلم يكن في حاجة لنقود لطعامه ، أو ملابسه لأنه يأكل في البيوت التي يشتغل فيها ويرتدى الملابس القديمة .. ويوما طلب منى هذا الجنيه وهو يبدى أسفه ، وعلى وجهه الخجل ، فأعطيته له ولم أسأله عن السبب .. فتناوله وخرج في الحال ..
وقد جعلني هذا أراقبه من النافذة .. ورأيته بعد ساعة يدور في الميدان ، وبجواره طبيب الحي ممسكا بحقيبته ..
ثم وجدته يصعد به إلى شقة الأرملة ..
وحدث ما جعله يدخل قفص النقطة .. وهو الذي كان يتفرج على المحجوزين فيه ويسخر منهم .. ذلك أنه شاهد شابا خليعا يلاحق كبرى بنات الأرملة .. تحت الشجر .. ويمسكها من معصمها في غبش الظلمة .. فصرخت الفتاة وكان إبراهيم يعس كعادته في هذه الجهة .. فجرى على صوتها وأمسك بتلابيب الشاب .. وكان مع هذا نصل حاد أراد أن يطعن به إبراهيم .. فانتزعه منه إبراهيم ، وهو في ثورة غضبه على الفتاة ، وطعنه بقوة وسقط الشاب ..
وتجمع الناس في الظلمة .. وقد روعهم المشهد الدامي .. ولكن إبراهيم تقدم وحده دون أن يمسك به إنسان .. ودخل النقطة ..
وروت الأرملة كل شيء عنه بعد ذلك .. وكيف أنه كان يعطيهم كل ما كان معه من نقود ، ويحرم نفسه من كل الأشياء ..
وأدركت أنا ، بعد اعترافها هذا ، أنه كان يعطيهم حتى النقود التي كان يجمعها من جيوب المصابين في الحوادث..
===============================
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #12
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الحقيبة


دخلنا في عاصفة عاتية قبل أن نبلغ طوكيو ..

وأخذت الطائرة الضخمة تتأرجح وتلعب بها الأنوار ..

وكان بجواري راكب من سنغافورة .. لم يستطع أن يصمد في كرسيه فأخذه القيء.. وخشيت أن تصيبني عدواه.. بعد أن أصبحت المضيفات الثلاث عاجزات عن إسعاف الركاب لكثرة من أصيب منهم بالدوار في ساعة واحدة..

فتحركت من مكاني إلى أربعة صفوف أمامية في الدرجة السياحية.. كانت خالية تماما من الركاب ..

واسترخيت على الكرسي الطويل .. معلقا عيني بعد أن أغلقت أزرار المصابيح المضاءة فوق رأسي.. وزر مكيف الهواء أيضا .. فقد كنت أود أن أنام .. وأغيب عن وعيي حتى تنجلي العاصفة .. ولقد أفلحت في هذه المحاولة فعلا وانقضت فترة طويلة وأنا لا أحس بشيء مما يجرى حولي.. ثم فتحت عيني فوجدت المكان قد شغل براكب آخر.. ولعله آثر أن يفعل كما فعلت .. ولكنه لم يكن في مثل حالي..كان متيقظا تماما وليس على وجهه أي أثر للإعياء ..


ولما رآني أفتح عيني وأحدق فيه برهة قال بإنجليزية فيها لكنة .. لقد مرت العاصفة ..

وأشار إلى اللافتة المضيئة التي تحمل في مضمونها هذا النبأ .. والتي تعلن فك الحزام الذي يربطنا بالكرسي..

وقدرت من جلسة الرجل وملامح وجهه أنه صيني من هونج كونج أو تاجر من أهل سيام .. ذاهب في مهمة إلى طوكيو .. ثم ظهر لي من حديثه أنه ياباني من سكان طوكيو نفسها وأنه كان في مهمة في الخارج وعاد إلى وطنه .

ولما علم أنني مصري في رحلة سياحية إلى طوكيو .. تهلل وجهه .. وقال :

ـ لقد تخلصتم من الاحتلال الإنجليزي بضربة قوية .. وسنفعل مثلها لنتخلص من الأمريكان..
ـ إن شعبكم قوى ولا يمكن أن يرضى بأي احتلال..
ـ لقد فرضته علينا الحرب .. وهذا أشد شر فيها ..

وانطلقنا في فنون الأحاديث .. وكلما مرت دقيقة ازداد الرجـل مودة لي وألفة .. وطلب من المضيفة كأسين من النبيذ ..

ثم أخذ يقص علىّ سيرة حياته ويفتح لي من طوابا نفسه .. حتى علمت منه أنه عضو في جمعية لمقاومة الاحتلال الأمريكي لليابان ، وأنه كان في مهمة خطيرة ويحمل معه في هذه اللحظة حقيبة صغيرة .. وفيها أشياء لو ضبطت معه سيعدم..

وسألته :
ـ أين هي ؟
ـ هناك على الرف ..

وأردف ببساطة :
ـ هل يمكن أن تحملها عنى .. إني أنمر فيك مذ ركبنا الطائرة.. ولن يفتشوك في الجمرك ولن يفتحوا حقائبك إطلاقا..
ـ وإذا فتحوها..
ـ لن يمسوا منك شعرة .. لنا وسائلنا ..
ـ ما دامت الحقيبة تساعد على إنهاء الاحتلال في اليابان .. فإني احملها كجندي متطوع ..

فتهلل وجهه أكثر .. وقال بابتهاج :
ـ هذا ما قدرته .. إنك باسل ..

وأعطاني بطاقة فيها العنوان الذي أحمل إليه الحقيبة .. إذا حدث شيء يمنعنا من المقابلة في بوفيه المطار.. بعد أن تتم جميع الإجراءات .. وطلب كأسين من النبيذ ..

وناولني الحقيبة ولم تكن عليها أية بطاقة فوضعتها بجانبي ببساطة ..

والواقع أنني كنت أتصور أن المسألة سهلة.. ولكن لما هبطت الطائرة على الأرض وأمسكت الحقيبة في يدي شعرت برجفة هزت كياني كله.. ولم تكن ثقيلة ولكنني أحسست بها تخلع كتفي ..

وكان معي حقيبة أكبر منها على الرف ومعطف.. فاضطررت أن ارتدى المعطف مع أنه لم يكن هناك برودة.. لأستطيع أن أحمل الحقيبتين..

ونزل مسيو كوجا أمامي على سلم الطائرة .. ونزلت وراءه .. ولكنه اختفي عن نظري ..ثم ظهر مرة أخرى في صالة المطار الكبرى عندما اجتمع جميع الركاب .. وأخذ موظف في المطار .. ينادى الركاب بأسمائهم وشعرت بالاضطراب الشديد وأنا واقف وحدي.. وقلت لنفسي من يدرى .. لعل الرجل خدعني بالحديث الوطني وأشعل في النخوة .. وهو في الواقع ليس أكثر من مهرب وليس في الحقيبة سوى مهربات جمركية.. عملة مهربة أو جواهر ..وإذا ضبطت ستكون فضيحة لي.. لقد البسنى الرجل التهمة بكل بساطة وهرب .

وظللت في دوامة عاصفة من الخواطر أكثر من ثلث ساعة.. وأنا جـالس في صالة المطار ..

