أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > علوم > فلسفة و علم نفس

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 31/01/2008   #1
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي قـراءة فـــي الفلسفـــة المدرحيـة..!!


بقلم : علي عمران

مدخل:
ينطلق هذا البحث من دوافع الوقوف على ملامح الأساس الفلسفي لفكر انطون سعاده ،.. انطلاقا من الأيديولوجيا القومية الاجتماعية بكافة منظوماتها الفكرية .. إلى السياق التجريدي للقوانين الناظمة لها
ونرى من المفيد أن نشير مسبقا إلى عدد من النقاط التي تسهم في التوطئة للبحث :
· كتب سعاده معظم آثاره خلال الفترة التي تمتد من العشرينيات وحتى قبيل استشهاده عام 1949 . وتدل هوامش كتبه على انتخابه لمجموعة من المؤلفات في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع ينتمي مؤلفوها إلى مجتمعات ذات أنماط وفضاءات حضارية مختلفة (الولايات المتحدة الأميركية - بريطانيا - فرنسا - ألمانيا - إيطاليا - البرازيل) وأيضا الى مدارس فكرية متنوعة . لكنها في معظمها تندرج في سياق المذاهب العلمية التي ولدت تباعا في كنف الفلسفة ،.. وظهرت بملامحها الواضحة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والمنبثقة غالبا عن التيار الفكري الكبير المعروف باسم الفلسفة الوضعية التجريبية . وكانت واضحة بالنسبة لسعاده الأهمية البالغة لبلورة أفكاره على أسس فلسفية نزوعا منه إلى التمييز والوضوح في مرحلة شابتها فوضى العقائد التي تبني على مبادئ عرضية .. وأحياناً على شعارات رومانسية عابرة ، تولد ثم لا تلبث أن تذوي وتموت. وكان كتابه "نشوء الأمم" مؤلفا علميا مكثفا ودقيقا .. وربما الكتاب الأول في اللغة العربية الذي يتضمن آراء واضحة في مسائل الإنسان والمجتمع والأمة وفلسفة التاريخ .

· معظم أبحاث سعاده غير المنشورة - من مخطوطات ومقالات إضافة إلى تعليقات وملاحظات - صودرت من قبل الأمن العام اللبناني ، وأحرقت في العام 1949 . وفيها مخطوطات كتابه "الفلسفة المدرحية " (1) وأبحاث في الاقتصاد القومي الاجتماعي.. وغيرهـا ، ولذلك لابد لأي باحث يتقصى فكر سعاده من الرجوع إلى آثاره المجموعة في (14) مجلدا ،.. والمتضمنة مجمل آرائه الفلسفية ، وقياساته المنطقية ، وملاحظاته هنا وهناك ،.. ولا شك أن ذلك يتطلب المزيد من الجهد والوقت في جميع الأحوال .

· يقول الدكتور يوسف مروة أن سعاده كان قد وجه خلال عامي 1932 – 1933 ثلاث رسائل فلسفية – كتبها باللغة الألمانية – إلى مجلة Enkenntnis - "المعرفة" يوم كانت تصدر عن دار الفلسفة في جامعة فيينا في النمسا . وهي لسان حال مجموعة فلاسفة كانوا يشكلون وقتها ما يسمى بـ "حلقة فيينا للإيجابيين المنطقيين" . وأن هذه الرسائل وجهت إلى رئيس تحرير تلك المجلة الفيلسوف الألماني المعاصر "هانس رايشنباخ" ، وهي تتضمن انتقادات سعاده للبرنامج الفلسفي المعتمد في هذه الحلقة ، والذي وضعه الفيلسوف "رودولف كاراناب"(2) .

· شارك سعاده كمحاضر ومحاور في العديد من المؤتمرات والندوات والمحافل الفلسفية في لبنان وإيطاليا والبرازيل والأرجنتين ، ومنها الندوة الفلسفية التي عقدت في جامعة روما بإيطاليا في 18 آب 1938 . وفي هذه الندوة يشار إلى نقاشه مع الفيلسوف الروسي "بيتر اوسبنكسي" مؤلف كتاب "النموذج الجديد للكون" . كما شارك أيضا في عدة ندوات فلسفية كانت تعقد في جامعة ريو دي جانيرو بين تشرين الثاني 1938 و أيار 1939. وفي محفوظات تلك الجامعة إشارات إلى حوارات جرت بينه وبين عدد من المفكرين كان أبرزهم "باولو ادوار ارنتس" أستاذ تاريخ الفلسفة في جامعة سان باولو، و"برادو دي مندونزا "استاز المتافيزيا في معهد الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة ريو دي جانيرو . و "باولوالكونرادو" أستاذ المنطق في المعهد المذكور و "ميرالدو أدولفو فيانا" أستاذ الفلسفة في المعهد نفسه .

ويذكر الدكتور مروة أن سعاده حاور الفيلسوف الاسباني "خوسيه اورتيغا أغاست" في جامعة قرطبة بالارجنتين في كانون الثاني 1940 (3).

