أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > أدب > القصة و القصة القصيرة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10/08/2008   #1
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي متفرقات...ألبرتو مورافيا


الجنون

تستطيع المرأة أن تعرف خلال حياتها رجالاً كثيرين، لكنها لن تعرف إلا أباً واحداً وربما لهذا السبب اعتبرتُ الرجلَ الذي كنت أدعوه من كل قلبي رجلَ حياتي، في نهاية الأمر، أباً لي. نعم إنه أب جدير بهذا الاسم بدلاً من الأب غير الجدير والذي أدين له بوجودي في هذا العالم، وأفضّل أن أدعوه "بابا" وقد استطاع أن يجعلني أعيش حياتي كلها كطفولة مستمرة تفيض إحساساً بالأمان والسلام، هذا ماكان يُشكّل الأساس الحقيقي والصادق لزواجنا. لايهمني إن كان يكبرني بحوالي ثلاثين عاماً وأني مثقفة (أحمل إجازة في العلوم، وأجريت ذات مرة بحثاً في الجامعة، كمدّرسة) وهو رجل مال، أقل مني ثقافة وغائص في المال حتى رقبته. إن مايهمني هو أني أحسُّ بنفسي قادرة على أن أكون في المقدمة خلال وجودي كله معه. ذلك أنه، بالإضافة إلى الحب الجسدي الذي نعيشه والذي يدوم فإننا نعيش أيضاً الحبَّ الأبوي والحبَّ البنوي اللذين يدومان، بطبيعتهما، إلى الأبد.‏

بعد عامين من العلاقة السرية (يجب أن أقول "المتخفية"، فقد كان مضطراً إلى التخفي عندما كان يريد أن يراني لأن له زوجةً وأولاداً) قررت ذات مرة أن أقوم بشراء بعض الحاجات في الحي الغريب الذي نسكنه. ولدى خروجي من أحد المخازن لاحظت على مقربة مني امرأة بالغة الأناقة، طويلة القامة، جميلة الخلق، سمراء من الجنس الهجين كما يبدو، كانت واقفة إلى جانب الرصيف كما لو أنها تنتظر أحداً ما أوشيئاً ما. بالكاد تنبهتُ لوجودها، حين ظهرت سيارة أعرفها كل المعرفة وكان رجل -بابا يقودها. توقفَتْ. فُتح الباب وصعدت المرأة وانطلقت السيارة من جديد. ألقت المرأة بذراعيها حول عنق رجل حياتي لتقبّله على شحمة أذنه ثم اختفيا من حياتي.‏


هرعتُ إلى البيت وجلستُ في غرفتي. نظرت حولي وفجأة، أحسست بماذا أقول؟ نعم أحسست برغبة ضاغطة في أن أرمي كل مايوجد حولي وأن أرمي -لاتخافوا من الكلمة- العالم بأسره. هذا الأثاث وهذه الكتب جميعاً وهذه الطنافس وهذه السجاجيد. داهمتني رغبة في أن أتقيأها كلها، في أن أنظر إليها بالاشمئزاز نفسه وبالدهشة نفسها التي ننظر بها إلى كومة من المواد المتعددة الألواث التي تخرجها معدة مريضة. كان ذلك في إحدى الأمسيات الشتوية وبقيت غارقة في تأمل حياتي التي تقيأتها للتو حتى خيّم الظلام تماماً.‏


تلمساً، ذهبت إلى غرفتي. تداعيت على سريري ورحت أفكر في الطريقة التي يجب أن أسلكها من الآن فصاعداً في معاملة عشيقي. واجهت حلولاً متعددة ولم يناسبني أي منها. بالتأكيد يجب أن أغادر حتى يغادرني هذا الشعور بالاشمئزاز ولكن أين أذهب؟‏
قلت لنفسي بتفكير منطقي تماماً: "ليس المهم مغادرة مكان والاستقرار في مكان آخر، بل المهم مغادرة الأماكن كلها" مباشرة، وبلا تردد، أشعلت مصباح القراءة، سكبت قليلاً من الماء في كوب ثم ابتلعت كل مااحتواه أنبوب الحبوب المنوّمة: حبتين، حبتين... في أعماقي، لم تخامرني أبداً فكرة موتي بل فكرة موت إحساساتي وذكائي، لئلا أعود قادرة على التفكير في أي شيء ولا على رؤية أي شيء لاسيما صورة سيارة تبتعد، يقودها عشيقي -بابا وتلك المرأة، سارقة الحب، تكلمه بحنان في أذنه. سقطت في ثقب أسود، خرجت منه بعد اثنتي عشر ساعة إذا وجدت نفسي نائمة في إحدى غرف المستشفى هو الذي نقلني إليه، فعندما لم يرني في الموعد الذي حدده لي في ذاك اليوم اشتمَّ رائحة مصيبة حدثت. عندما صحوت، وجدت نفسي في مشفى لايعالج إلا الاضطرابات العقلية الخفيفة، ولم يكن مصحة عقلية. لم يظنُ "بابا" سابقاً أني أصبحت مجنونة لكنه أدخلني إلى هذا المشفى لأن الطبيب الذي يديره صديق له.‏