ورأيت أن حركة انجاز أوراق الركاب تتم ببطء ودقة .. مع أننا لم ندخل منطقة الجمرك بعد .. فكيف إذا دخلناها .. وندمت على تسرعي .. وبحثت عن الرجل لأرد له الحقيبة ولكنني لم أجده فقررت أن أتركها.. بجانب الكرسي ..

ولكن عندما دخلت من باب الجوازات كانت في يدي وتركت الأمر للمقادير تفعل بى ما تشاء ..

ولما دخلت المنطقة الجمركية بعد إجراءات طويلة معقدة .. وجدت حقائبي كلها قد أخرجت من الطائرة ووضعت داخل الحاجز الجمركي مع حقائب الركاب ..

وكان موظفو الجمارك في الناحية المقابلة لي يفتشون حقائب أخرى .. ولاحظت أنهم يفتشون كل حقيبة تفتيشا دقيقا ..

وجاء دورنا .. رفعوا حقائبنا عن الأرض ووضعوها على الطاولة المستديرة .. ولكنني بقيت في مكاني لم أتحرك .. ظللت بعيدا وعقلي يشتغل بسرعة ..

وعندما جاء فوج من الأجانب وقدرت أن فيهم بعض الأمريكان وقفت في زحمتهم وحقائبي كلها وسط حقائبهم ولاحظت أنهم يفتحون جميع الحقائب ويفتشونها بدقة ويسألون دائما عن السجائر والويسكي ..

وهنا أخرجت المفاتيح من جيبي وفتحت جميع الحقائب بما فيها حقيبتي الصغيرة التي كانت في يدي .. وأبقيت حقيبة الرجـل تحت الحاجز الخشبي بين رجلي ..

وجاء الموظف وفتش حقيبة من حقائبي فقط ثم شغل بمشادة بين زميل له وأحد الركاب وكان قد وجد في حقيبته سجائر لم يخطر عنها .. وعلا صياح الراكب وتجمع حوله الركاب .. ولما عاد الموظف إلى مكانه .. نظر إلى حقائبي المفتوحة ..

وقال :
يمكنك أن تغلقها ..

ورأيته قد استدار ليختم مشط سجائر وجده في بعض الحقائب .. وأخذت أغلق حقائبي .. وأنا أرقبه .. رفعت حقيبة الرجل ووضعتها وسط الحقائب المفتشة دون أن يلحظ ذلك أحد .. وقفز قلبى وأنا أفعل ذلك .. وتصبب العرق ..

ولكن لما وجدت أن أحدا لم يشاهد هذه الحركة طرت من الفرحة..

وسألني الرجل عندما واجهني مرة أخرى ..
ـ كم حقيبة معك .. ؟
ـ سبعة ..
ـ وفتشت كلها .. ؟
ـ أجل ..
ـ وليــس مـعك سجائر .. ولا ويسكي .. ولا أي شيء ممنوع ..؟
ـ إطلاقا ..

وكان في أثناء كلامه يضع العلامة على كل حقيبة بالطباشير ثم توقف.. وكأنه ارتاب في حقيبة الرجل .. فنظر اليها قليلا بإمعان ..

ثم سألني :
ـ وهذه هل فتشت ..؟
ـ أجل .. هل أفتحها مرة أخرى ..؟
ـ أظن أنه لا داعى ..

ووضع العلامة على الحقيبة بالطباشير ..

حدث هذا في سرعة رهيبة .. وكأنما فك حبل المشنقة عن عنقى ..

وتركت الموظف يشير بيده للعمال الذين وضعوا الحقائب كلها على السلم الكهربي .. ليذهب بها سريعا إلى خارج حاجز الجمرك ..



***

واتجهت إلى السلم الذي سيقودنى إلى الخارج وأنا شاعر بفرحـة كبرى .. وقبل أن أبلغ آخر درجة .. رأيت كوجا يسير أمامى .. ولكنه لم يكن وحده كان بجانبه اثنان من البوليس الحربى الأمريكى وجنديان يابانيان وكانوا جميعا يحملون المدافع الرشاشة .. وأدركت أنه وقع في أيديهم ..

وأسرعت خلفهم .. حتى رأيتهم يدخلونه سيارة مغلقة .. ومضوا به سريعا ..

وشعرت بشىء ثقيل يضغط على قلبى ويكتم أنفاسى .. وعدت إلى الداخل وأنا أخرج من قاعة وأدخل أخرى .. كأني أدور في بيت جحا .. حتى وجدت نفسى في القاعة الكبرى المعدة لراحة المسافرين ..

وجلست على كرسى جلدى وأغلقت عينى .. نصف دقيقة ولما فتحتها كنت أنظر بقوة إلى اللوحة المضيئة لمدينة طوكيو والسهام النارية التى تنطلق منها إلى جميع أنحاء العالم ..

وأخذت أفكر فيما أفعل بالحقيبة بعد أن قبض على صـاحبها بسرعة فائقة .. ورأيت أن ألحق سيارة شركة الطيران قبل أن تتحرك من المطار .. بدلا من ركوب تاكسي إلى الفندق ..

وأخرج عمال الشركة حقائبي ووضعوها في السيارة .. وحملت حقيبة الرجل في يدي ودخلنا في المدينة الحالمة ذات الأنوار على الجانبين والسيارات تنطلق كالسهام ..

وأنسأني جمال المدينة .. وجمال النساء في الكومينو .. ونظافة الشوارع .. وبهجتها كل ما يتعلق بالحقيبة .. واخترت غرفة في الدور السابع في الفندق لأكون بعيدا عن زحمة النـزلاء الذين يتركزون عادة في الأدوار السفلى .. ولأبعد أيضا عن ضجيج المدينة التي تظل ساهرة إلى الصباح ..

وتعشيت في الفندق وخرجت إلى المدينة أمشى كما أتفق مستعرضا واجهة الحوانيت ..

ولم يكن الجو شديد البرودة .. وكنت ارتدى المعطف .. وقد ساعدني هذا على أن أتجول أكثر وأكثر .. وكان عقلي في الواقع يشتغل وأنا لا أدرى ويحاول أن يبعدني عن مكان الحقيبة ..

وجذبتنى الأنوار البراقة في ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العاري يبرز كل مفاتنهن ..وتطلعن إلى وجهي .. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لي نظام السفينة ..

وحجزت كمرة بألفين في الدرجة الأولى.. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا ..وفي ممشى السفينة الدائري .. فتحت لي بابا صغيرا .. وأصبحنا وحيدين في غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا في عابرات المحيط ..

وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين ..

وسألت الفتاة عن الشراب الذي ترغبه فرفضت وقالت إنه لا داعي لأن تشرب هي .. وتحت الحاحى قبلت أخيرا .. وطلبنا كأسين من الويسكي .. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين .. أني شارد الذهن ..

فسألتني :
ـ ما بك ..؟
ـ لا شيء ..
ـ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس أنت فتنة في النساء ..

وكان الموقف الطبيعي يقتضيني أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها .. ولكنني جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة ..
ولما حركتني بسؤالها .. اكتفيت بأن مددت ذراعي الأيمن إليها وطوقتها .. وأخذت أمسح بيدي على ذراعيها .. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهي الجامد .. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..

وفي خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها في المطار ..
ورأيت سحنتها تتغير .. كأنما أصابتها رجفة .. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها ..