مقدمة

منذ استشهاد سعاده وحتى الآن ظلت كلمات "المدرحية" ، "الفلسفة المدرحية" ، "المادية - الروحية" مجرد مصطلحات فوقية موحية بقدر ما هي مغلقة ، لكنها ليست ذات مضامين محددة ، خاصة أنها لم تنل حظها من الشرح ، فظلت في الغالب محل التباس وحيرة.. ليس في دلالاتها الفكرية فحسب ، بل أيضا فيما بني ويبنى عل هذه الدلالات من أفكار وآراء ذات مسحة فلسفية. فبعض هذه الآراء كان محكوما بحذر خاص خشية اقتراف الفلسفة لحساسيات سياسية، وبعضها الآخر جاء بدوافع سياسية مباشرة ، فمارس انحيازه على المدرحية ليقوّلها ما يشاء وليس ما تشاء . وفي العموم نقع على مزيج من الدراسات والآراء جاءت في غالبها متباينة متباعدة ومتناقضة بتناقض واختلاف المناهج الثقافية والأدوات المعرفية ،.. وربما الغايات النفسية والسياسية التي حكمت دوافع معظم هؤلاء الذين حاولوا على امتداد نصف القرن الماضي فتح نوافذ هذا السر الملغز على الجهة الفكرية والوجدانية التي ترضي كلاً منهم . وفي جميع الحالات نقع على مزيج من الدراسات تكتفي بالتأويل السهل لمدلول "المدرحية" فتزيف عمقها، أو ربما نقع على مقاربات تنسب عمارة سعاده الفكرية الى مختلف المذاهب والمدارس الفلسفية، من دون أن نجد في هذه المقاربات قياسات محددة بالوقائع والنصوص التي يفترض أن تتوفر في أي دراسة فلسفية تتوخى الدقة والإنصاف . والغريب في هذا المجال أننا لم نقع على دراسة تتقصى وتكتنه الأصول الفلسفية المنطقية التي انطلق منها سعاده الى مدرحيته . ولذلك ،.. لم يكن غريبا في جملة التأويلات أن نقف على حالات منها تصر أن سعاده شاء إنهاء الجدال التاريخي المتصارع الذي احتدم منذ السؤال الفلسفي الأول بين المذاهب " الروحية " والأخرى" المادية "فكان توفيقياً على طريقة "… فلتكن مادية – روحية ". ومثل هؤلاء يعتبرون ضمنيا أن سعاده ينطلق إلى مدرحيته من الاعتراف سلفا بمفهومي "المادة المطلقة المستقلة" و"الروح المطلقة المستقلة" على طريقة مذاهب العقلية والمثالية ، مع فارق بسيط يتجلى في التوفيق الكيفي بين أفكار المادية المثالية والروحية المثالية..(؟!). وفي أحسن الأحوال التوفيق بين ماركس وهيجل (حسب المدلول الذي يراه هؤلاء في كلمتي المادة والروح) . وثمة أمثلة كثيرة على هذه النزعة التبسيطية للمدرحية ،.. ففي معظم الأبحاث التي كتبت حول فلسفة سعاده منذ أواخر الستينات وحتى الوقت الحاضر تكمن مفارقة كبيرة ، إذ نجد باستمرار من يحاول توظيف هذا الفهم التوفيقي (المادية – الروحية) لدعم أراء لاهوتية وأخرى ذات منحى صوفي إشراقي ، وفي الجهة المقابلة هناك أكاديميون فضلوا البحث عن مبررات للماركسية في بناء سعاده الفكري (4). وثمة آخرون أصدروا أحكاما على المدرحية بموجب "مراسيم فلسفية" . فبدلا من دراستها كمنهج فلسفي فضلوا إلحاقها جزافا بالغامض من الفلسفات التي "نمت في الحوض الألماني" محكومة بغائيات مرحلية فرضتها سياسات عابرة (5) . لكن القليلين أدركوا أن فكر سعاده كان تأسيسا جديدا لفلسفة ذات نظرة مستقلة الى الإنسان والوجود (6) .

وهنا لابد من الإشارة الى ظاهرة خطيرة تستشري في مستوى الصفوة من المثقفين ومنتجي الثقافة ،.. تتجلى في نزوع تلقائي الى التسليم بأن الفكر الغربي عموما هو مصدر ثقافاتنا المعاصرة ومرجع علومنا الحديثة . ويمضي هذا التسليم بحتمية هذه التبعية الفكرية الى درجة فقدان الثقة والأمل بأن ينهض مفكر أو مبدع ليثبت العكس (!) ولذلك درجت العادة أن يقيس أرباب الثقافة في مجتمعاتنا كل إنتاج فكري إلى معيار آخر غربي ،.. وتمضي هذه النزعة تحت سطوة هذا الكم الهائل من الأكاديميات والأبحاث والمناهج المقتبسة عن الغرب حتى يكاد البعض يجزم بقصور قطعي للعقل الثقافي في مختلف أمم العالم العربي ، وبعدمية روحية تعيقه عن إنتاج خصوصيته الفكرية أدبا وفنونا وفلسفة ،.. إذ سرعان ما يتهافت تلامذة الترجمات والاقتباسات . أفراداً ومؤسسات . إلى نسبة أي إبداع جديد إلى عموميات شبه مطلقة تقع في نقطة ما من نتاجات العقل الغربي. ولا يخفى ما تعكسه مثل هذه الظاهرة من واقع الإحساس العام بالدونية والقصور والضعف، وعدم القدرة على التمييز ما بين الذات كنموذج إنساني .. وبين الآخر كنموذج مختلف وربما مغاير . كما لا تخفى أيضا الدوافع التي تفرضها عادة غريزة دفاع المقتبسين عن اقتباساتهم والمترجمين عن ترجماتهم، وخريجي الجامعات والمعاهد الغربية عن ولاءاتهم الفكرية للينابيع التي استقوا منها معارفهم ، وربما عن شهاداتهم العلمية (؟!)

السؤال الفلسفي التقليدي
في جميع الأحوال ،.. وفي مختلف الأزمنة والأمكنة كان الإنسان، بطريقة أو بأخرى، "قضية الفلسفة" غير أن موقعه في أي من مذاهبها ظل محكوما بطبيعة ومضمون السؤال الفلسفي ،.. بقدر ما هو محكوم بطبيعة الإجابة عليه .