هل عرف عشيقي أني حاولت الانتحار بسببه؟ هذا ما لم أعرفه أبداً. أما كونه ارتاب في شيءٍ ما فهذا أمر غير مستبعد لأني لمست، طيلة السنوات التي تلت الحادث، في موقفه إزائي ضيقاً وحافزاً للشعور بالذنب من محبين معاً.‏


مكثت في المشفى مايقرب من أسبوع ورجوت طبيبي أن يُفهم بابا -عشيقي أني مازلت تحت تأثير الصدمة، صدمة محاولة للانتحار فاشلة وأني أُفضّل -الآن على الأقل- ألاّ أقابل أحداً. كانت الأيام السبعة التي أمضيتها وحيدةً مفيدةً لي. لقد توصلت أخيراً إلى معرفة الطريق التي يجب أن أسلكها مع الرجل الذي خانني، لن أقطع صلتي به ولن أواصلها، بل "سأعلقّها".‏


لاأريد، بالطبع، أن أجعله يملّني، بل أريد منه أن يواصل اهتمامه بي ولو كان ذلك بلا طائل. قد يظن أحدكم أني تخيلت طريقة للانتقام ناعمة وقاسية. لا، لاشيء من هذا القبيل. في الواقع كنت أريد أن أستمر في رؤيته لأني مازلت أحبه وبما أن حبي قد أطيحَ به لذا لم أعد أريد أن أراه ثانية. إذاً بين هاتين الرغبتين المتناقضتين: المرض العقلي الذي يمكن أن يشفى منه والذي يمكنه أيضاً ألا يشفى منه والذي، إذا لم يُشْفَ منه المرء، فإنه يقطع كل علاقة له مع الآخرين.‏


إن مرضي العقلي هذا يؤدي بشكل رائع المهمة التي حددتُها له: يجب عليه أن "يعلّق" علاقتنا.‏


ولسبب آخر كانت إقامتي في هذا المشفى بالغة الفائدة. فبعد أن راقبت المرضى الذين يعالجهم توصلت إلى تحديد الصفات الخاصة بالمرض المتخيَّل الذي قررت بدءاً من هذه اللحظة أن أكون مصابة به بصورة دائمة. لقد اخترت شكلاً خفيفاً من أشكاله لكنه عنيد. وربما لايمكن الشفاء منه -إنه مرض الكآبة الانحطاطي الذي يكون مصحوباً في أطواره الأولى بهلوسات عديدة ومتنوعة. عليَّ إذاً أن أكون حزينة وواهنة وكارهة للبشر. وعليَّ في الوقت نفسه أن أسمع وأرى أشياء غير موجودة ولايمكن أن يكون لها وجود.‏


بعد عدة أيام من عودتي إلى البيت اتصلت ببابا سابقاً وشرحت له ما أحسُّ به. قلت له إني أكلمه وأنا قابعة في الظلام الدامس، وحيدة، وحيدة تماماً. وفي الوقت نفسه أحسُّ بأن رجلاً يسكن معي في البيت وأني أسمعه يمشي في الغرفة المجاورة ويفتح الأبواب ويغلقها ويدندن بصوت خافت. أبدى بابا سابقاً الكثير من الاستغراب ثم سألني: ألستِ تخافين من هذه الأصوات الغريبة؟ لا، لا، إني لا أخاف. إني أسمعها وهذا كل مافي الأمر. ألا تودّين أن آتي لرؤيتك حالاً؟ لا، لا، فوجوده يوقف هلوساتي، لا. لم أكن أطيق رؤيته، لم أكن أطيق رؤية أحد. ولكن متى نلتقي؟ قريباً، قريباً جداً. عندما أُشفى، بعد شهر مثلاً. لقد أقنعه صوتي الصادق المشوب ببحة حزن حقيقي. وبعد أن جعلني أقسم بأني أحبه، وهذا قسم صحيح لأني حقاً مازلت أحبه، غادرني بعد أن تواعدنا على الالتقاء على الهاتف مرة في الأسبوع على الأقل.‏