وسألتني :
ـ في أي فندق نزلت ..؟
ـ يوكاهاما .. غرفة 703
ـ إنه بعيد جدا عن هنا ..
ـ نصف ساعة بالسيارة ..
ـ لا .. أكثر من ذلك .. اذهب في الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك ..
ـ وأين أذهب بها ..؟
ـ أترى هذه الترعة .. القها فيها .. أو في أي مكان من السهل أن تتخلص منها .. لأن هذا يسبب مشكلة ..
ـ ربما يكون الرجل مهربا .. وفيها جواهر

فضحكت .. وقالت
ـ لا داعى لأن تمزح .. أسرع وتخلص منها ..
ـ ماذا تصورت فيها ..
ـ ديناميت .. خرائط .. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم في طوكيو وغيرها .. أنت سائح مسكين .. وستعدم دون ذنب ..

فارتجفت ..
وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج ..


***

وركبت تاكسي إلى الفندق وقال لي موظف الاستقبال بأدب زائد .. وأنا أتناول منه المفتاح ..
ـ هل يمكن .. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين ..
ـ لماذا ..؟

وقد أحسست بالعاصفة تقترب ..
ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا في المطــار .. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه ..
ـ إن هذا حماقة ..
ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان ..

وقلت لنفسي أنني أكثر حماقة لأنني مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائي في كل خطوة .. وأنا لا أدرى ..

وسألته ببلاهة ..
ـ وكيف عرفوا مكاني ..؟
فقال ببساطة :
ـ إن شـركة الطيران .. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة ..

وأدركت مبلغ حماقتي لأني ركبت عربة الشركة .. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص في أعماقها ولا يعرف أحد مكاني لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط في أيديهم ..

ولمحت ثلاثة رجال في ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء .. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكنني استبشعت هذه الحركة في فندق كبير كهذا ..

وقال لي أطولهم وهو الأمريكي حتما :
ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك ..؟

فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار ..
ـ لماذا ..؟
ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار ..
وفي تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أي واحد منهم لو كان معي سلاح ..

ومشينا صامتين إلى المصعد .. وفي الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتي .. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب .. لأتفادى رعشة يدي وأنا أدير القفل ..

وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبي قد توقف عن الخفقان ..وعندما توسطت الغرفة انتابني إحساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الإحساس الذي ينتاب من يصعد سلم المشنقة ..

ولكن عندما وقع نظري على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا .. ثم كادت أن تفلت من فمي صرخة مدوية صادرة من الأعماق .. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذي وضعتها فيه .. وبحثوا في كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبي .. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا ..

وودعتهم على باب الغرفة مزهوا ..

وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر في الملاك الذي طار بالحقيبة في اللحظة الحاسمة ..

ونمت نوما عميقا ..

***


وفي الصباح خرجت أتجول في المدينة وقد كف ذهني عن التفكير في اختفاء الحقيبة وقد عللته بأي سبب ..ربما تكون إدارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التي لا تحمل بطاقتي فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتني من شرها ..

ونسيت الأمر كلية .
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #13
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وفي الليل ذهبت إلى ملهى السفينة .. لأرى ساسا.. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها ..
ـ جئت مرة أخرى ..
ـ بالطبع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأني أحبك ..
ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام .. ولماذا تحبني ..
ـ لأنك جميلة ..
ـ ما أكثر الجميلات في طوكيو ..
ـ الواقع أنني عاجز عن التعبير .. لا يوجـد سبب ملموس لحبي .. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك ..
ـ هذا أحسن .. والمهم هل عثروا على الحقيبة ..؟
ـ أبدا .. لقد اختفت من الغرفة ..
ـ اختفت .. ؟
وضحكت بخبث .. وعلمت منها ما حدث .. خشيت ألا أصل إلى الفندق في الوقت المناسب .. فاتصلت في الحال تليفونيا بالطابق السابع الذي فيه غرفتي .. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة في الحال .. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التي لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها في الحال ..

ـ وأين هي الحقيبة الآن ..؟
ـ في مكان ما ..
ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتي .. ؟
ـ أجل .. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة ..
ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك ..
ـ لا داعي لمثل هذا الكلام ..

ونظرت إلىّ فاحتضنتها .. وأنا أقول ..
ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذي تركه لي الرجل ..
ـ ليس من الضروري الآن انتظر أسبوعا ..
ـ لابد من هذا سريعا ..
ـ انتظر أسبوعا .. وسأذهب معك ..
ووافقتها على ذلك ..

***


ومر أسبوع .. واتفقنا على أن نتقابل في محطة من محطات المترو الذي تحت الأرض .. وتكون معها الحقيبة .. ونركب من هناك إلى المكان الذي عينه لي الرجل ..

وفي الموعد المحدد انتظرتها .. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها .. وذهبنا نضع بضعة ينات في الآلة الأتوماتيكية .. وتناولت نيدا التذكرتين ..

وفي أثناء دوراني في فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود ..وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة .. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته في الطائرة ..

وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدي وهو يقول :
ـ كنت أعرف أنك ستأتي بها .. إنك شجاع .. لقد أعدت إلى قلبي .. وأقبل المترو .. فأخذها ومضى ..

***

وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة ..
ـ والآن أين نذهب ..؟
ـ كما تحب ..
ـ هل تذهبين معي إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل .. ؟
ـ فكرة رائعة ..

وفي شارع جنـزا رأيت في كشك صغير صورة كوجا .. في صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير ..

ولما رأت ساسا الصورة ضحكت .. وضغطت على يدي ..


============================================
نشرت القصة في صحيفة الشعب 28|4|1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من اليابان 2001
من إعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوي
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #14
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الشعلة


تقع حانة منيرفا في الشارع الرئيسي في حي الملاهي والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق .

وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام في الخارج.. فقد كانت مشهورة بالكفتة الروماني والمكرونة الإيطالي ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله .

وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..

وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأني أصبحت بصورة لا تقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفي بالعمل الروتيني الممل في الصباح .. دون أن أحرك مشاعري أو أن أتقدم خطوة ..

وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين في عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم في الطعام والشراب .. والعمل الشاق في الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص في الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة في المدينة من وراء زجاج ..

أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..

وكنت بحكم طباعي الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..

وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإني قد وجدت نفسي بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التي تتردد على المشرب .

كنت أجد على البار رجلا ضخما عظيم الكرش.. كان السيد عبد الغفار يدخل في الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب.. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الإحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب في الليلة الواحدة.. دنا ممتلئ الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتي ليسكر وحده ..

وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب.. ولما يجدني لا أشرب يقول للساقي :
ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
وتلفت إليه أقول شاكرا :
ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..

ويحدق في وجهي بقوة :
ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
ـ انك كالذي يصلى طول النهار .. ويذهب في الليل إلى وجه البركة .. !
وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
وقال باصرار :
ـ لابد أن تشرب شيئا.. ولو زجاجة صودا..

وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن شوبا من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..

وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع في يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..

وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن في إغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى في الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين.
وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت في شارع الفلكي .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى في تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته عبد الغفار .

وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن في عمارة للأوقاف في هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة.. طارت الخمر من رأسه.. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت.. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..

وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح في سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .

ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش في جفاف عيشة مظلمة .

لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان.

***
وفي خلال هذا الركود والملل والفراغ الذي كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ روميل يزحف في الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون في حاناتها ..