ولا شك أن استمرار الفكر الإنساني محكوماً بالإجابة على السؤال الفلسفي الأساسي التقليدي ذاته لقرون طويلة كان واحدا من المؤشرات الهامة على علاقة هذا السؤال بفكر لاهوتي. فالعقل الذي سأل : "من وجد قبل الآخر ، المادة ام الروح؟" كان يفتش عن الغامض المطلق الذي كان " علة " وجود الإنسان. وهذا يفسر على مر العصور كيف تحولت معظم الفلسفات إلى عقائد لصيقة بأنماط الفكر اللاهوتي في بعديه الإيماني والإلحادي ، اذ شكل هذان البعدان قطبين متناقضين في فضاء عقل مهجوس بغموض المطلقات (الطبيعة ، الغيب) وعلاقتها بكينونته .

هكذا ،.. بدأ سقف حوار الأفكار منخفضا وأدنى من قيمة الانسان،.. وفي جميع الإجابات الفلسفية كان موقع الإنسان محكوما بالعلة المطلقة التي كانت سببا لوجوده. فـ "الإنسان" في الفلسفات المادية إمكانية تحقق قوانين المادة . وهو في الفلسفات الروحية " إمكانية إيمانية " تخضع خضوعاً تاماً لقوانين الروح المطلقة. وبقدر ما كانت المسافة شاسعة بين مثالية المادية ومثالية الروح .. بقدر ما كان على العقل الإنساني أن يبذل من الجهد لملء هذه الفجوة الفاصلة بين القطبين النقيضين (المادة والروح) بالفكر الجديد.

13-05-2007

مدونتــي :

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 


  رد مع اقتباس
قديم 31/01/2008   #2
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي


غير أن المذاهب والمدارس الفلسفية لم تستطع حتى وقت قريب أن تتخلص من سطوة السؤال الفلسفي الأساسي . إذ تناسخت الفلسفات طوال قرون متواصلة في الاتجاه ذاته، وبآلية واحدة محددة. وكان على كل مذهب فلسفي جديد كي يولد أن يبرر المسوغات الفكرية لوجوده عن طريق نقد المذاهب والمدارس الفلسفية الأخرى ، وهذه الآلية حكمت بنمطيتها شرعية الولادات الفلسفية حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا ، حيث واظب الفلاسفة على إدارة معاركهم الفكرية الكبرى باستنباط أساليب جديدة من التجريد ، تعنى بصياغة الأجوبة الأكثر ذكاء - وربما الأكثر ديماغوجية - على السؤال الفلسفي التقليدي ذاته ، الذي حافظ على متانته وسطوته كثابت أمام قفزات الفكر الإنساني المتوثب دائما في حمى التحولات إلى اكتناه آفاق جديدة . وظل إيقاع سببية المادة والروح ينبض في عمق الفكر الفلسفي حتى وقت قريب . ورغم الصياغات الجديدة للفكر لم يستطع هيغل - ومن ثم ماركس - انجلس - تجاوز الإشكالية التقليدية في سببية المادة والروح ، فبين ديالكتيك هيجل ومقلوبه عند ماركس لا تختلف القياسات كثيرا عن مثيلاتها في ما سبق من فلسفات مثالية (؟!)

لكن التحول الفلسفي الكبير كان بعد ولادة الفلسفة الوضعية التجريبية (positivisme) التي تبلورت ملامحها منذ فرنسيس بيكون مروراً بـ "جون لوك" إلى "اوغيست كونت" (7) الذي قاد الفكر الفلسفي باتجاه المسارات العلمية، وبذلك تحولت الفلسفة من (علم الحكمة) إلى (العلم الكلي) ، وكان من أهم ثمرات ذلك التحول التأسيس لعلم الاجتماع .
السؤال الفلسفي المدرحي
ينطلق منهج سعاده الفكري من نظرة معاصرة للعلاقة القائمة بين الإنسان والوجود ، هو بذلك يخرج الفلسفة من إشكاليتها التي بلغت أوجها بعد أن فقدت صلتها النقدية بالحضارة ، وتحولت إلى مجرد تأمل في الأفكار ،.. بدل أن تكون مجالاً للتأمل في الوقائع والمسائل الوجودية على قاعدة أن "وظيفة الفلسفة استباق العالم" .

ويمكن أن نحدد الأساس الفكري للمدرحية في المنهج القومي الاجتماعي وفق أربعة محاور رئيسية مترابطة :

· فلسفة التفاعل

· فلسفة الحقيقة

· فلسفة التاريخ

· فلسفة القيم

وهذه المحاور تجيب من خلال منهجها الفكري على السؤال الفلسفي المدرحي : "من أين جاءت الحياة ؟ " الذي يتجاوز نمطية السؤال التقليدي( من أين جاء الانسان ، من المادة أم من الروح ؟ ) إلى نظرة شاملة للانسان والوجود .

ويندرج الجواب على هذا السؤال في مستويين فكريين متلازمين يحددان المنطلق لفهم الظاهرة الإنسانية من خلال القوانين التي تحكم "شيوع الحياة في المادة شيوع الإنسانية في الحياة " . حيث الإنسانية ظاهرة واقعية لا يمكن تفسيرها على قاعدة التمييز الميتافيزيقي بين عالم الحياة (الوجود) ، وبين عالم العقل (علة الوجود) . وبدلاً من تفسير الإنسان بالوجود المادي أو الميتافيزيقي على قاعدة الربط التجريدي العلة والمعلول ، يجب، حسب سعاده ، تفسير الوجود بالإنسان على قاعدة ربط موضوعه بحركة الحياة . وإذا كان شيوع الحياة في المادة شرطاً لوجود الإنسانية واستمرارها ، فان شيوع الإنسانية في الحياة هو أيضاً شرط لإعطاء الظواهر المادية بعدها المؤنسن، المعّرف، والمتسق في عملية بنائية (كمية وكيفية) لا حدود لها. وهذه النظرة تستقرىء كيفية تحول الحياة من كمون مجرد إلى حيوية، ومن ثم إلى حركة. وتنطلق إلى تحديد المنطق الناظم لتحول الوجودات من أشياء إلى ماهيات ، ومن عبث إلى وظيفة، فالحياة لا معنى لها إن لم تكن صيرورة .. وخلقاً مستمراً .

