أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > مجتمع > سياسة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 19/10/2009   #1
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي في ضيافة الرئيس


في ضيافة الرئيس

فيصل جلول*

ليس هذا النصّ دليلاً على ما قد يصيب كاتبًا زائرًا للبلد المعنيّ هنا. وليس مضبطةَ اتهامٍ حصريّةً لنظامه؛ فالوقائع الفظيعة التي أحاطت بتلك الزيارة يمْكن تخيّلُ ما يتعدّاها فظاعةً في بلدانٍ عربيّةٍ أخرى. ولربّما توفّر لي الوقتُ المناسبُ لصياغة شهاداتٍ احتجاجيّةٍ في هذه البلدان: فأن تكون عربيّاً لا يعني أن تتسامحَ مع انتهاك الحقوق، و"تتفهّمَ" الأداءَ السيّئ إلى أجلٍ غير مسمّى، وتسكتَ عن الترهيب الذي ما رَفع يومًا شأنَ أمّةٍ ولا أنقذ نظامًا مبنيّاً على الاعتباط (وهذا أخطرُ من الاستبداد).


إنّ وقائع الفظاعة في دولٍ عربيّةٍ ثريّةٍ تتجاوز كلّ الحدود (بحسب المتواتر من الأخبار والشهادات)، ولكنها مكتومةٌ بفضل وسائل الإعلام الرادعة التي تمْلكها تلك الدولُ داخل حدودها وخارجها. وهذا ما يستوجب الحذرَ من السقوط في لعبة الضوء الانتقائيّة المسلّطة على فقراء العرب، والمحجوبةِ عن أغنيائهم. ولعلّ هذا من الأسباب التي حملتني على الإشارة إلى البلد المعنيّ تلميحًا لا تصريحًا.

في مطار الرئيس
إلى فندق موريس الفخم في باريس، توجّهتُ ذات مساءٍ رماديّ من مساءات أزمة الخليج الثانية، بعد أن تلقّيتُ اتصالاً هاتفيّاً من سفيرٍ عربيّ أكّد لي أنّ رئيسَ بلاده موجودٌ في الفندق، وأنّ في وسعي محادثتَه.


في هذا الفندق تحوم أطيافُ زعماء وشخصيّاتٍ اعتادت المكانَ، ومن بينها ملوكٌ أوروبيّون مخلوعون وشخصيّاتٌ بريطانيّةٌ اعتادت النزولَ فيه. ومن بين مرتاديه المعروفين أنتوني إيدن، وباي تونس، وشاه إيران. لكنّ أبرزهم من الأقرب عهدًا إلينا إنما هو سلفادور دالي، الفنّانُ السورياليُّ الشهير؛ ولعلّه الأقربُ أيضًا إلى أجواء ما سيلي من هذه المرويّات.

كنتُ ألتقي الرئيسَ للمرة الأولى منذ قيامه بثورة لـ "الإنقاذ" قبل شهور معدودة في بلده العربيّ الأفريقيّ الضخم. وفي حضرة الرئيس الثوريّ، بذلتُ جهدًا في تلخيص قراءاتي للصحف الأجنبيّة، وقد احتشدتْ على صفحاتها أنباءُ الأزمة الخليجيّة المندلعة للتوّ، فيما انهمك أحدُ مساعديه في تسجيل ملاحظاتي التي استأثرتْ باهتمام رئيسه. وكان عليّ أن أبذلَ جهدًا آخر لكي أنتزعَ من الرئيس موقفًا صريحًا من اجتياح الكويت وما تلاه؛ فالرئيس كان متحفّظًا على غير عادة بعض الرؤساء الثوّار. وفي ختام اللقاء سألني إنْ كنتُ قد زرتُ بلادَه من قبل، ودُهش عندما علم بأنني لم أفعلْ، فدعاني إلى زيارتها في أقرب وقتٍ ممكن، وكان ذلك أقربَ ممّا توقّعتُ.

فبعد ثلاثة أسابيع كنتُ في طريقي إلى عاصمة الرئيس العربيّة الأفريقيّة الجميلة، غيرَ عابئٍ بزمن الرحلة الممتدّ إلى أكثر من أربع عشرة ساعة، يتخلّلها توقّفٌ في عاصمتين غربيّة وعربيّة. فلقد كانت الشركة التي نقلتني هي الوحيدةَ المثابرةَ على تأمين الاتصال بذلك البلد من باريس وإليها، بعد أن امتنعت الشركاتُ الأخرى عن السفر إليه جرّاء تراكم مستحقّاتها الماليّة عليه.