ولكن الخواجه إيناس منعهم من دخول منيرفا .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل.

وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..

وفي الوقت الذي كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملهي .. ويشتبكون في عراك دموي مع السكان الآمنين في قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين في منيرفا نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهي بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. في كل ميدان .

ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..

***

ولم تكن حانة منيرفا بالمكان الذي يجلس فيه النساء . ولكن يحدث في بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم .

وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..
وفي هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة .

***

وسمعت ضحكات عبد الغفار ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
وقال لحسن :
ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لا تعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية في شارع عماد الدين .

وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت في شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة.. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت في الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو في حالة إعياء تام ..

وعرفت الرجل فقد كان عبد الغفار ..
وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
ـ الأفندي مات ..
فارتعشت ..
ـ مات من السكر ..
ـ وفين العسكري ..
ـ جاى ..
ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة..
ـ حرام..

وقلت للناس أنى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسي . ومر تاكسي نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .

وحمل الرجل وذهب به سريعا ..

وعلمت في مساء اليوم التالي أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبي لأعاونه في هذه المصاريف ..

قال لى وهو يبتسم :
ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبي دي فلوسه ..
وهكذا بدا مثالا نادرا في الوفاء ..
وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة في المكان ..

***

وفي الساعة التاسعة من مساء اليوم التالي .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من بار .
وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على إنها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة .

وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة في الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة أنها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأني رأيت هذا الجمال يخرج في الليل وحده وسط الحرب والظلام ..

ولكنى اسـترحت لأن المـكان لا يدخـله عساكر من الإنجليز ..

ولما أعطتني وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظري شيء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟

ورفعت وجهي عن اليد التي كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحني علىّ وهو مخمور وحسبني لم أسمعه في المرة الأولى فعاد يقول :
ـ تشترى هذه .. ؟
ـ نو..
قلتها سريعا ودون تفكير في العواقب .. درت برأسي في المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من في الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شيء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة في جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربي ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا في حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحني بكليته على المنضدة :
ـ أعطني .. شلنا ..
ـ ليس معي نقود ..
قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حماقتي .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتي بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع في مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تأثيرها .. فأنا لم أقبل التحدي .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف أنني سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسي في الشيء الذي سيضربني به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعني بين يديه ويلقيني على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..

وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا.. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين في المشرب حتى يكتم أنفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه في لون الدم ..

وفي تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التي كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا في ابتسام .

وفي غفلة من الرجل وهو منشغل بي .. تسلل معظم الذين كانوا في داخل البار .. وبقيت وحدي أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله.

وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر.. وانتظرت الضربة .. فأغلقت عيني .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا..

وقالت الفتاة .. وهي تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه في رقة:
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شيء ..
وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركني وتحول إليها ..

ووقفت معه على المنصة تضاحكه.. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .

وفي تلك اللحظة رأيت في يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها كوبس النور .. فغرقنا في الظلام .

***

وفي اليوم التالي وجدت حانة منيرفا .. مغلقه.. والدكاكين التي بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا .

وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التي أضاءت ظلمـات حياتي .. وظلت الجذوة المشتعلة في قلبي .. لم تنطفئ نارها أبدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهي جالسة هنـاك في وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

***

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لي في شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران.. ثم رأيت نورا في دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله.. وخيل إلىّ أنى أعرفه.. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراستي وتأكـدت أنه حسن سـاقى منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلىّ ولم يعرفني .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبدا للطيف .. على طول .

ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتني .

وعرفت أمينة في الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها.. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة.. وظل صوتها كما سمعته في تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتني .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال في رأسي مشتعلة.. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهي ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذي تعرضت للموت من أجله، وما هو أشنع من الموت..

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك في عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل في الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .

وكنت وأنا أخطو في الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه في تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسي . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شيء أود أن تظل الشعلة التي أشعلتها هذه المرأة كما هي .. مشتعلة..
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #15
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي حدث ذات ليلة


حدث ذات ليلة من ليالي الصيف عام 1919 وكانت الثورة المصرية مشتعلة في طول البلاد وعرضها، أن نشبت المعركة بين المصريين والإنجليز في مدينة أسيوط.. وبدأت بإطلاق النيران على معسكرات الإنجليز عند الخزان .

واحتملت قرية الوليدية وهى قرية صغيرة مجاورة للخزان كل أعباء المعركة .. على أن القرى المجاورة لم تتركها وحدها بل أرسلت إليها أحسن رجالها الشجعان .

كان الرجال يأتون إليها من كل صوب على ظهر المراكب الشراعية الصغيرة والكبيرة.. ويخوضون غمار المعركة مستبسلين.

وكنا نحارب كما يحارب الثوار في غير نظام ولا قيادة.. ومع هذا فقد فكرنا في أن نفعل ما يفعله المحاربون في الميدان حقا .. فكرنا في أن نقطع الخط الحديدي عند قرية منقباد لنمنع المدد والمؤن عن الأعداء وبذلك نميتهم جوعا .

واجتمع في قرية صغيرة على الضفة الشرقية للنيل أكثر من خمسمائة رجل من مختلف القرى مسلحين بالبنادق القديمة والحديثة والخناجر والعصى والحراب .. ومعهم خيولهم وجمالهم وحميرهم .

ونحرت لنا الذبائح .. وجلسنــا نتعــشى في العراء على الطبالى خمسة .. خمسة .. وكنا نتحدث في حماسة بالغة ، ونلتهم الطعام على ضوء المشاعل .. ونسمع صهيل الخيل وهدير الفحول .. وعواء الكلاب في القرية .. وكنت أرى عيون الرجال تبرق في الظلام .. وأشاهد في دائرة الضوء لحاهم وشواربهم الضخمة وأجسامهم الطويلة .. وكانوا يرتدون الجلابيب السمراء والزرقاء ويعصبون رءوسهم .. ويتمنطقون بالأحزمة الجلدية المليئة بالرصاص والخرطوش .

وكانوا يمسحون أفواههم بأطراف أكمامهم ، ويشعلون لفائف التبغ .. ويشربون القهوة .. ويتحدثون عن الليل والرجال .

وكنت مأخوذا بسحر حديثهم وبقوة شخصيتهم .. وبجبروتهم الذي لاحد له .

كان أكثرهم من الرجال الشجعان الذين يقطنون في الجبل الشرقي .. وقد نشأوا أحرارا أشداء .. يأبون الضيم ويدافعون عن العرين .

وعندما وقف واحد من الطلاب وأخذ يتحدث عن الاستعمار والبلاء الأسود النازل بالبلاد .. رأيتهم ينصتون في سكون وعيونهم تلمع ووجوههم منفعلة من فرط الغضب .. ثم أخذوا يعمرون البنادق ويشحذون الأسلحة .