عندما أقسمت له أني أحبه لم أجانب الحقيقة. أما فيما يخص هلوساتي فقد كذبت. وعن وجود رجل في بيتي فقد كان صحيحاً كل الصحة، فقد كنت شابة جميلة ولم أشكُ من قلة العاشقين. ولدى خروجي من المشفى ذهبت مباشرة لتصيُّد أقلهم قبحاً. كان طالباً يدعى مانليو، وبعد وقت قصير مارسنا الحب. لم أكن أحب هذا المانليو، بل كنت أحب مموِّلي، لم أكن أريد الانتقام، لم أكن أريد شيئاً محدداً. فقط تابعتْ الحياة مسيرتها مع زيادة هذا الخيال الذي بسببه كنت أنفي لعشيقي سابقاً أنها تتابع مسيرتها. على العموم، كان مرضي العقلي ينتصب بيننا كلوح من الزجاج الذي يسمح لنا أن نرى الآخرين ولايسمح لهم برؤيتنا. أنا أرى مموِّلي وحبه لي بينما هو لايراني ولا يرى مانليو الواقف خلفي منتظراً بفارغ الصبر انتهاء المكالمة.‏
  رد مع اقتباس
قديم 10/08/2008   #2
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


هكذا بدأت بالنسبة لي حياة مزدوجة أو بالأحرى حياة منقسمة إلى قسمين، القسم الأول حقيقي لكنه منفي كما هو والقسم الآخر غير واقعي لكنه مُعلَن ثبات على أنه الوحيد الواقعي. كنت أعيش حياتي اليومية ككل الناس، وبشكل اعتيادي. ومع ذلك كنت أقول لبابا سابقاً إن حياتي "معلّقة" بسبب اضطراباتي النفسية ولن أستأنف وجودي إلا في اليوم الذي سنلتقي فيه.‏



هنا قد يقول قائل إنه من السهل على هذا الرجل (بابا) أن يتأكد من صدق أقوالي وأن يكتشف أني لم أكن مريضة وأن لدي عشيقاً.. إلخ. جوابي هو أننا ننتمي إلى وسطين مختلفين وأنت في مدننا الحديثة قد تمر سنوات دون أن يلتقي شخصان يعرفان بعضهما البعض.‏


وقد يقول آخر مامن رجل يتابع اتصالاته خلال عدة قرون مع امرأة ترفض أن تراه. وهنا أيضاً لدي إجابة هي أن ممولي الذي يحسُّ بذنبه كان يريد أن أسامحه بأي ثمن.‏


هاقد مرت خمس سنوات على إقامتي القصيرة في المشفى. حدثت خلالها أمور كثيرة. ماهي هذه الأمور؟ هي ذي باختصار شديد: لقد بدَّلتُ مانليو بأليساندرو وهذا برانيرو وهذا بليفْيو. قمت بعدة رحلات إلى الخارج، وفي كل مرة كنت أسافر مع رجل مختلف: سافرت إلى البرازيل، إلى الهند، إلى المغرب، إلى جنوب أفريقيا. بعد سفري إلى هذه البلد صرت حاملاً من ليفيو ورزقت بطفل. وخلال ثلاث سنوات رافقت ليفيو في تنقلاته كلها وأصبحت مبعوثة خاصة لإحدى الصحف اليومية. ثم قطعت علاقتي مع ليفيو وأنجبت طفلاً آخر من الرجل الذي أعيش معه الآن ويدعى فيدريكو. غيّرت شقتي ثلاث مرات ومهنتي مرتين، وأجريت بحوثاً علمية وأصبحت سكرتيرة تحرير في مجلة متخصصة في هندسة المدن.. تابع بابا وعشيقي سابقاً اتصالاته الهاتفية معي بشكل منتظم.‏