كان طولُ الرحلة يستدعي مادّةً مناسبةً للقراءة، فآثرتُ على الصحف والمجلاّت كتابًا فرنسيّاً صدر لتوّه ويتحدّث عن بلدٍ عربيّ أفريقيّ آخر، وفيه مرويّاتٌ ترتعد لقراءتها الفرائصُ: حول قتل المعارضين قنصًا؛ أو دفعهم إلى الانتشار في حقل ألغام، فإنِ اجتازه أحدُهم سالمًا أُجهِزَ عليه ببندقيّةٍ دقيقةِ التوجيه لصيد الحيوانات المفترسة.

قبل دقائق من هبوط الطائرة، اختار الراكبُ الجالسُ إلى جانبي أن يحدّثني عن قطع الأطراف في هذا البلد، مؤكّدًا أنّ هذا العقاب قد يشمل الأجانب المسلمين لا المواطنين وحدهم، وقال: "إذا ارتكب المواطنُ أو الزائر أخطاءً من نوع تصريف عملة صعبة في السوق السوداء، أو تعاطي الخمور، فعليه أن ينسى أحدَ أطرافه." قلتُ في نفسي إنّ الرجل يبالغ، وإنني غيرُ معنيّ أصلاً بهذا النوع من "الجريمة والعقاب،" ناهيك بأنني ضيفُ الرئيس الذي استعجل دعوتي تحبّبًا ولطفًا.

لا شيء يدعو إلى الارتياب في مطار الرئيس: بضعة رجال أمن باللباس المدنيّ يتخاطبون عبر "التوكي ووكي،" وحركةُ المسافرين عاديّة جدّاً، وركّابُ رحلتي أنهوْا معاملاتهم سريعًا ثم غادروا المكان. بقيتُ وحدي أنتظر مَن يرشدني إلى الفندق، وأوليتُ انتباهًا كبيرًا لسماع اسمي من مذياعٍ ما أو لرؤيته مكتوبًا على يافطة صغيرة؛ فلا يُعقل أن أكون ضيفَ الرئيس فألقى استقبالاً فاترًا من هذا النوع. ولو لم أكن ضيفَ أحدٍ لتدبّرتُ أمري بسرعة: فالبلد يستثني العربَ من تأشيرة الدخول، وفنادقُه معروفةٌ لدى سائقي التاكسي.

ظننتُ أنّ في الأمر خطأً بسيطًا. فتوجّهتُ بجرأة وثقة إلى رجل أمن، وشرحتُ له تفاصيلَ دعوتي، وعرضتُ عليه برقيّة الدعوة وجوازَ سفري. "لا تتحرّكْ من مكانك إطلاقًا،" قالها بلهجة حاسمة ومتوعّدة. لم أعبأْ بلهجته، وقدّرتُ أنه سيعود إليّ معتذرًا عن فظاظته. والظاهر أنني أساتُ التقدير: فقد عاد بعد دقائق برفقة ثلاثةٍ من رجال الأمن الذين اصطحبوني مخفورًا إلى غرفةٍ بائسةٍ معزولةٍ تقع خلف قاعة الانتظار، ثم فتّشوا حقيبتي بعناية وأمروني بالبقاء في الغرفة بعد أن أحكموا إقفالَها.

تبلغ مساحةُ الغرفة حوالى 14 مترًا مربّعًا، وتضمّ عددًا كبيرًا من أجهزة التلفزيون المطفأة وُضعتْ على طاولاتٍ حديديّةٍ شبيهةٍ بالطاولات التي كان يسرقها أفرادُ الميليشيات اللبنانيّة من الدوائر الحكوميّة وتُعرض في بسطات المسروقات على ساحل بيروت الغربيّ. هكذا بدت محتوياتُ المكان وكأنها منهوبةٌ أو مصادرةٌ، بما في ذلك الكنبةُ الخشبيّةُ التي جلستُ عليها مذهولاً وخائفًا ومنتظرًا رجالَ الأمن أكثرَ من نصف ساعة خلتُها دهرًا.