وتركنا الخيل والجمال والحمير مع الغلمان .. وعبرنا النيل إلى الضفة الغربية وهناك انقسمنا إلى فرق صغيرة اتجه بعضها إلى الخزان .. وذهبت مع فرقة مكونة من ثمانية عشر رجلا من الرجال الأشداء إلى منقباد لنقطع الشريط الحديدي وكنت على رأس هذه الفرقة .. وسرنا حذاء النيل على الرمال الناعمة .. وكان الليل في أخرياته والظلام شاملا والسكون رهيبا .. ثم انحرفنا عن الطريق السوى وسرنا وسط الحقول .. وكانت السماء كابية والريح تزأر في أخصاص البوص التي مررنا بها .. ولما صعدنا المنحدر واقتربنا من الخط الحديدي بدا صوت اقدامنا يسمع بوضوح في هذا السكون العميق .. وتقدمنا في قلب الليل ولما بلغنا الجسر كان الشريط يلمع ملتويا في الظلام .. وكانت أعمدة البرق وأسلاك التليفون تهتز والريح تصفر في جنبات الوادي المقفر .. وعندما أخذت أرجلنـا تضرب على الزلط الذي يتخلل القضبان .. شعرت بعظم المهمة الملقاة على عاتقي وانتابتنى الرهبة .. وأخذت المكان بنظرة خاطفة وأعطيت الإشارة للرجال .. وبدأت المعاول تعمل .. وبعد قليل فرغنا من مهمتنا وقفلنا راجعين .

***
تفرقنا في قلب الليل كالذئاب بعد أن تنفض مخالبها من الفريسة .. وسرت وحدي وسط الحقول .. وكان الليل ساكنا وأشجار النخيل تخيم من بعيد على قرية الوليدية وتغرقها في لجة من الظلام الشديد .. وكانت الكلاب لا تزال تنبح في الحقول .. والديكة تصيح في أكواخ الفلاحين معلنة طلوع الفجر .. وعندما بلغت طرف القرية الشمالي شعرت بالجوع والنعاس فتمددت في ظل شجرة كبيرة من أشجار السنط .. وأخذني النوم واستيقظت على دوى الرصاص .. وكان اليوم الثالث للمعركة بيننا وبين الانجليز .. فذهبت إلى الميدان وظللت أقاتل حتى المساء .

وفي اليوم الخامس ظهرت طيارة في السماء .. وأخذت تلقى القنابل على غير هدف .. وذعر الناس ولم يكن لنا بها عهد ..

وحملنا بنادقنا في أيدينا وأخذنا نهيم على وجوهنا في الأرض .. وأخذت المراكب الشراعية تعود بالمحاربين إلى ديارهم ..

وكان الوجوم والتعاسة والخيبة المرة مرتسمة على الوجوه ، وكنا نحن الشبان الأشداء نغلى غيظا فلم نكن ندرى علة هزيمتنا .. لقد بدأنا المعركة كجنود من الطراز الأول وعندما كففنا عن النار خيل إلينا أننا قد انتهينا .. ولكننا مع هذا لم نلق السلاح .

***
وخمدت الثورة في القاهرة وأرسل الإنجليز فرقة جديدة إلى أسيوط .. وكانت ترابط عند الخزان في حديقة كبيرة هناك .. وكانوا يخرجون من معسكراتهم في الليل سكارى ويشتبكون في عراك مع الأهالي .

وكنت قد هجرت قريتي وأخذت أمضى الليل في بستان صغير قريب من الوليدية لأن الإنجليز انطلقوا يفتشون القرى في الشرق ، باحثين عن الأسلحة ورجال الثورة .

وذات ليلة جلست كعادتي في البستان .. وكان بجواره طريق صغير ينحدر إلى النيل ومنه تنزل الفلاحات لملء جرارهن .. وكن يحملن الجرار على رءوسهن وينزلن إلى الماء .. ويشمرن عن سواعدهن ويرفعن أطراف ثيابهن ، وتبدو سيقانهن البللورية وهى تغوص في اللج .. وعندما يملأن الجرار ويطلعن على اليابسة يتركن ثيابهن تنسدل وشعرهن يهتز في ضفائر على ظهورهن .. والخلاخيل الفضية تبدو في السيقان الممتلئة وهن صاعدات المنحدر .

ومر في الطريق بعض الجنود الإنجليز .. وأخذوا في معابثة النساء الخارجات من الماء .. وطار هؤلاء مذعورات وتركن الجرار تسقط وتتهشم .. وأمسك واحد منهم بواحدة من يدها ورأيته يعابثها ويهم بتقبيلها وهى تصرخ وتستغيث ، وتملكني غيظ مستعر وأنا أشاهد هذا المنظر .

وتجمع الأهالي واشتبكوا في عراك دموي مع الإنجليز .. ورأيت أحد الجنود يخرج مسدسا ويطلق النار كالمجنون .. وكان الأهالي عزلا من السلاح .. فأخرجت بندقيتى من مكمنها .. وسددتها وسقط .. وأطلقوا النار في كل اتجاه .. فأصابتني رصاصة في ساقي ولكنني تحاملت على نفسي وزحفت في الظلام .

وفرغت الشوارع من المارة بعد دقيقة واحدة .. وخيم سكون القبور على كل شيء ، وأخذ الظلام يشتد ، وسمعت وأنا ممدد في مكمني حركة في طرف البستان .. ثم ظهرت عن بعد داورية إنجليزية تفتش في كل مكان وبدا لى أنهم أخذوا يطوقون البستان .. فأسرعت وربطت ساقي بقطعة من القماش نزعتها من ثوبي بعد أن حشوت الجرح بالتراب .. وزحفت في حذر .. ودارت عيناي فيما حولي تبحث عن ملجأ في هذا الظلام .

وشاهدت منزلا صغيرا على النيل فاتجهت نحوه وأنا مدفوع بقوة لاقبل لي بها .. ودفعت الباب ودخلت .. وسمعت صوتا نسائيا يقول :

ـ مين ..؟
ـ أنا ..

ورأيت امرأة في صحن الدار .. وكانت تلبس جلبابا أسود .. وعلى رأسها منديل أسمر .. ونظرت إلىّ في هلع وأنا داخل بيتها وبيدى البندقية وعلى وجهي الشر .

وقالت بصوت مرتجف :
ـ مالك ..؟
ـ جريح .. وعطشان ..

ودخلت ومشت إلى الداخل دون أن تنبس ، وعادت بعد قليل بكوز فتناولته منها ورفعته إلى فمي مرة واحدة .. وسمعت حركة شديدة ولغطا في الشارع .. فانزويت خلف الباب وأمسكت البندقية في يدي .. وتهيأت لكل الطوارئ .. ووقفت المرأة تنظر إلىّ من بعيد وهى مضطربة واجمة .

وسمعت طرقا شديدا على الباب .. فلم يرد أحد .. وخيم السكون لحظات .. ثم سمعت من يقول بصوت عال :
ـ دا بيت حميدة .. يا شيخ الخفر .. وهيا مسافرة ..
ـ مسافرة ..؟
ـ أيوه .. مسافره بحري .. من مدة ..

وبعد الصوت .. وخيم السكون من جديد فتنفست الصعداء .. ورجعت إلى صحن الدار وأنا أتحامل على نفسى وتمددت هناك .. ونظرت إلى المرأة طويلا ولم تقل شيئا .. فقلت لها :

ـ لا تخافي .. سأستريح قليلا ثم أذهب .. متى فرغوا من التفتيش
ـ ولماذا تخاف أنت ..؟
ـ البندقية .. وأنت تعرفين الأحكام العسكرية ..
ـ هاتها .. وأنا أخبئها في مكان لا يعرفه أحد ..
فقلت لها وأنا أبتسم :
ـ إنها سلاحي .. وأنا لا ألقى السلاح ..
فهزت كتفها ووقفت ساكنة وبعد قليل تحركت نحو الباب الخارجي .. فقلت لها بصوت هادئ :
ـ إلى أين ..؟
ـ سأشترى بعض الأشياء من السوق ..
ـ مكانك .. لن تبرحي هذا البيت ما دمت أنا فيه ..
ـ إنك مجنون ..
قالت هذا واحمر وجهها غضبا .. وظلت واقفة في مكانها بجانب الباب .. ثم استدارت ومشت إلى الداخل .. وعاد إليها بعض الهدوء ..