كنت أرفض أن أراه رفضاً قاطعاً وأُبدي مظاهر مرضي كلها بصوت لا أفتعله إلا عند كلامي معه. صوت ناعم، واضح، حزين، أقول له إني أُحسُّ أني في حالة سيئة وإني لاألتقي أحداً وإني مازلت وحيدة وإني أرى سرابات غريبة وهلوسات، أحياناً أكون متأكدة من أن لي ولدين وأحياناً ثلاثة عشاق وكلهم يحبونني بجنون، وطوراً أكون متأكدة من أني عدت للتو من رحلة إلى بلد استوائي أو أني غيَّرتُ شقتي.‏


كنت أقول الحقيقة لكني كنت أصورها كالوهم، كأحلام أحلمها وأنا مفتوحة العينين. كانت لهجتي دائماً صادقة رغم أنها مشوبة ببعض الحزن. كنت أردد على مسامعه أني أحبه ولم أحب سواه وأننا سنلتقي ذات يوم قريب. كان الأمر غريباً لكنه كان يميل إلى تصديق مثل هذه الوعود.‏


والآن يجب أن أعترف أن هذه المكالمات الهاتفية الشهرية مع الرجل الوحيد الذي أحببته تضع الوجود الذي أعيشه يومياً على طريق خياليٍ غريب ومليءٍ بالهلوسات. ولكنَّ هذا التوهم للمرضى العقلي (ولكن هل هذا توهم؟ أليس مرضاً أن يتوهم الإنسان المرض؟) أعطى للناس وللأحداث في حياتي نوعاً شبحياً من الأشياء التي لاتنجح في إقناعي كلياً بوجودها الفعلي حتى عندما تتكرر وتتطور. هذا صحيح تماماً، إذ إني، أحياناً، في الوقت الذي أكلِّم فيه عشيقي العجوز أرتب جلستي بحيث يستطيع الرجل الذي أعيش معه أن يجلس بجانبي ويعانقني كما لو أني كنت أريد أن أتأكد من وجوده ومن أنه هو حقاً وليس كائناً من نسج خيالي.‏


كانت مكالمتنا الأخيرة نموذجية حقاً. فأنا لم أستطع مقاومة متعة تسجيله كما هو: "كيف حالك؟" "بينَ بين!" "أمازال سيئاً؟" "قل أكثر سوءاً" "هل تريدين أن أقول لك مايلزمك حتى تتعافين؟ أنت في حاجة إلى زوج وعدة أولاد وأسرة لسوء حظي أني لا أستطيع أن أمنحك هذه الأمور لكني سأكون سعيداً إن حصلتِ عليها." "أنت على حق، أنا في حاجة إلى أسرة. هذا صحيح لدرجة أني أحس بنفسي في حالة في منتهى السوء. وهلوساتي تصوِّر، كيف أقول لك؟ دوراً أسرياً، زوجياً. أسمع أصوات أطفال يجرون ويضحكون في الغرفة المجاورة. أستيقظ ليلاً وأتخيل رجلاً ينام بجانبي. ولكن هل تعلم أني أسمع حقاً أصوات أطفال وأني ألمس ظهر رجل نائم؟" "أتتألمين كثيراً؟" "أوه، نعم، وأحياناً يبدو لي أني أصبحت مجنونة تماماً، أقصد أنَّ حالتي تزداد سوءاً وأني أغوص في حالة من الجنون لا شفاء منها" "أي نوع من الجنون؟" "هذا سهل فهمه، أليس كذلك؟ إنه جنون يجعلكِ تعتقدين أنك طبيعية وتشبهين الناس جمعياً" "عزيزتي المسكينة، نعم، إني أفهمك. ولكن ألا تودين، ألا تودين حقاً أن آتي لرؤيتك؟ أنا واقعي كما تعرفين، واقعي جداً، وواقعيتي ستطرد خيالاتك" "لا، لا، هذا مستحيل، لن أستطيع استقبالك، أحس بألم، ألم شديد" بهذه الكلمات تودعنا. ثم لبست ثيابي على عجل فقد كان زوجي غير الواقعي في انتظاري ليصحبني للعشاء عند أصدقاء غير واقعيين. آه، نعم. يلزم القليل لتحويل الواقع إلى حلم ولكن يلزم الكثير لتحويل الحلم إلى واقع.‏

ت.عدنان محمود محمد


  رد مع اقتباس
قديم 11/08/2008   #3
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