.. في فلسفة التفاعل

يشكل فكر سعاده نهجا مغايرا لمنحى الفلسفات التي سبقته، وتتجلى نقطة افتراقه عنها في موقفين نظريين متكاملين :

الأول : انه أبطل السؤال الفلسفي التقليدي ، اذ تجاوز مفهوم العلة السببية المطلقة " أولوية المادة ، أولوية الروح " فنقض بذلك القول بانعكاس نتائج هذه الأولوية على أحوال الظاهرة الإنسانية ، وبذلك أعفى الفكر من ميتافيزيقية تفسير ظواهر الوجود بعلل غيبية مادية كانت أم روحية ، حيث لا يمكن الجزم في عالم الحقائق بأولوية وجود أي من هذين القطبين اللذين يشكلان طرفي المسار الإنساني . ويعتبر سعاده "الوجود" مركبا موضوعيا توجد فيه علله ، وهذه العلل هي موضوع العقل الإنساني الذي يصفه بقوله : "هو الشرع الأعلى ، والأساسي ، وهو موهبة الإنسان العليا" ( 8 )

ويعتبر سعاده أن السؤال الفلسفي البديل يجب أن ينطلق من خصوصية وجود الإنسان ودوره في صياغة مسارات الحياة، إذ لولا وجود الإنسان لما كان هناك من معنى لوجود الحياة :

"لمّا كان الإنسان مظهرا من مظاهر الحياة فلا يمكن البحث بكيفية نشوئه على حدة ، لذلك لا بد من جعل السؤال "من أين جاء الإنسان ؟" ضمن نطاق سؤال أوسع : "من أين جاءت الحياة ..؟" (9)

الثاني : بما أن الإنسان هو قضية الفلسفة ، لا يجوز تجاهل ما تفرضه الظاهرة الإنسانية من واقع وضعي .ويرى سعاده وجوب فهم هذه الظاهرة حسب القوانين الطبيعية التي تحكم وجودها وفق ثلاثة مستويات متلازمة ومترابطة سببياً :

1. "الإنسان كمفهوم" هو إشارة إلى حالة اجتماعية ذات خصائص طبيعية ،.. ولا يتضمن هذا المفهوم أي إشارة إلى الفرد كحالة بشرية معزولة :

"في أحط درجات الاجتماع البشري وابسطها نجد الجماعة ، وعبثا نحاول أن نجد الفرد ، فهو لا وجود له اقتصاديا او حقوقيا (…) وهو ليس بداءة في الاجتماع ولا شأن له في تعيين الاجتماع وكيفيته" (10) .

" سواء كان الاجتماع البشري موروثا من اجتماع سابق ام حادثا بعد نشوء البشرية، فإن ما يهمنا منه انه أمر واقع وملازم للبشرية. وان خصائصه ملازمة لخصائص الإنسان" (11) .

2. لا معنى لمجتمع من دون أرض يعيش عليها . ويربط سعاده بين خصوصية الأرض (المكان) ، وخصوصية الظاهرة الإنسانية (الحالة الثقافية والنفسية للمجتمع) بعلاقة طبيعية :

"المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للإنسان، والضروريان لحياته وارتقائها" (12)

3. يرى سعاده أن حياة المجتمع مرهونة بالتفاعل الذي ينشأ بين المجتمع (الحالة الثقافية النفسـية) وبين الأرض (البيـئة الطبيعية) . وفي هذا التفاعل يشكل القطبان الأساسيان (الأرض =الإمكانيات المادية) و (الإنسان = الوعي) عاملي السلب والإيجاب، بحيث يصبح كل قطب في موقع الفعل والانفعال . ويلحظ سعاده باستمرار أثر خصوصية كل من الأرض والإنسان (الوعي) في تطور هذا التفاعل ، معتبرا أن شرط ارتقاء المجتمع مرهون حكما بحصول التفاعل وكيفيته : " … النظام الاجتماعي هو دائما حاصل تفاعل الإنسان والطبيعة أو البيئة .. أو منبعث عنه وموافق له " (13) .

ونظراً لتنوع بيئات الأرض، من حيث ما تدخره من إمكانات طبيعية وخصائص حيوية، وأيضا، نظراً لإختلاف العوامل الذاتية التي تحدد استعدادات كل جماعة وبالتالي وظيفتها على بيئتها،..فإن واقع الانسانية لا يشكل كلاً متجانساً ، بل هيئات اجتماعية ذات ميزات مختلفة ، إلى اعتبار أن " المملكة الاجتماعية " هي حقيقة نوعية تكتسب ميزاتها من خصائص " مملكة الطبيعة". والفوارق بين الممالك الاجتماعية ( المتحدات) تكون وفاقاً للفوارق بين الممالك الطبيعية ( البيئات ) .

وللانتقال من المفهوم النظري العام إلى المستوى التجريدي في المدرحية ننطلق من التحديدات النظرية التالية :

· في كل مادي نقع في الوجود الانساني على مدلول روحي أو أكثر. وفي كل روحي هناك مدلول مادي أم أكثر .