وقالت مبتسمة بصوت رقيق :
ـ ألا تعرفني ..؟
ـ أبدا..
ـ أنا حميدة الغربية .. بياعة القماش .. وأنت من بنى مر .. وأنا أعرفك جيدا .. واسمك عبد الرحمن المرى ..

فذهلت .. كيف عرفت اسمي ..
واستطردت :
ـ لقـد ذهبت إلى منزلكم في غرب البلد مرارا .. ألا تذكرني ..؟
وتذكرتها بخالها الأسود على خدها الأيمن .. وبعينها العسليتين وابتسامتها الحلوة .
ـ عرفتني ..؟
ـ أيوه ..
ـ سيبنى أطلع بره ..
ـ لأ..

وجلست على الأرض أمامي .. وكان المصباح البترولي الصغير تهتز ذبالته وبريق الضوء على وجهها الصبوح ، وكان ثوبها الأسمر يلف جسمها الممتلئ ، ومنديلها يغطى جزءا من شعرها .

وأخذنا نتحدث حتى مضى جزء كبير من الليل .. وكنت أتصور أنها تمهلني لأنام .. ومتى نمت خرجت ، ولهذا ظللت ساهرا لا تغمض لي جفن .. وذهبت هى إلى فراشها ..

وفي الصباح ابتدرتها بقولي :
ـ حميدة .. هاتى مفتاح الباب الخارجى ..
فأعطتني المفتاح وهى صاغرة ووضعته تحت رأسي ..

ومكثت معها ثلاثة أيام .. وظلت محبوسة قلقة مضطربة وزادها الحبس اضطرابا وعصبية وكاد ما في البيت من خبز وإدام أن ينفد وجعلها هذا أكثر قلقا .. وكانت ترميني بنظرات نارية وتبتعد عنى ما أمكن ..

ولما نفد معين صبرها قالت لي بصوت خافت :
ـ أنا عارفة ..
ـ عارفة إيه ..؟
ـ القاتل ..
وانتفضت ..

ومضت تقول في خبث ظاهر :
ـ لقد رأيته بعينى هاتين من سطح البيت .. وكان في البستان ..

وتحركت من مكاني أزحف على قدمي ، وعيناي ترميانها بنظرات ملتهبة .. واجتاحتني موجة من الغضب جارفة عارمة .. عندما تبينت أنها تعرف سرى كله .. وأنني معلق في حبل المشنقة ، وهى التي تمسك بيدها الحبل .. وإن شاءت جذبته وطوقت به عنقي ..

وأمسكت بقبضتها وجذبتها نحوى
وقالت بصوت راعش :
ـ سيبنى يا مجرم .. سيب ..

ودارت يدي حول رسغها .. وشددتها إلىّ .. وكنت قد نهضت نصف قومة .. فدفعتني بيدها إلى الوراء بقوة .. وقد تدحرجنا على الأرض فطوقتها بذراعي ، وأخذت أضرب وجهها وجسمها ضربا مبرحا ، وأخذت تبكى بصوت مكتوم وتضربني ما وسعها الضرب .

واشتبكنا في عراك طويل .. ولم تعد بي قوة على الإمساك بها فأطلقتها .. فنهضت وعيناها مخضلتان بالدمع .. وكان شعرها منفوشا ووجهها محتنقا .. ودارت في صحن الدار كالمجنونة ثم بصرت بقالب في الكانون فأسرعت ورمتني به .. وحط القالب على صدغي وغبت عن الوجود .

ولما فتحت عيني كان الظلام يخيم .. وكان الدم يلطخ وجهي وثوبي .. وكانت حميدة جالسة عند رأسي تمسح الدم بمنديلها ! ولما شعرت بأنني تنبهت حركت يدها في لين ورفق على جبيني ، ثم أخذت تتحسس ذراعي .. وقربت وجهها من وجهي ونظرت طويلا في عيني .. ثم ارتمت على صدري ، وطوقتها بذراعي ورحنا في عناق طويل .

ولما التأم الجرح وقويت على السير خرجت في ظلام الليل مودعا حميدة وكانت في لباسها الأسود وعلى رأسها منديلها وخرجت معي إلى الزورق الذي أعدته لي ..

ولما تحرك الزورق بي وقفت على الشاطئ تمسح عبراتها .. فتحولت بوجهي عنها ، وأنا أغالب عواطفي واتجهت إلى الشرق ..

  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #16
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الرجل الاشول


حدث في أعقاب الثورة المصرية سنة 1919 أن خرج جنديان انجليزيان من المعسكر في مدينة أسيوط .. وسارا على الخيل بين المزارع .. وكان الجو لطيفا فأبعدا في السير .. ولم يستطيعا مقاومة الرغبة في الاستكشاف .. فانطلقا بالخيل على الجسر حتى دخلا القرى التي توجد شرق الخزان .. وقابلهما الفلاحون بالهدوء والصمت .
وفي اليوم التالي رآهما الفلاحون مقبلين من بعيد .
وفي اليوم الثالث كانا يعدوان بجواديهما كأنهما في حلبة السباق .. فنفرت البهائم العائدة من الحقول .. وذعر الغلمان ودهس أحد الجوادين المنطلقين غلاما صغيرا كان يلعب بجوار الترعة .. فقتله ..
وقبل أن يبلغ الجنديان المدينة .. أصابت راكب الجواد الأشهب الذي قتل الغلام رصاصة فسقط على الجسر .
وحوصرت القرية القريبة من مكان الحادث وفتشت وضرب أهلها بالكرابيج ..
ورغم هذا لم يستدل على الفاعل ..
واستمر الحصار وكان والد الغلام القتيل متوفيا فقبض على كل من يمت له بصلة .. ومنع الأهالي من الخروج إلى الحقول بعد الغروب .. واستمر التحقيق أسبوعا بطوله ..
وقرر الطبيب الشرعي أن القتيل أصيب من رصاصة أطلقت من مسافة بعيدة تزيد على مائة متر .. وأن الرامى أصاب سويداء القلب ، وأنه لم يحدث في حياته كطبيب أن رأى مثل هذا التصويب ..
ورأى المحققون أن القاتل لابد أن يكون مدربا تدريبا متقنا على ضرب النار .. ويرجح أن يكون من عساكر الرديف ..
وقبض على كل عساكر الرديف في المنطقة .. وقدم من القاهرة جنود بلوك الخفر وعلى رأسهم ضابط مصري اشتهر في أيام الثورة بكراهيته الشديدة للمصريين .. وأخذ في جمع السلاح من كل بيت في القرية ..
وكان يحلف الرجل على المصحف .. فإذا أخرج ما عنده تركه .. وإذا لم يكن لديه سلاح .. شد الجنود وثاقه وعلقوه في حديد الشبابيك .. وأخذوا يضربونه ضربا مبرحا .. حتى يغمى عليه .
وبدأ بالأعيان .. وبالرؤوس .. ليكون الإذلال تاما .. وتكومت قطع السلاح .. وظل الأهالي يصرخون من التعذيب حتى قارب الليل منتصفه .. ثم تعشى العساكر وناموا ..