فتح المسؤولُ الأولُ بابَ الغرفة بهدوءٍ ونظر إليّ بارتياب. ثم جلس خلف مكتب مغبرّ من دون أن يخاطبني، وطلب صحنَ فولٍ كبيرًا قائلاً بلهجةٍ متعالية: "كلْ!". شعرتُ بغضبٍ يجتاحني، لكنّي تمالكتُ نفسي وقلتُ: "لا،.شكرًا، لم آت إلى بلادكم طلبًا لوجبة فول."
قال: "انت تزعم أنك كاتب وصحافيّ ومدعوّ من الرئيس." أجبتُ بسخرية: "نعم، وكنتُ أتوقّع استقبالاً لائقًا." قال: "كيف إذًا لا يوجد أحدٌ في انتظارك في المطار؟" أجبتُه: "السؤال موجّه إليكََ يا سيّد. اتّصلْ بالقصر الرئاسيّ، فلديهم علمٌ بذلك." قال: "هذا ما سنفعله." ثم غاب من دون أن يقفلَ بابَ الغرفة، فاشتعلتُ قلقًا وخوفًا.


ظننتُ للوهلة الأولى أنّ انقلابًا جديدًا وقع لتوّه في هذا البلد، وأنني قد أكون ضحيّة هذا الانقلاب لأنني مدعوٌّ من الرئيس "المخلوع." وتخيّلتُ احتمالاتٍ متعدّدةَ البشاعة، خالطًا بين ما قرأتُه في الكتاب الفرنسيّ وبين ما سأتعرّض له .ثم قلّبتُ تاريخي الشخصيّ، وصفحاتِ كتبي ومقالاتي، علّني أعثرُ على سببٍ يستدعي الانتقامَ مني. وتساءلتُ عن مصير أسْرتي في باريس، ولوهلةٍ تيقّنتُ من أنني لن أخرج من هذا المكان الكريه، واحترتُ في هذا الفخّ الذي وقعتُ فيه بسذاجةٍ ما بعدها سذاجة.

قطع الصمتَ الثقيلَ وقعُ خطواتٍ وهمهماتٌ في الخارج. ثم أطلّ المسؤولُ الأول الذي لا يتعدّى الثلاثين عامًا برفقة رجلٍ مربوعِ القامة يضع نظّاراتٍ سوداء، وبدا لي وكأنه المسؤولُ الأمنيّ الأعلى. لم ينطقْ بكلمةٍ واحدة طوال المدّة التي حاول خلالها الشخصُ الأوّلُ استنطاقي. ـ لماذا تقيم في باريس؟
ـ ما دخلك أنتَ؟ أقيم حيث أرغب!
وتوالت الأسئلة: "مَنْ سلّمك الدعوة؟ مَنْ يموّل الصحيفة التي تعمل فيها؟ أين كنتَ تعمل من قبل؟ من أيّة منطقةٍ تتحدّر من لبنان؟ ما مصدرُ اهتمامك بهذه البلاد؟ أتعرف أحدًا داخلها أو خارجها؟" باشرتُ الإجابة بهدوءٍ على الأسئلة المطروحة، ثم انفجرتُ قائلاً: "إذا أردتَ التحقّقَ من هويّتي اتصلْ بسفارة بلادك في باريس، أو بسفارة بلادي عندكم، أو بمالك الصحيفة التي أعمل فيها، أو بالقصر الجمهوريّ الذي وَجّه إليّ الدعوة." وأضفتُ: "انتبهْ! كان يمْكنني أن أدخل كأيّ عربيّ من دون أن أتصلَ بكم. وفي كلّ الأحوال لم أعد راغبًا في الدخول إلى بلادكم، وأرجو أن تدبّروا رحيلي في أوّل طائرةٍ عائدةٍ إلى أيّة جهةٍ في العالم." هنا تدخّل المسؤولُ الأعلى قائلاً: "لقد سألنا عنك في القصر، ولم يتعرّفْ أحدٌ إليك ولم يدْعُكَ أحد. ثم... كيف تدخل وإلى أين؟" قلت :"إلى أيّ فندق." قال: "أتظنّ نفسَكَ في بلدٍ سياحيّ؟! أتظنّنا أطفالاً كي نرحّلكَ قبل أن نعرف ظروفَ مجيئك إلى البلد؟ إنْ كنتَ تعتقد أنك ستخدعنا طويلاً، فأنت مخطئ يا سيّد." ثم غادر المكانَ برفقة زميله.