وانطلاقاً من شبكة العلائق القائمة بين المدلولات المادية والروحية لظواهر الحياة يتم تحديد المعطى المدرحي للانسان والوجود في عالم الفكر والعقل

· لا تشكل البيئة (الأرض) عنصرا أحاديا بسيطا . فهي بطبيعتها مركب مادي شديد التنوع،.. أي إنها تتشكل من عناصر وظواهر مادية لا حدود لها . وهذه الظواهر ترتبط بعلاقات تكاملية ، ولا وجود عملياً للتناقض في "المادة " ، سواء داخلياً (بين مكوناتها) أو خارجياً (بين مادة وأخرى ) ، فالموجب "يكامل" السالب ، وكل سلب شرط لوجود الإيجاب والعكس صحيح .

وعندما نذكر "المادة " فإننا نعني حتما المكونات والظواهر المادية في البيئة (الأرض) وفي الوجود أيضا .
  رد مع اقتباس
قديم 31/01/2008   #3
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي


· المجتمع ( الانسانيات) : هو حقل متعض من إمكانات وإمكانيات الفعل في الوجود (الأفراد) ، وهذا الـ "فعل" محكوم بالضرورة بغائيات الوعي الإنساني . ولذلك يمكن أن نشير في المستوى التجريدي إلى الإنسان بـ "الوعي" .

ويتشكل الوعي الإنساني من مركبين تفاعليين أساسيين هما :

المعرفة (العقل) والوجدان (النفس والإرادة) .

وتشكل المعارف العقلية في تفاعلها مع الوجدان البنية الروحية للإنسان .

وبذلك يمكن التعبير عن التفاعل الحاصل بين الإنسان والبيئة المادية بالقول أنه :(تفاعل بين الوجود والوعي) = (تفاعل بين المادة والروح) .

ويرى سعاده أن كلا من قطبي التفاعل هو في موقع الفعل والانفعال ، فالبيئة تقدم الإمكانيات ، كما أنها بخصائصها وظواهرها ومكوناتها تشكل حقلا أوليا أساسيا لمعارف أفراد المجتمع، ولاختبارات هذه المعارف، ومدى فعلها، فحيث لا تسمح الأرض بالاستقرار لا يمكن أن تقوم ثقافة العمران ، وعلى سبيل الإشارة فقط ، تختلف الأسس التي تقوم عليها ثقافة مجتمع جزيرة في المحيط عن الأسس الثقافية لمجتمع تقوم حياته في سهول او جبال ، وللإسكيمو في آلاسكا ثقافة تختلف في جوهرها عما نجده لدى سكان يعيشون على بيئة صيد قطبية أخرى . وعندما تتوقف البيئة عن تقديم الإمكانيات (مقومات الحياة) ينتفي شرط التفاعل. كما ينتفي أيضا إذ ما توقف الإنسان (لسبب ما ) عن ممارسة دوره في عملية التفاعل . في حين تزداد حيوية التفاعل كلما اكتنز الوعي الإنساني من معارف وخبرات جديدة . ولذك فإن العامل الإنساني في التفاعل المدرحي محكوم دائماً باكتناه المزيد من الحقائق وتوظيفها في حقول الوعي، ليعود هذا الوعي إلى الفعل مزودا بقوة معارف إضافية تمكنه من الانطلاق باتجاه آفاق جديدة اكثر غنى وارتقاء .

· التفاعل بين الإنسان والوجود ، يتبدى عملياً في مستوى العلاقة بين الوعي وعالم الظاهرات ، وهذه العلاقة تنطوي على تفاعل متواصل بين عالم الأشياء في ذاتها (الذي هو الوجود الموضوعي) وبين العقل الاجتماعي ، وتحكم خصائص المجتمع (العامل الذاتي) مسار العقل الاجتماعي في التحقق من الظاهرات ، وإدخالها مدار التفاعل .

· في الحقل الاجتماعي الواحد (الأرض + الجماعة) تجري عملية التفاعل في مستويين :

أ. المستوى الموضـوعي : وهو الذي تتم فيه العـلاقة الحيـوية بين الإنسـان والبيئة ( المحيط المادي) . وعناصر هذا التفاعل في المستوى الانتروبيولوجي هي :

الجسم – العقل ، والنفس – المحيط .

وقياساً عليه ، يمكن القول أن الفكرة تنتج من تفاعل مثلث العناصر الأساسية :

المكان (البيئة الطبيعية) – الحالة (بنية المجتمع) – العقل والوجدان (الثقافة والإرادة) .

حيث :

ـ "المكان" يتضمن شرط الإمكانية الطبيعية .

ـ "الحالة"، أي "المجتمع في علاقته الطبيعية مع المكان" ، وينطوي مفهوم الحالة على شروط : الوظيفة ، الإمكانية ، والغاية ، وهذه الشروط الثلاثة تحدد اتجاهات المجتمع لسد حاجاته المادية – النفسية من امكانات المحيط .

ـ العقل ـالوجدان: ويتضمن شرطي الادراك والإرادة .

ب. المستوى الفوقي : وفيه يتم التفاعل بين مكونات كل من العقل والوجدان في دائرة الوعي المجتمعي ، وتحكم هذا التفاعل شبكة من المؤثرات الذاتية والموضوعية .

وفي دائرة الوعي ، يكون العقل الاجتماعي حقلاً للمعارف العيانية والمجردة على السواء ، وفيه صور التعيينات والتحديدات التي تصف ظواهر الوجود قياساً إلى شبكة المعارف الحاصلة لدى المجتمع . وفي هذه الشبكة نقع على المعايير والمقاييس والمحايثات في صيغها الأقرب إلى التجريد .