***

وفي الصباح القى الضابط نظرة على قطع السلاح التي جمعها .. وأخذ يجرب بعضها في ضرب النار .. ثم أخرج مسدسة .. وأخذ يصوب .
وكان يصيب الهدف من كل الأبعاد .. ورسموا له دائرة بحجم القرش فأصابها من مسافة عشرين مترا ..
وأخذ العمدة والأعيان يصوبون مثله .. ولكنهم كانوا يخطئون الهدف في معظم الحالات .. وأخذت الضابط الحمية فسمح للأهالى بأن يشتركوا في المباراة .. ولكن لم يبلغ أحد شأوه .. وظل هو المتفوق الذي ليس له ضريب .
وأظهر براعته الخارقة بأن كتب اسمه على الحائط بالرصاص وصفق له الناس .. ورجع بكرسيه إلى الوراء وهو يضحك مزهوا ..

***
ولم يكتف بهذا الانتصار .. بل فكر في شىء مثير .. فقرر أن يقف أحد الخفراء في الساحة بجوار حائط الدوار وعلى لبدته الحمراء .. بيضة دجاجة !!
ومع كل ما في المسألة من حماقة لم يستطع أحد أن يفتح فمه ..
ووقف الخفير المسكين .. وطارت البيضة من فوق رأسه وصفق الناس .. وضحك الضابط ..
وقرر أن يخلع الخفير اللبدة وأن توضع البيضة على رأسه وذهل الناس ونظر بعضهم إلى بعض .. ولكن لم يستطع واحد من الجالسين أو الواقفين أن يعارض هذه الرغبة ..
ووضعت البيضة على رأس الخفير المسكين وامتلأت الساحة بالأهالي .. وكتم الناس الأنفاس .
وخيم السكون واستقرت العيون كلها على رأس الخفير .. وكفت القلوب عن الخفقان .. واستعد الضابط ليضرب ضربته .
وفي هذه اللحظة .. انطلق شىء وهو يصفر من فوق رأس الضابط .. وطارت البيضة ..
وتلفت الضابط والناس مذعورين .. ووجدوا رجلا يقف وحده وراء الساحة .. ويمسك بيده اليسرى بندقية قصيرة .
وصاح أحد الواقفين
ـ حسين الاشول ..
وظل الاشول هناك في مكانه أكثر من دقيقة يرقب القوم في الساحة بعينى صقر .. ثم وضع البندقية في كتفه وبارح المكان .

***
وفي ساعة الظهر رأى الضابط من نافذة السيارة .. نفس الرجل الاشول .. يهبط بحمل صغير التل .. وعلى كتفه نفس البندقية .. فوضع الضابط يده على مسدسه .. وأخرجه من جيبه .. وهو يتابع الاشول ببصره .. ومرت لحظة رهيبة .. شعر الضابط بعدها بيده تعيد المسدس إلى مكانه ..
ولما انطلقت السيارة في أقصى سرعتها وغاب الرجل عن بصره .. كان الضابط يسائل نفسه في تعجب ..
ـ لماذا لم يقبض على الرجل .. بعد أن تيقن أنه هو الذي قتل الضابط الإنجليزي .. لماذا ..؟ ولماذا حتى لم يجرده من سلاحه ؟
وأشعل سيجارة شعر بعدها بالراحة .
وكانت السيارة قد اقتربت من المحطة ..

  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #17
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الاسرار


سافر الدكتور حمدي زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك في مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت في القاهرة .. فوقع في حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..
وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة في شارع الفلكي لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .
وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل في هذا الموقع ..
واستقر الدكتور حمدي في مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .
وكان الدكتور حمدي مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والإيحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر في هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .
ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة في عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله في يوم الجمعة فقط ولا يحضرها إلا أخص أصدقائه .
وكان عنده تمرجي أسمه خليل وهو في الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .
وكان هذا التمرجي .. ربعه في الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجي البيضاء .. ولا يخلعها في صيف ولا شتاء ..
وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .
ومع كثرة ترددي على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجي وحده ..
كان يصنع لي القهوة ، ويستقبلني بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفاني .
وكنت أرى الغرفة التي يستعملها الدكتور في يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان في هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .
وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجي جالسا في المدخل ، ولا في المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور في الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجي وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسي في المدخل وأنا أدير بصري في كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..
وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل خليل في خطوه الثقيل وحيا ..
وقال يبرر غيابه :
ـ كنت عند الدكتور فاضل أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
وأضاف :
سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتي حالا ..
وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .
وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصني بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التي بيني وبين الدكتور حمدي .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور في طلبي لأي عارض أو ألم نزل به فجأة ..
ولهذه العلاقة كان خليل يخصني بالجلوس في مكتب الدكتور حمدي عندما يكون هذا في عمل بالخارج .
وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله في الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..
ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملي .. ولأني كنت ألاقى الدكتور في نفس اليوم في المساء في مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .
ومع براعة الدكتور في التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لا يصحو .. من نومه .. وينام نومه الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .
وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدي :
ـ يا أخي .. أختر أحدا غيرها .. إنها مسكينة وتعبت ..
ـ لا يصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
ـ نوم خليل .
وضحك وقال :
ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !
***
والواقع أن خليل يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدي .. لأنه يتمتع بإرادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .
ولقد وجدته ذات ظهر في العيادة ، وكان في حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و خليل لا تزال بيده الورقة التي تسلمها من الرجل الذي أدركت أنه المحضر .. لأني كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن حمدي أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..
وأعطاني خليل الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الرديء الذي لا يقرأ وهو يقول ..
ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
فتناولت منه الورقة وقلت له :
ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .
ـ لماذا لا تتفقون معه ..
ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذي عاش في بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الإنس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور في طنطا .. ومرة في الإسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .
ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثني الدكتور حمدي عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد في اليوم الأول من سكنه ..
ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة في أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لا يحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..
ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذي يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدي لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولا يزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته في العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتي إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لا يعرفون الجيد من الرديء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..
ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..
ـ إنهم لا يهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..
والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لا يأخذ منه مليما .. ويحاول إقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدي ولا داعي للقضايا .. لأنها لا توصل لنتيجة .. ولكنه لا يسمع كلامه ..
شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا في الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..
يوميا في كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شيء واصبر ..
ومرة .. كان في حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لإعطائه حقنة .. ولم يكن في العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لي يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يا معلم .. داحنا جيران ..

***
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #18
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


واطلع الدكتور حمدي على الإعلان الأخير الذي أرسله إليه صاحب البيت وتضايق منه جدا .. وقال لى بهدوء :
ـ انه يتصور نفسه هرقلا .. ويستضعفتى .. من دون السكان وهذا ما يفجر غيظى .. ولقد استقر رأيى على التخلص منه نهائيا .. لقد طفح الكيل وليس هناك زيادة لمستزيد ..
ـ كيف ..؟
ـ سأسلط عليه الوسيط ..
وضحكنا ..