لا أدري كم سيجارةً نفثتُ منذ احتجازي في هذا المكان أكثرَ من ثلاث ساعات، إلى أن شعرتُ بحاجةٍ قويّةٍ إلى النوم. وكدتُ أُغمض عينيَّ عندما سمعتُ قهقهة في الخارج، أذّنتْ بقدوم رجليْ أمن. كان أصغرُهما يبتسم منفرجَ الأسارير، فيما الآخر المتخفّي وراء النظّارات يحافظ على ملامحه الصارمة.
"هل تعرف المحبوب؟" قلتُ: "المحبوب (...)؟ نعم أعرفه، ونشرتُ له مقالاتٍ في صحيفتنا عندما كان طالبًا في باريس." قال: "إنه مسؤول الإعلام الخارجيّ عندنا. إنه الوحيد الذي عرف هويّتكَ، وهو في الطريق لاستقبالك." قلت: "عندما يتهجّم علينا العنصريّون في أوروبا لأننا عرب، يَظهرون أكثرَ تسامحًا منكم." فردّ المسؤولُ الأعلى محتدّاً: "وهل تظنّ أنكَ في بلدٍ غربيّ؟ أنتَ في العالم الثالث يا سيّد." لم أعبأْ بالجدل الذي أثاره (أتكون الجغرافيا مسوِّغًا للغباء الأمنيّ والأذى؟)، وفضّلتُ الاستمتاعَ بالانفراج الذي سرى في داخلي، من دون أن يمحوَ تمامًا ذلك الرعبَ الذي سيتملّكني أسبوعًا كاملاً.


في قاعة الفندق اعتذر "المحبوب" عن "سوء التفاهم" الذي وقع، واعتبره ناجمًا عن إعادة تنظيم الإدارة والأجهزة بعد الثورة، وطلب إليَّ الخلودَ إلى الراحة لبعض الوقت وأن أكفّ عن التفكير في العودة إلى باريس في أول إقلاع.

انطلقتُ نحو غرفتي بأملٍ جديد ومشاعرَ جديدة، وبذلتُ جهدًا كي أطوي ساعات الصباح الرهيبة. غير أنّ رائحةَ المكان الكريهة أعادتني إلى الكابوس نفسه: فالفندق مصنّفٌ في فئة النجوم الخمس، لكنه لا يتمتّع بأيّ من مواصفاتها الإداريّة والخدماتيّة. ولعلّ الروائح كانت قابلةً لأن تُحتمل قبل لحظة دخولي الحمّامَ ومفاجأتي بحشدٍ من الصراصير والذباب الذي يبعث على التقيّؤ وضيقِ التنفّس. حاولتُ الاتصالَ بإدارة الفندق، غير أنّ الهاتف لا يعمل داخل الطبقات (واكتشفتُ فيما بعد أنه لا يعمل خارجها أيضًا). فكان عليّ أن أعْرض الأمرَ مباشرةً على مدير الفندق، الذي تصنّع الاستياءَ والاستغراب، وأكّد أنه لن يسمح لي بالانتقال إلى فندق أجنبيّ، بل سيعطيني جناحًا فخمًا للتعويض ممّا جرى لي.

في الجناح الواقع في الطبقة الأخيرة من الفندق طاردني كابوسُ الصباح، وفارقني النعاسُ إلى ساعات ما بعد منتصف الليل. مشيتُ في المكان جيئةً وذهابًا، وتردّدتُ في خلع ملابسي، ولم أجرؤ على الدخول إلى الحمّام، واستسلمتُ للسجائر. وازدادت وحشتي بعد أن فشلتْ محاولاتي المتكرّرةُ في الاتصال بعائلتي في باريس، فقرّرتُ العودة إلى مرويّات الرعب في الكتاب الفرنسيّ، ظانّاً أنّ الرعب سيتكفّل بطرد الرعب.