أما الوجدان ، فهو حقل للنوازع والعواطف ، وفيه تصيح قرارات العقل في مستوى الإرادة . وبما إن التفاعل بين مكونات العقل ونوازع الوجدان هو تفاعل بين الظاهرات في بعدها المعرفي وبين النفس (الذات) فهو يمثل العلاقة بين الإنسان والوجود في مسـتواها التجريدي، وفـقاً للصـيغ القيـميـة والأخلاقيـة الناظمة لشخصية الجماعة( المجتمع ) . وبنتيجة هذا التفاعل القومي تتحدد مكونات الإرادة ، وأيضاً اتجاهاتها وخياراتها وقراراتها الكبرى في الحياة ، وتتحدد في الوقت نفسه أساليب المجتمع في سد حاجاته المادية – النفسية ، ومنطقه في تعيين الأولويات والثانويات في مستوى هذه الحاجات .

· في المراحل الأولى من تاريخ البشرية كان تأثير الوجود المادي هو الطاغي على مسار عملية التفاعل ، لكن تراكم المعارف الإنسانية جعل من الوعي قوة فعل متنامية باضطراد ، وراهناً ، يمكن القول أن قوة الوعي الفاعلة في الوجود تشكل من حيث الكم والكيف عاملاً حاسماً في مصير الإنسانية .

· بالتفاعل بين الإنسان والمحيط ، يزداد الوجود "المعرف" اتساعاً ليشمل أفاقاً جديدة من الكون الافتراضي .

فلسفة الحقيقة
الحقيقة هي ظاهرة وجودية كشف العقل عن خصائصها الجوهرية وعن القوانين التي تحدد وصفها أو قياسها أو قوتها أو فاعليتها وروابطها بغيرها من الظواهر. وكشف أيضا علّة وجودها، أي إنها تحققت في مستويي الوعي المعرفي والوجداني. فظواهر الوجود تستلهم قوة الوعي في نزوعها إلى خوض التجربة ، المعرفية اعني هي أبرز ميزات النزعة الإنسانية ، وفي كل تجربة تفاعلية يضيف الإنسان عنصراً جديداً إلى المركب المعرفي ،.. فيرتسم في حقله الاجتماعي قوة جديدة تقود إلى تفاعل حيوي جديد يحدث تغييراً إضافياً في مجرى الحياة .

ويستوجب فعل التحقق من أي ظاهرة توفر شرطين متلازمين :

1. أن تكون الظاهرة موجودة ومحدد وجودها بإحداثيات الزمان والمكان ، إذ لا حقائق في العدم .

2. أن تكون في نطاق دوائر الوعي الإنساني .

وبما أن الوعي الإنساني تفاعلي بطبيعته ، فإن عملية تحويل الظواهر إلى حقائق ترتبط من حيث آليتها ومسارها بمدى التفاعل بين الوعي وظواهر الوجود ، وربما كان ابرز الأمثلة وأكثرها وضوحا تفاعل الوعي الإنساني مع "النار" كظاهرة ، فالاحتكاك الأول لظاهرة النار مع الوعي الإنساني كـان في مراحل بدائيته الأولى ، ولا شك أن النار سجلت وقتها في العقل الإنساني انطباعاً منفراً ،.. فهي حارقة مؤذية ووحشية . ومنذ أن تأنسنت النار ثابر الوعي الإنساني على توظيفها في تحسين شؤون الحياة . فكانت دفئا في مواسم البرد ، وأنسا ونورا في الليالي الموحشة. ثم وسيلة لشيّ الغذاء في مراحل لاحقة .. وسلاحا ضد الوحوش ثم سلاحا حربيا.. وكلما أمعن الوعي في تفاعله مع هذه الظاهرة كان يكتشف فيها مزيدا من الإمكانيات الصالحة لتوظيفها في وجوده . ومنذ المراحل البدائية حتى الآن لم تفارق النار حياة الإنسان متحولة من ظاهرة بدائية غامضة ووحشية في التاريخ الإنساني السحيق، إلى "حقيقة" معرفية ذات وظيفة في حياة الناس ، وقد ارتقت في سلم المعارف الإنسانية من مفهوم عياني إلى مفهوم رياضي مجرد(النار = الطاقة ).. وكان التفاعل الحيوي معها شرطا لاختراع وسائل النقل البرية والجوية.. ثم المركبات الفضائية التي تنطلق اليوم بقوة الوعي في أنحاء الكون .

بالمقابل ،.. فإن مختلف ظواهر الوجود تكتنز بطبيعتها كمونا تفاعليا قابلاً لأن يتحول إلى " كيف " بمجرد دخول الظاهرة سياق التفاعل مع الوعي .

وقياساً عليه، يمكن تعريف "الحقيقة" وفق الصيغة التالية:الحقيقة < > وجود > - -- تفاعل ----< وعي
وتقول هذه المعادلة أن الحقيقة هي ظاهرة وجودية متفاعلة ومنفعلة مع الوعي .
وفي ومنها :
1. تعّرف الحقيقة بشرطي وجودها (الوجود ، والوعي) وهما شرطان تفاعليان .
2. كون الحقيقة تفاعلية فهي متحركة بالنسبة لإحداثيات الزمان والمكان ، ولذلك فهي نسبية وشرط تحولها إلى حقيقة مطلقة أن تصل عملية التفاعل (فعل وانفعال) بين شرطيها إلى حدها النهائي، وهذه النهائية هي افتراض نظري بحت ينقضه المنطق . ولذلك فالحقائق الوجودية المطلقة لا وجود لها عملياً في منطق الحياة ، لأن كل مطلق سكوني ، بينما الحياة مسكونة بديناميات التغيير التي تصنع حركة التاريخ التي لا تعترف بنهائيات في الفكر. وحتى الحقائق الرياضية والفيزيائية التي أسسها للعلوم المعاصرة نقضها منطق العلم الحديث ، وانقلبت عليها أدوات المعرفة المعاصرة.
3. في حال إلغاء شرط (الوجود) من معادلة الحقيقة (أي : الحقيقة = وعي) تصبح المعادلة باطلة ، إذ لا يمكن للوعي أن يلم بأي حقيقة خارج حقل وجوده ، لكن ذلك لا يمنع العقل من الافتراض استنادا إلى محاكمته المنطقية للظواهر في مستويات الإدراك الحسي والحدس الظاهراتي ( الفينومينولوجي) .