اللوحة

البيرتو مورافيا‏
ولد ألبيرتو مورافيا في روما عام 1907، وتوفي فيها عام 1990 ألَّف كتابه الأول وهو في الثانية والعشرين من عمره: "غير المبالين" الكتاب الذي ضمن له الشهرة الفورية. وظهر كتابه "المرأة- الفهد"، وهي رواية طبعت بعد وفاته،

عام 1991. ومن أعماله: "الاحتقار"، "السأم"، "رحلة إلى روما"، وأخيراً: "نزهات إفريقية". وظهر كتابه "جدل الأخابيط" في إيطاليا عام 1956، وهو مجموعة نصوصٍ متهوِّرة، يبدو فيها مورافيا غير متوقَّع، ينهل من
الميثولوجيا والأساطير الوثنية.‏
***

استشار أحد تجَّار الكحول، يدعى مارتيناتي، وقد وجد نفسه يملك سيولةً نقدية وفيرة، كما يقال، أحد أبناء إخوته، كان يختلط بالأوساط الفنيَّة، وقرَّر استثمار جزء من مدَّخراته في شراء اللوحات. ترك مارتيناتي، الذي لم يكن خبيراً في هذا المجال، الأمر
لابن أخيه، الذي قام سريعاً بجمع مجموعةٍ صغيرة من الأعمال الفنيَّة، لأفضل رسَّامينا المعاصرين.‏
لم يكن مارتيناتي، فيما سبق، لينفق قرشاً واحداً على هذه اللوحات، التي كان ابن أخيه يجعله يشتريها بأثمانٍ باهظة. وكان يتشبَّث بتصورين اثنين: الجمال الطبيعي والتقليد الحقيقي؛ ولو تُرك لـه المجال ليعبِّر عن رغبته، لاشترى هذه المناظر الموحية،

والشخصيات التافهة، والفلاَّحات الصغيرات، والرعاة، وأطفال الشوارع، والنباتات التي تؤكل التي تملأ محلات تجَّار الفن المذهبَّة، والتي تعتبر من أدنى اللوحات مستوى وأكثرها رواجاً من الناحية التجارية.‏
ومع ذلك، لم يكن مارتيناتي، وهو رجل جاهل، يملك الشجاعة الكافية لمعارضة ابن أخيه صراحةً، وكان يستمر، وهو يتنهَّد، بحشو منزله بهذه اللوحات التي يجدها، بالأحرى، ملطّخة بالألوان برعونةٍ، أكثر منها مرسومة.‏
وكانت تقوم بينه وبين ابن أخيه حرب خفيَّة. فكان مارتيناتي، وهو يواصل تمويل شراء هذه الأعمال الفنيَّة الرائعة المزعومة، يفكِّر ملياً في الثأر بغتةً من قريبه المعتد بنفسه. كان يود أن يمتلك لوحةٍ وأن يقدِّمها فجأةً لابن أخيه، الذي سيصيح عندئذٍ

ويهزأ به، لكن الأمر سيَّان. فعلى الأقل، سيعرف مارتيناتي إلى أين ينظر، من بين جميع بقع الألوان التي توسِّخ جدران منزله.‏
ورأى مارتيناتي، أخيراً، وقد أصبح زائراً مجتهداً لصالات البيع ومخازن التحف، أنه وجد ضالَّته المنشودة. كان الأمر يتعلَّق بلوحةٍ ذات مقاييس كبيرة، تمثِّل كما حدَّد لـه البائع، مارك أنطونيو، الجنرال الكبير، والملكة كليوباترا. وتظهر في الصورة

الملكة جالسةً على عرشها، مرتديةً ثوباً فخماً، والجنرال منحنٍ عند قدميها، إشارة للارتباط العاطفي بينهما وتُرى، في الخلفية، قاعةً كبيرة، لها أعمدة من الرخام، وقبب مغطاة بالتصاوير الجدارية. ولم يكن مارتيناتي يقدِّر كثيراً نبل الموضوع فقط، بل إن
اللوحة بذاتها، لأنه، كما شرح قائلاً لزوجته، كانت الشخصيتان فيها حيتين، ولا ينقصهما إلا القدرة على الكلام. ودفع مارتيناتي، دون علم ابن أخيه دائماً، ثمن اللوحة، وجعلهم يسلِّمونها له في منزله.‏
بعد أن ثبَّت اللوحة في مكان الشرف في قاعة الطعام، دعا مارتيناتي ابن أخيه، وأطلعه على مشتراه ليس دون اضطراب. لم يلقِ ابن أخيه نحو اللوحة أكثر من نظرةٍ خاطفة، ثم سأله بكم اشتراها؛ وأعلن أخيراً، ببرود، أن اللوحة كانت عبارة عن إنسانٍ فانٍ،