عندما لاحت خيوطُ الفجر الأولى من واجهة الجناح المطلّة على النهر العظيم، أوشكتُ أن أرخيَ جفوني المتعبة واستسلمَ للنوم. غير أنّي سمعتُ حركةً في السقف والشرفة، مصدرُها عشراتٌ من طيور الحمام التي تأوي المكانَ. ولعلّه من سوء حظّي أنني كنتُ في باريس قد شاهدتُ للمرة الرابعة فيلمَ "العصافير" لألفريد هيتشكوك عشيّةَ سفري، فأقلعتُ عن النوم حتى الثامنة صباحًا.


يتبع..




ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
قديم 19/10/2009   #2
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


... وفي عاصمة الرئيس
الاستقبال الفظيع في مطار الرئيس لا يستحقّ العناية في عُرف الكولونيل الأوّل الذي التقيتُه من بين عسكريي مجلس قيادة الثورة. ولعلّه تمالك نفسَه عندما لاحت على وجهه ابتسامةٌ مقطوعةٌ طواها بعبارة: "ليس مهمّاً ما حصل معك. المهمّ أنك هنا!"

تمرينُ الأسئلة والأجوبة مع العقيد كان غايةً في الصعوبة؛ فهو "ثوريّ" لا يتحمّل محاورًا حياديّاً. لذا ما فتئ يسأل: "أنت مع من؟ ما رأيك أنت؟ أليس هذا ما يقوله أعداؤنا؟". ولعلّه في خاتمة اللقاء استنتج في سرّه أنّ استقبالي الفظيع في المطار كان له ما يبرّره، فصرفنا من مكتبه وهو مكفهرُّ الوجه .فقرّرتُ أنّ للخوف دولةً في هذا البلد، وأنّ احترافَ الترهيب فيها ليس استثناءً أو "سوءَ تفاهمٍ" كالذي مرّ بالأمس.

في شوارع العاصمة، يسير الناسُ ببطء شديد يشْبه ما قاله المتنبّي في وصف مشية الأسد وتربّصه: "كأنه آسٌ يجسّ عليلا." فحرارة الشمس الرهيبة في هذا المكان تَسقط عموديّاً على الرؤوس، وتُثقل الحركةَ في الأطراف، فلا يستعيد الناسُ خفّةَ حركتهم إلاّ في ساعات الغروب وما بعدها. وعندما يتظاهر السكّان، كما شاهدتُ في ذلك اليوم، فإنهم يمشون بهدوء، فتظنّ أنهم يتنقّلون على رؤوس أصابعهم، فيما أيديهم الطويلة والنحيلة تلوّح إلى الأمام وإلى الوراء حتى لتبدو وكأنها ستنفصل عن أجسادهم أو كأنها ترتبط وإيّاها بخيطٍ رفيع. وكانت هتافاتُهم تعكس الكثيرَ من الحقد المتراكم على جارهم العربيّ الكبير. ولمّا كان آلافُ المتظاهرين قد تجمّعوا لتأييد العراق خلال أزمة الخليج الثانية، فإنهم طلبوا إلى الرئيس العراقيّ أن يشفي غليلَهم وأن يثأرَ لهم من جارهم. في تلك اللحظة شعرتُ أنّ الجنون، إذا ما توافرتْ له قيادةٌ مناسبة، قد يُحرق الأرضَ وما عليها، وأنّ الحريقَ لا يطاول الإمبرياليّةَ وإسرائيل وإنما يبدأ في المحيط ويبقى فيه.

جنونُ الصباح والظهيرة سيقابله، مساءً، ضربٌ من الشجاعة الهوجاء. فقد قرّرتُ أن أزور سيّدةً معارضةً في منزلها، ومارستُ كلَّ أنواع الضغوط الظريفة على "المحبوب" كي يرافقني إلى حيث تقيم، فعلّق قائلاً: "ولمَ لا؟ نحن ديموقراطيون، وإلاّ فكيف يبقى معارضون في بلادنا؟!". ومساءً كنّا نطرق بابَ منزلها مع حسن، الذي يعمل في صحيفةٍ محليّةٍ ناطقةٍ بالإنكليزيّة.