والتاريخ الإنساني حافل بظواهر بعيدة رصدها العقل فأدخلها حيز الافتراضات . وما لبثت أن أصبحت في متناول الوعي ، وتحولت إلى حقائق . وكما أن حقائق العلوم الحالية كانت ميتافيزيقا بالنسبة للفكر القديم ، ربما تكون الميتافيزيقا المعاصرة من موضوعات علوم المستقبل. وفي كل فلسفة يمكن أن نقع على منطق افتراضي في المستوى الأول من منهج التفكير .
  رد مع اقتباس
قديم 31/01/2008   #4
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي النهايــة



4. في حال إلغاء (الوعي) من شرطي الحقيقة (أي : الحقيقة = الوجود) تصبح هذه الحقيقة باطلة أيضاً فالظواهر رغم وجودها تكاد تكون عدماً في غياب الوعي ، لأن وجود الإنسان كان شرطا قطعيا لإدراك الوجود فالكون لا وجود له معرفيا لولا وجود الإنسان ،.. أي أنه في غياب الوعي الإنساني يظل في كينونته افتراضا غير محقق.
5. الوجود ليس مجموع الظواهر . فهو ليس كماً، بل كيفاً متنوعا قابلاً للتحول . والتنوع في هذا الكيف لا يلغي وحدة الظواهر من حيث كونها تنتسب إلى جذر وجودي واحد .
6. نظرا لأن الوعي مركب عقلي ـ وجداني . فتعامل المجتمعات الإنسانية مع الحقائق مرهون بدوافعها الوجدانية ومصالحها النفسية . ولذلك فارتسامات حقائق الوجود في وعي جماعة البشرية ، تختلف من حيث وظائفها ومدلولاتها بين جماعة بشرية وأخرى باختلاف الفوارق الوجدانية والنفسية التي تحكم شخصية كل "جماعة"
7. تتفاعل ظواهر الوجود في مستوى الوعي الإنساني بتلاحم مدرحي عميق، بحيث يفصح تفاعل الحقائق الحية باستمرار عن ظواهر جديدة تتبدى في آفاق الحياة الإنسانية .

فلسفة التاريخ

يرى سعاده أن المسار التاريخي لأي جماعة بشرية يظل مرهونا بما تؤول اليه عملية تفاعل هذه الجماعة بيئتها . وبالتالي فهو محكوم أيضا بخصوصية كل من قطبي هذا التفاعل . الأرض (البيئة) والإنسان (والوعي) .

ويرى أيضا أن مرحلة بشرية طويلة سبقت فجر الإنسانية أطلق عليها اسم مرحلة الاحتكاك التي اتصفت بطغيان سطوة الطبيعة على الجماعات البشرية التي كانت تجيب على هذا التحدي بما يملكه الإنسان من معارف أولية شديدة البدائية مدفوعة بدواعي سد الحاجة من طعام وكساء ومأوى ووسائل دفاع عن النفس . أما بداية مرحلة التفاعل فكانت ترتبط بقدرة الجماعة على إدراك خصائص وطبائع المواد والظواهر المحيطة بها . وكان ذلك شرطا للانتقال من مرحلة الإنسان جامع الغذاء إلى الإنسان صانع الغذاء .

ويقول سعاده أن :" استعمال النار هي الخطوة الفاصلة التي عينت للإنسان السابق اتجاهه "(14) . وهو يربط بقوة ووضوح بين إيجابية فعل الجماعة البشرية وبين بروز حاجات نفسية شكلت إلى جانب الحاجات المادية جملة الدوافع الرامية إلى الاستفادة مما تقدمه البيئة من إمكانيات للحياة . وبذلك يربط سعاده بين تطور الحاجات النفسية ـ المادية ـ لأي جماعة بشرية وبين تطور إدراكها لإمكانيات محيطها (بيئتها) . ومن جهة أخرى يشير إلى أهمية الاستقرار في صنع مسار التطور فيقول : " اللذة والاطمئنان وتوفير الجهد والتعب هي الضرورات التي يؤدي حدوثها إلى تولد الاحساسات النفسية الفردية والاجتماعية "(15). وكما أن النار قوّت الرابطة الاجتماعية في الجماعات البدائية ممهدة لها بقوة إظهار استعدادها للارتقاء . كذلك كان تحرير العقل مفصلاً أساسياً في نشوء الثقافات العقلية والنفسية ، قاد إلى وضع الجماعات البشرية في المنحى الصحيح للتطور .