وأنها تساوي أقل من ثمن إطارها. فأجابه مارتيناتي، غاضباً، أنه كان مقتنعاً بالعكس، وذلك لصدق الشخصيتين اللتين تبدوان حيتين. وإذا كانت هذه اللوحة، بشخصيها المماثلين كثيراً لكائنين حقيقيين، لا تساوي شيئاً، فما قيمة هذه اللوحات الملطَّخة
وغير المفهومة التي اشتراها له ابن أخيه إذاً؟ رفع ابن أخيه كتفيه، وقال له إنه قد سبق وشرح لـه ذلك ألف مرةٍ: إن ما يهمَّ في الرسم هو الفن وليس الموضوع المصوَّر. فردَّ عليه مارتيناتي بأن القيمة الأساسية للوحةٍ ما، من وجهة نظره هو، هي في
تصوير أشياء يمكننا فهمها والإعجاب بها. وعدا ذلك، كان من الأفضل ترك الجدران عارية. باختصار، كانت المناقشة تتفاقم بعد أن حاول مرةً أخيرة الشرح لعمه ماهيَّة الرسم الجيد، ثم نعته ابن أخيه بالعنيد والجاهل، وذهب وهو يصفق الباب
وراءه.‏
وفي ذلك المساء بالذات، أعلن مارتيناتي لزوجته قائلاً: "هذا غير مجدٍ... لن أترك نفسي أبداً أقتنع بتفضيل بقعٍ ملّونةٍ، غير ذات معنى، على شخصين مثل هذين، حيَّين وحقيقيين جداً، حتى ليقال إنهما مستعدان للوثب خارج اللوحة". رفع

عينيه لا إرادياً وهو يتحدَّث على هذا النحو، وأرسل نظرةً خاطفة إلى اللوحة. فوقعت الملعقة التي كان يرفعها إلى شفتيه عندئذٍ، في صحن حسائه، لأنه رأى أن هذين الشخصين الحقيقيين، والواقعيين جداً، قد غيرا وضعهما صراحةً. كانا جالسين
أحدهما عند قدمي الآخر. وكان الشيء الذي لا يصدّق الآن، بحصر المعنى، هو أن مارك أنطونيو الذي جلس بدوره على العرش، قد حمل كليوباترا على ركبتيه. كان الوضع حميماً جداً؛ لكن الشخصين قد حافظا على جلالهما كاملاً.‏
طلب مارتيناتي، الذي لم يكن يصدِّق عينيه، من زوجته أن تنظر إلى اللوحة هي أيضاً. فنظرت وأدركت أن الشخصين قد غيّرا وضعهما حقاً. لكنها لم تدهش من ذلك، مثله. وجعلته يلاحظ، بكثير من الفطرة السليمة وكما كان يقول هو نفسه، إن

الشخصين كانا حيَّين حقيقة وما هو الغريب إذاً في أنهما، وقد تعبا من الجلوس بالوضع ذاته، قد رغبا في تغييره؟ واضطر مارتيناتي، بعد تفكير إلى الاعتراف بأن هذه الملاحظة لم تكن دون أساس. وأنهيا وجبتهما وهما يعلِّقان على الحدَث، وينظران، من
وقتٍ إلى آخر، إلى جلسةً الشخصين المتعانقين فوق، في اللَّوحة.‏
وفي اليوم التالي، كانت المفاجأة الجديدة: كان مارك أنطونيو، ربما لشعوره بالغيرة، يقف وذراعاه مرفوعتان، يهاجم كليوباترا، التي كانت تبدو أنها تجيبه سريعاً وبالمثل.‏
قالت زوجة مارتيناتي، إذا حكمنا، على الأقل، على المظاهر، فإن لمارك أنطونيو كل الحق في التصرُّف على هذا النحو، لأن كليوباترا امرأة مغناج شهيرة. أما مارتيناتي، فأخذ يدافع عن كليوباترا بحماسة شديدة حتى أن زوجته، وقد أصابتها الغيرة