استقبلتنا السيّدة بتهذيبٍ استغرق دقائق. ثم سألتني عن السبب الذي يجعلني أرافق ممثّلين لنظامٍ ديكتاتوريّ .بدا سؤالُها استفزازيّاً، لكنّ صيغته محبّبة وتُفْصح عن معرفةٍ حميمةٍ بالشابّين. وإذ رفض حسن ادّعاءَ تمثيل النظام، بدا على "المحبوب" حرجٌ هائل، فأطلق عبارتين بلهجةٍ محلّيّةٍ تنمّان عن رفضٍ مزدوجٍ لصفة الديكتاتوريّة عن نفسه (وهي لا تليق به فعلاً) وعن "الثورة" التي يمثّلها. إذّاك بدت السيّدة المعارضة "الماركسيّة" وكأنها تنتظر مثلَ هذه الفرصة بفارغ الصبر. فقد أطلقت العنانَ لصوتها الذي ارتفع حتى وصل إلى الشوارع المحاذية للمنزل، وتراءى لي أنها تريد أن يَسمع الرئيسُ وأعضاءُ مجلس قيادة الثورة عباراتِها اللاذعة وأوصافَها الشنيعة. ولعلّها اعتقدتْ أنّ وجودي في المكان حصانةٌ لها. غير أنّ مصدر "الحصانة" سيُضطرّ إلى قضاء "ليلة بيضاء" أخرى على ما يقول الفرنسيون، وسيتخيّل ـ لساعات ـ شكلَ مقتحمي غرفته وسيلَ أسئلتهم عن "التواطؤ" مع السيّدة المعارضة وجماعتها.

عندما اكتشفت السيّدة أنّ أحدًا لم يتعرّضْ لها بعد شتائم الأمس، رغبتْ في أن تستفيدَ من وجودي في عاصمة بلادها إلى أقصى حدّ: مرّةً كدرعٍ بشريّةٍ معنويّة، وأخرى كواسطةٍ لنقل رسالةٍ سريّةٍ إلى رفاقها المعارضين في الخارج. فجاءتني إلى الفندق مع نجلها، وخاطبتني قائلةً:
ـ أنت لا يفتّشونك عندما ستخرج من المطار، فهل تنقل لي رسالةً مهمّةً معك؟
ـ وماذا لو فتّشوني؟
ـ تدّعي أنّ شخصًا لا تعرفه وضعها باسمك في الفندق؛ فأنت أجنبيّ. ثم يمْكنك أن تخبّئها في مكانٍ سرّيّ؛ ذلك أنّ رجال أمننا غيرُ محترفين ويمكن خداعُهم.
رويتُ لها تفاصيلَ الاستقبال الفظيع، واجتهدتُ في إقناعها بأنني معرَّضٌ للتفتيش والمساءلة كأيّ شخصٍ آخر، بل ربّما أكثر من أيّ مواطنٍ عاديّ. فقرّرتْ أن ترسلَ معي رسالةً عاديّةً لقريبٍ لها في باريس. وافقتُ على مضض، وحملتُ الرسالة إلى غرفتي، وفي ظنّي أنها رسالةٌ سياسيّةٌ "مفخّخة" لا أدري كيف ومتى وأين "ستنفجر." وقرّرتُ في كلّ الحالات أنّ "انفجارها" أفضلُ بكثيرٍ من فتحها والاطّلاعِ على مضمونها، وأنّ الخوف يجب ألاّ يحوّلني إلى لصٍّ تافهٍ يعبث بخطابٍ شخصيّ مفترض.


في المساء كان مشهدُ الناس المحتشدين في باحة الفندق (الذي بنته دولةٌ اشتراكيّةٌ في عهد نظامٍ سابقٍ موالٍ للكتلة السوفياتيّة) يبعث على اليأس والإحباط. عشراتُ الأشخاص ينتظرون دورَهم للحصول على مكالمةٍ هاتفيّة مع قريبٍ في الخارج؛ ذلك أنّ الثورة، عندما حلّت قبل عام في هذا البلد، فشلتْ في إدارة الاتصالات الدوليّة وتحمّلِ أكلافها، فلم يجد المواطنون بدّاً من الاستعانة بخطوط هاتفٍ محدودةٍ وخاضعةٍ للرقابة "الثوريّة." وكانت للمتحدثين أسبابٌ كثيرةٌ للشعور بالإهانة، لا بفعل الانتظار ساعاتٍ للحصول على مكالمةٍ هاتفيّةٍ قصيرة فحسب، وإنما أيضًا لاضطرارهم إلى التكلّم بصوتٍ مرتفعٍ على مسمع من المحتشدين في القاعة.