***
واتجهت إلى العيادة ذات مساء .. فرأيت صوان جنازة في نفس الشارع .. فاضطربت وحسبت أن مكروها أصاب الدكتور حمدي وأنا لاأدرى ..
ولكن لما دخلت العيادة .. وجدت خليل التمرجى .. في مجلسه .. وكان أكثر الناس هدوءا .. فاطمأنيت ..
وسألته عن الدكتور ..
فقال :
ـ تفضل .. هوا جوا ..
ولما دخلت عليه عانقنى .. وقال .. بفرحة :
ـ ربنا خلصنا من المعلم ..
ـ من ..؟
ـ صاحب البيت .. مات ليلى أمس ..
وسألته مازحا ..
ـ أسلطت عليه الوسيط ..؟
ـ يا راجل حرام .. أنا كنت أضحك ..
وكان فرحا ونشطا .. ويحس بأن كابوسا ثقيلا رفع عن كاهله ..
وفكرت هل يفرح الانسان لموت إنسان آخر .. هل يحدث هذا في الحياة منذ وجدت الخليقة .. أم يحدث فقط في هذه الأيام بسبب أزمة المساكن ! !

***
وكان وجه التمرجى يروعنى .. فمنذ مات الرجل وهو على حالة من السكون .
وفكرت هل تخلص منه بحقنة قاتلة أو بغيرها من الوسائل .. لما يلقيه عليه من الزبالة من فوق ، وفعل ذلك لأنه أكثر الناس تضررا منه ..
وهل فعل ذلك وحده وبدافع من نفسه أم بتحريض ودفع من الطبيب .. وهل يفكر الرجل المتعلم المثقف في الجريمة كما يفكر كل الناس ..
وما جدوى العلم والثقافة إذا كنا نتساوى في الانفعالات والسقطات والثورات الجامحة وتنقلب إلى وحوش .. ولا فرق بيـن إنسـان وإنسـان إذا تملكه الغضب وأفلت منه الزمام ..
ظلت هذه الأسئلة تدور في رأسي أياما .. ثم صرفتني شئون الحياة عنها إذ سافرت إلى الإسكندرية في مهمة عاجلة .. ولما عدت إلى القاهرة وذهبت إلى العيادة كعادتي في مساء الخميس وجدت الدكتور قد بكر في الحضور عن ميعاده المسائي ..
والمرضى على غير المألوف وأكثر من المعتاد ..
وكان خليل .. في مكانه من المدخل .. يدخل الزبائن حسب أرقامهم .. ويخطو في الردهة .. بخطوه الثقيل المألوف .. ومرتديا نفس المريلة ..
وبعد أن انصرف المرضى .. وجلست مع حمدي نتحدث وتأملت وجهه البريء وروحه الصافية ، استبعدته تماما من الأمر فانه لايمكن لمثل هذا الإنسان أن يفكر في الجريمة على أي وجه من الوجوه .. مهما أوذي وأصيب من ضرر .
وتعشينا سويا .. وافترقنا على لقاء في الغد لأحضر جلسة التنويم .
***
وحضرت الجلسة .. في الميعاد .. كما حضر الأستاذ رمزي صديق الدكتور الذي وقع في بيته حادث سرقة ..
ودخلنا الغرفة المسدلة الستائر .. وشعرت بالظلام ورهبة المكان ..
وبدأ الدكتور ينوم الوسيط .. وكانت النقود قد سرقت من دولاب في غرفة النوم .. فأوضح الوسيط صفات السارق بدقة .. طوله وعرضه وسنه وملامح وجهه وما كان يرتديه من ملابس وقت الحادث . فعرف الأستاذ رمزي أنه قريب له فاشل وعاطل .. وكان قد شك فيه من قبل ولكنه استبعده لصلته القريبة ..
وقال الدكتور حمدي موجها الخطاب لى :
ـ والآن جاء دورك :
وارتعشت وقلت له على الفور لأقطع عليه السبيل :
ـ ليس عندي مشكلة .. وما سرقني أحد ..
فقال الدكتور :
ـ إنها مجرد نزهة في بيتك من زمان لم نزره ..
هيا يا مديحه ..
ـ أتجعل مديحه تتلصص في بيتى .. لا ..
ـ يا راجل لا تفكر هكذا .. إنها زيارة ممتعة ..
وتركته يفعل ما يشاء
وبعد دقائق قليلة .. نامت مديحه .. وانطلقت إلى بيتي في شارع حسن الأكبر بعابدين وقال لها حمدي ..
ـ صفي له الشقة ..
فوصفتها في دقة غريبة ..
ـ طيب .. هل يوجد أحد .. الأستاذ رأفت معانا الآن ..
ـ يوجد ضيوف .. جالسين في الصالة ..
ـ صفيهم ..
ـ سيدة مسنة .. وشابة .. ومعهما رجل أفندى طويل ..
فارتعشت ..
ـ صفي السيدة المسنة ..
ـ انها بيضاء .. قصيرة .. تلبس السواد .. ملثمة بطرحة .. وعلى خدها الأيسر غمازة .
وقال حمدي :
ـ انها والدتك ..
ـ والدتى جاءت من المنصورة .. الساعة .. من غير اخطار ..
ـ أجل .. وان كنت غير مصدق .. اتصل بها بالتليفون ..
ورد علىّ عبده الخادم ..
فسألته باضطراب :
ـ هل عندك ضيوف .. ؟
ـ أجل يا أستاذ .. الست الوالدة .. وأخت حضرتك وجوزها ..
ـ متى حضروا .. ؟
ـ منذ ساعة ..
وتصورت أن الدكتور أراد المزاح واتصل بالخادم واتفق معه على هذا الرد .
فقلت له لأزيح عن نفسي كل شك .
ـ طيب خلى والدتي تكلمني ..
ولما سمعت صوتها حقا ، سقطت السماعة من يدي ، وأصابني الإغماء !
***
ولما فتحت عيني وجدتني ممددا على كنبة الكشف والدكتور حمدي بجانبي ، وقد أمر خليل بأن يعد لي حقنة مقوية ..
ولما جاء خليل بالحقنة .. كان الدكتور قد خرج من الغرفة لبعض شأنه ..
فقلت لخليل وعلى فمي ابتسامة :
ـ أوعى تكون الحقنة مثل الحقنة التي أعطيتها للمعلم مرسى ..
فرد في هدوء :
ـ ومن قال لك يا أسـتاذ رأفـت .. أنني أعطيت المعلم حقنة .. ؟
ـ سمعت ..
ـ أنا لم أعطه حقنا على الإطلاق .. ولقد وجدته وحده في بسطة الدور الثالث .. وكان المصعد معطلا والنور مقطوعا .. وقبل أن المسه كان قد لفظ أنفاسه ..
ـ هل ضرب ..؟
ـ أجل ضرب في مقتل بطريقة فذة .. طريقة ليس لها نظير .. وأعظم عالم في التشريح لا يجد لها أثرا عضويا يمسك منه خيط الجريمة ..
ـ ومن الذي فعل هذا .. ؟
ـ لا أدرى ..
ـ هل له أعداء ..
ـ سكان القاهرة جميعا .. أعداؤه ..
وسمعت خطوات الدكتور حمدي في داخل الغرفة فقطعت حبل الحديث .. وأنا في حيرة ورحت أتذكر خليل وهو يقول لى منذ أسابيع .. لن يكون هناك 19 ولا 29 نوفمبر .. والرجل انتهى .. فعلا قبل هذا الموعد .
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 19:12 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.97989 seconds with 14 queries