بدورها، اتَّهمته بأنه ينمِّي ميلاً سرياً نحو الملكة المثيرة.‏
وذهب الزوجان للنوم بمزاجٍ سيِّء.‏
  رد مع اقتباس
قديم 11/08/2008   #4
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


في تلك الليلة، بدا أن الزوجين قد اكتسبا فجأةً، إضافة إلى قدرتهما على الحركة، القدرة على الكلام. واستيقظ مارتيناتي على ضجة أصواتٍ ثائرة تصعد من قاعة الطعام، فذهب بثوب النوم وعلى رؤوس أصابعه، ليسترق السمع. كان صوت الملكة
تسهل معرفته، بتنويعات نغماته المزماريَّة والخادعة؛ أما صوت مارك أنطونيو، فكان غليظاً وعنيفاً. لكن الكلمات لم تكن مفهومة. ربما كانا يتحدَّثان باللغة اللاتينية، أو ربما بالإغريقية، أو ربما بلغةٍ شرقيةٍ ما.‏
بقي مارتيناتي مختبئاً خلف الباب، فترة من الزمن، يستمع إلى هذين الصوتين اللذين يتشاجران، مسحوراً، كما صرَّح بذلك لزوجته فيما بعد، بهذا الحوار في الظلام، بلغةٍ مجهولة قديمة وذات نبرات أجشَّة، استحضرت عالماً مفقوداً، بأكمله، أخيراً، وقد شعر

بالبرودة ترتفع من قدميه العاريتين عبر جسده كله، انحنى إلى الأمام وخاطر بقول: "صه!" حذرة. لكنهما تابعا نقاشهما كما لو أن الأمر لم يحصل. وعاد مارتيناتي، محبطاً، لينام، وظلَّ يسمع، طوال الليل، وهو نصف نائم، مساوماتهما في
الظلام، في قاعة الطعام المجاورة لغرفة نومه.‏
بعد تلك الليلة، ضاعف الشخصان علامات الحياة. أحياناً كانا يتكلَّمان، وأحياناً يتخذان أكثر الأوضاع غرابةٍ وأكثرها حريةً، وأحياناً أخرى، بصراحة، كانا يخرجان من بابٍ مرسومٍ على الخلفية، ويتركان اللوحة خاوية. وهذه الطريقة بالمغادرة، هي التي

كانت تزعج مارتيناتي خصوصاً. وكان يقول لنفسه، أوافق على أن يتجادلا ليلاً، وأوافق أيضاً على أن يتعانقا، ويتداعبا، الخ. أما أن يختفيا، فلا؛ كان ذلك يتخطى المألوف. فهو لم ينفق كل ذلك المال ليحصل على لوحة خالية. وكانت زوجته
ترد عليه قائلة: "إنه كان يثبت بهذه الكلمات، كعادته دائماً، أن تفكيره فظٌ ونفعي. فهذان الشخصان لم يكونا من المعدمين، الذين لا يملكون سوى غرفةٍ واحدة. كانا ملكة وقائداً رومانياً. والله وحده يعلم كم غرفةٍ يضم قصرهما! ومن
الطبيعي جداً أن يحتجبا من وقتٍ إلى آخر، متعبين، لكونهما مرسومين. وكان مارتيناتي يرد عليها بأنهما قد رسما ليوجدا في الإطار، وليس للذهاب ليتفرَّغا لأعمالهما الصغيرة، إلا أن أكبر عيب لهذين الشخصين الحيين جداً هو طبيعة علاقاتهما الصاخبة
وغير المتحفِّظة. وفي الوقت الحاضر، لم يعد ينقضي يوم أو ليلة، لا يتشاجران فيها، لسببٍ أو لآخر. وكانت نزاعاتهما المستمرة تحدث الكثير من الإزعاجات. فكانت، قبل كل شيء، تثير بين مارتيناتي وزوجته مشاجرات مماثلة، لأن زوجته كانت
تتحيَّز للمسكين مارك أنطونيو، الذي كان، تبعاً لرأيها، ضحية امرأة عديمة الحياء والذَّمة، بينما كان مارتيناتي يدافع برقَّةٍ عن الملكة الجميلة. ثم إنهما كانا بالجلجلة الحنجرية المتقطِّعة لصديقهما، يمنعان الزوجين من أن يتناولا طعامهما بسلامٍ نهاراً، تماماً،
كما يمنعانهما من النوم ليلاً. لم يعد هناك أدنى شك الآن في أن الشخصين حيَّان، وحيَّان جداً؛ لكن مارتيناتي بدأ يتمنى أن يكونا، على الأقل ليلاً وفي أثناء الوجبات، أقلَّ حياة.‏
وما زالا على هذه الحال، حتى أخذ مارتيناتي ينظر نظرةً مختلفة تماماً إلى اللوحات، التي كان يحتقرها فيما مضى، والتي جعله ابن أخيه يشتريها. صحيح أن النساء العاريات ذوات الأقدام الضخمة، والوجه الملتوي، والرجال الحول، والمشوَّهون، الذين