وفي جميع الحالات لا يفصل سعاده سياق التفاعل بين الجماعة البشرية والبيئية عن الشروط الموضوعية التي تحكمه، ولا يحتم مسارات قسرية لحركة تطور الجماعة أو ارتقائها، بل يربط هذه الحركة قطعيا بنتائج التفاعل . حيث الأرض هي التي تقدم الإمكانيات والجماعة البشرية هي التي تحول هذه الإمكانيات إلى حتميات . ففي البيئات غير الصالحة للاستقرار (بوادي - غابات استوائية) تكيف الجماعة البشرية دورة حياتها سعيا وراء الكلأ او الصيد (حالة الغابات) مضطرة للانتقال في المحيط لتامين أسباب معاشها في حين تستقر الجماعة البشرية في مدنيات على ضفاف الأنهار وفي السهول الصالحة للزراعة مؤسسة لمجتمع العمران ، وهذا الاختلاف بين نمط الحياة هو سبب لاختلاف بين الحالتين في الوعي أي في العقل والوجدان .

ونظراً للتفاوت والاختلاف بين البيئات الطبيعية على الأرض فإن تفاعل الجماعات البشرية المستقرة على هذه البيئات قاد إلى إنتاج مركبات ثقافية وحضارية متمايزة حكمت خصوصية صيرورتها التاريخية مؤهلاتها الذاتية وإمكانيات البيئات التي تنشأت عليها وطورت حياتها على كامل البيئة ، متحدة في الحياة بقوة الفعل كأمم لكل منها آراؤها وشخصيتها ، ويرى سعاده أن " اكتساب الجماعة شخصيتها التي تكونها من مؤهلاتها وخصائص بيئتها .هاتان الظاهرتان الأساسيتان هما اللتات تميزان الاجتماع البشري تميزا شديداً"( 16) . بقوله أيضا :

"الأرض هي أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ. لكل العوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية"(17) . ويشير سعاده هنا إلى أهمية بروز الإرادة القومية وتمايز الشخصية القومية للجماعة . وهو بذلك يجزم بأن مصير المجتمعات الإنسانية على بيئاتها الطبيعية محكوم بواقع أنها أمم متمايزة بمكونات ثقافاتها وقيمها ومصالحها وإراداتها القومية .

وهنا يبدو بوضوح أن مبدأ الخصوصية الذي يحكم نشوء الأمم هو القانون الوحيد الذي يمكن على أساسه فهم التباينات الحاصلة في مسارات المجتمعات الإنسانية . إذ لا يمكن أن نتصور تحديدا للمجتمع بما هو ليس فيه أو عليه . فالإنسانية لم تؤلف في الماضي ولم تؤلف حاليا ولن تؤلف مستقبلاً كلاً متجانساً تنتفي فيه التمايزات الحضارية والقومية. ولا أحد يستطيع الإدعاء بأن الجنس الإنساني يشكل في مجموعه جماعة واحدة تتطور دائما وكليا في الاتجاه ذاته وفقا لمسار واحد واتجاه واحد . فالإنسانية (الملأ الإنساني) لا تزال مجرد فكرة عقلية ترمي إلى وضع مدلول صالح للتعبير عن مجموع الجماعات الإنسانية في تعريف مطلق وشديد العمومية .

لقد انطلق سعاده من فهمه لجوهر الاجتماع البشري من نظرة عميقة ، ترى أن الإنسان والمجتمع هما مظهران لجوهر واحد يتحقق بالتفاعل ويتمايز بالنوازع الثقافية والنفسية (روح المجتمع) التي لا تتوقف عن الإلتحام والتفاعل مع البيئة (ارض - أمة) ، محققة صيرورة مدرحية متفاعلة لا تنتهي إلا بانتهاء أحد شرطيها (الأرض) أو (الأمة). وهذا لا يكون إلا بزوالهما معا .

الهوامش

(1) د. يوسف مروة ـ صحيفة المستقبل الصادرة في مونتريال ـ كندا العدد 73 تاريخ 10-6-1993.
(2) المصدر ذاته، ويقول الدكتور مروة أن سعاده انتقد في رسالته الأولى مبدأ "الإثبات" الذي وضعه "كارناب"
وتبناه بعد ذلك الفلاسفة الإنكليز أمثال : "الفرد ايبر وجورج ادوار مور. وبرتراند راسل ، وشارلز برود وسواهم .
ويتابع مروة : "وتعبير النقد الذي وجهه سعاده عام 1993 لمبدأ الإثبات ولمفهوم الاختبار الحسي الذي تضمنه الهيكل
الفكري الرئيسي والإطار الفلسفي العالم لما عرف فيما بعد في أوائل الأربعينات باسم النظرة او الفلسفة المدرحية" .
(3) المصدر ذاته.
(4) الدكتور عادل ضاهر ـ "الإنسان المجتمع ـ وأيضا بحث د. أحمد برقاوي ( فلسفة التاريخ عند سعاده ) ألقي في ندوة "انطون سعاده مفكراً" في عمان أيلول 1997 ونشر في مجلة البناء عدد 894 تاريخ 10/97 .
(5) الدكتور موفق محادين "المدرحية في فكر انطون سعاده" ورقة مقدمة إلى ندوة "انطون سعاده مفكراً"، عمان أيلول 1997.
(6) الدكتور ناصيف نصار ، طريق الاستقلال الفلسفي.
(7) اوغيست كونت ( 1798 ـ 1957 ) هو المؤسس الحقيقي للفلسفة الوضعية ، من أهم كتبه "مذهب في السياسة الوضعية" الصادر عام 1854 ، اشتهر عنه قوله : "الوضعية هي علم اجتماع" .
( 8 ) انطون سعاده ـ المحاضرات العشر ص (107) .
(9) انطون سعاده ـ نشوء الأمم ـ إصدارات دار طلاس ـ دمشق طبعة 1986 ـ ص (25)
(10) المرجع السابق ص (25) (11) المرجع السابق ص ( 72) .
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 02:42 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.15569 seconds with 12 queries