في جناح الفندق، وهربًا من الإحساس بالضيق والاختناق، استجرْتُ بالتلفزيون الثوريّ، فكان ذلك مشهدًا آخرَ للعدم. حلقةُ ذلك المساء كانت تدور حول التباري الشعريّ: شبّانٌ تَطلب إليهم هيئةٌ من المحكّمين المسنّين استعادةَ أبياتٍ قديمةٍ كانوا يردّدونها انطلاقًا من القوافي على مدى ساعتين، لينتهي الأمرُ بفائزٍ أثنى المحكِّمون على ذاكرته، وسط ديكورٍ رديء، وطريقةٍ في التصوير والتقديم لا تقلّ رداءةً. وتساءلتُ في سرّي: هل يحظى كلُّ هذا العدم بجمهورٍ من المشاهدين؟ وهل يمْكن ثورةً تُنتج كلَّ هذه الضحالة أن تعيشَ وتدوم؟ لم أعرفْ ثورةً واحدةً لا تعبأ بالأحلام قدْرَ هذه الثورة. وقلتُ لنفسي إنّ الشيء الوحيد الذي يسمح بانبثاق هذا العدم هو وجودُ عدمٍ آخرَ قبله!

في اليوم التالي كنّا في حضرة المُرشد الروحيّ للثورة، وهو يعيش قيدَ الإقامة الجبريّة، لكنه يلتقي مَن يريد وساعةَ يريد (وهذه المفارقة ليست الوحيدة التي تصدم زائرَ هذا البلد). الرجل النحيل الرشيق يتمتّع بذكاءٍ مذهل، وهوعلى قدْرٍ من الاحتراف السياسيّ الرفيع، ويمتلك معرفةً متنوّعةَ المصادر. لا ينظر في عينيك عندما يخاطبكَ، وتشعر أنه يعرف كلَّ أسئلتك، وأنه يمارس تمرينًا سهلاً في الإجابة ينمّ عن خبرةٍ طويلةٍ في استخدام وسائل التعبير، وأحيانًا تعتقد أنه يقول كلامًا كنتَ تودّ ذاتَ يوم أن تقوله. وينتهي الأمرُ بأن تستسلم تمامًا عندما تخرج من منزله، متسائلاً عمّا إذا كانت هذه العبقريّةُ الحقيقيّةُ نتيجةً أمْ سببًا لكلّ هذا الفراغ السائد في المكان!

قبل الغروب اتّصل بي حسن، الذي كان يدرك مدى انقباضي، وأكّد أنني سأكون ضيفًا في حفلةٍ خاصّةٍ تلك الليلة. بعد ساعاتٍ كنّا على شرفة منزلٍ "كولونياليٍّ" سابق، نشرب عصيرًا محلّيّاً منعشًا ونستمع إلى فرقةٍ موسيقيّة تعزف ألحانًا محلّيّة وغربيّة صاخبة. وكان بين المدعوّين ديبلوماسيٌّ أميركيّ، ترافقه زوجتُه التي حاولتْ أن تتحدّث إليّ بوصفي الزائرَ الغريبَ الوحيدَ بين الحضور. وشعرتُ بارتيابٍ أكبر عندما انضمّ زوجُها إلينا، وبخاصّةٍ عندما سألني عن موقفي من أزمة الخليج الثانية. في هذه اللحظة تراءى لي أنّ "الثوريين" الذين يتجمّعون في ذلك المكان سيكون لديهم ما ينقلونه إلى رؤسائهم، وأنّ هذا الموضوع التافه، عن محادثةٍ بين صحافيّ عربيّ وديبلوماسيّ أميركيّ يرمز إلى الإمبرياليّة، قد يكون موضوعَ الساعة في مكانٍ يعمّه الفراغُ المخيف.
وتخيّلتُ مرّةً أخرى أنّ متاعبي لن تنتهي قريبًا، وأنّ هذه الفسحة "البورجوازيّة" الممتعة ضاعت تمامًا بفعل مصادفةٍ غريبة، وأنني كنتُ أحتاج إلى شيء غير القبول الإجباريّ (الذي تحتّمه اللياقة) بالاستماع إلى أقوال ممثّل الإمبرياليّة الرسميّ في بلدٍ يحْمل يوميّاً على الإمبرياليّة. "سامحكَ الله يا حسن،" قلتُ لمرافقي، "ألم يكن في وسعك اختيارُ مكانٍ لا يرتاده ديبلوماسيّون أميركيّون؟" قهقه حسن بصوتٍ عالٍ حتى بلغنا باحةَ الفندق، فودّعني متمنّيًا لي نومًا هادئًا.

عندما قرّرتُ أن أغادر بلادَ الرئيس، ضاربًا عرضَ الحائط بالموعد المنتظر مع صاحب القصر، جاء أحدُ مساعديه بعد ظهر ذلك اليوم ليعتذرَ عن انشغال "فخامته" وعن كثرة مواعيده واضطراره إلى السفر المفاجئ إلى إحدى المحافظات .واعتذر أيضًا عن الاستقبال الفظيع الذي تمّ في المطار، وتمنّى أن أزورَ بلادَه في مناسبةٍ أخرى وظروفٍ أفضل، وأكّد أنّ دعوتي مفتوحةٌ بدءًا بهذه اللحظة.

في اليوم التالي كنتُ في طريقي إلى مطار الرئيس، يرافقني حسن للحؤول دون "سوء تفاهمٍ" جديد. وهناك صافحني المسؤولُ الأمنيُّ نفسُه، بحرارةٍ مصطنعةٍ لم تخفِ فظاظتَه، مخاطبًا زميلي: "لقد أتعبَنا صاحبُكَ وغَلّبنا، لكننا الآن نرحِّب به ساعة يشاء؛ فبلادُنا بلاده." ثمّ توجّه إليّ قائلاً: "المعذرة يا أستاذ." فاكتفيتُ بجوابٍ باردٍ، وآثرتُ كتمَ مشاعري الحقيقيّة.

في الطائرة التابعة لشركة طيرانٍ عربيّة، شعرتُ برغبةٍ دفينةٍ في الاستسلام للنوم، وانتظرتُ الإقلاعَ، الذي ترافق مع سقوط عازلٍ داخليٍّ في المؤخّرة على مقربةٍ من مقعدي. بيّد أنّ سقوطَه لم يُثِر الركّابَ القلائلَ في هذا القسم من الطائرة. وعندما عبّرتُ عن ذهولي، ردّ المضيفون بقهقهةٍ عاليةٍ فهمتُ منها أنّ ما حدث مألوفٌ لديهم، وأنّ عليّ ألاّ أتعجّلَ في طلب الراحة والنوم؛ فالاطمئنانُ الحقيقيّ لن يتمّ إلاّ في الطائرة المقبلة التي سأستقلّها من مطار الدولة العربيّة المجاورة باتجاه باريس.

في هذا المطار الجديد كان عليّ أن أتحمّلَ نتائجَ زيارتي لبلاد الرئيس، فأُمنعَ من الخروج من المطار. ذلك أنّ "الظروف المتوتّرة" خلال أزمة الخليج استدعتْ إجراءاتٍ استثنائيّةً مفاجئةً قضت بأن أُمضيَ ليلتي في فندق قاعة الترانزيت، وأن أكونَ شاهدًا على حوارٍ عدائيّ بين نادل المطعم ونزيلٍ ينتمي إلى بلدٍ سيصبح في ما بعد من "دول الضدّ." فقد لقّنه النادلُ درسًا في "التحضّر وآدابِ المائدة" لأنه طلب بصلةً ليتناولها مع طبق العشاء، مستنتجًا أنّ النزيل متخلّفٌ كرئيس بلاده وأنه ينتمي إلى شعبٍ منحطّ. فرضخ النزيلُ ولاحت على وجهه علاماتُ "التوعّد." واندلعتْ حربُ الخليج الثانية بعد أقلّ من ثلاثة أشهر، فكانت في أحد وجوهها ضربًا من ضروب "التوعّد" المتراكمة.

زرتُ بلادَ الرئيس غيرَ مرّةٍ منذ ذلك التاريخ. وفي كلّ مرّة كنتُ على موعدٍ مع أشكالٍ جديدةٍ من الفظاعة والخوف والقلق لا تتناسب مع مزاج أبناء هذه البلاد الهادئين الطيّبين الذين يحتاجون إلى أشياءَ أخرى غيرِ قصور الأشباح وصحبة فرانكشتاين.



* كاتب لبنانيّ مقيم في باريس.



- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 




  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 06:19 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.19435 seconds with 14 queries