يسكنون تلك اللوحات، كانوا لا يتحرَّكون ولا يتكلَّمون؛ لكن الآن، بدت غير واقعيتهم مفضَّلةً أكثر بكثير من حيوية العاشقين الملكيين وباختصار كان أولئك العراة، وتلك الرسومات، يقومون بواجبهم، ألا وهو البقاء جامدين داخل الإطار. وأعلن مارتيناتي
لزوجته، أنه، بعد أن فكَّر جيداً بالموضوع، ربما كان الرسامون الحديثون على حق، بالرسم بهذه الطريقة، الخارجة عن كل مألوف، والبعيدة عن كل حقيقة. فالواقعية الحيَّة، على المدى الطويل، مثل واقعيةِ لوحةٍ قديمة، تصبح غير محتملة.‏
وبعد أن تردَّد كثيراً، حزم مارتيناتي أمره، أخيراً، في ليلةٍ، كان الصوتان يتشاجران فيها بشراسةٍ أعنفٍ من المعتاد، فذهب إلى قاعة الطعام، ورفع اللوحة، وحملها إلى السقيفة، دون أن يهتم بالحوار الدائر فيها، ووضعها أرضاً على مقعد قديم محطَّم. ثم

أعاد غلق الباب بالمفتاح، وعاد لينام من جديد.‏

ترجمة: وفاء شوكت
  رد مع اقتباس
قديم 16/08/2008   #5
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


الرضيع

حين أتت السيدة المحسنة التي تنتمي لجمعية رعاية الأطفال لزيارتنا سألتنا، كما يفعل الجميع، لماذا ننجب كل هذا العدد من الأطفال، فانبرت زوجتي التي كانت تشعر بانقباض في ذلك اليوم لتعلن صراحة ودونما مواربة: "لو كانت لدينا الإمكانيات لذهبنا إلى السينما في المساء. وبما أننا لا نملك النقود فإننا نأوي إلى الفراش، وهكذا يولد الأطفال". بدا الانزعاج على السيدة عندما سمعت هذه الملاحظة ومضت دون أن تضيف كلمة واحدة. أما أنا فقد عنّفت زوجتي قائلاً بأنه لا يصح الإعلان عن الحقيقة دائماً، وعلى المرء كذلك أن يعرف مع من يتعامل قبل أن يعلن الحقيقة.‏
في سن الشباب قبل أن أتزوج كنت أتسلى في كثير من الأحيان بقراءة الأخبار المحلية في الجريدة حيث يصفون كل المصائب التي يمكن أن تحدث للناس مثل حوادث السرقة، والقتل، والانتحار، وحوادث الطرق. من بين كل تلك المصائب واحدة لم أكن أتصور على الإطلاق أن أواجهها وهي أن أصبح "حالة تثير الشفقة"، أي حين يثير شخص ما مشاعر العطف بسبب حظه العاثر دون أن يعزى ذلك لمصيبة محددة أصابته، أي أن حالته تعود لمجرد كونه على قيد الحياة، ليس إلا. كنت شاباً حينذاك كما ذكرت، ولم أكن أعرف معنى إعالة أسرة كبيرة. غير أنني أرى الآن أنني تحولت تدريجياً إلى ما يعني بالضبط تعبير "حالة تثير الشفقة" وهذا ما يثير دهشتي. كنت أقرأ مثلاً: "إنهم يعيشون في حالة فقر مدقع". حسناً، ها نحن نعيش في حالة فقر مدقع. أو يقولون: "وهم يعيشون في بيت ليس له من مقومات البيت غير الاسم". وها أنا الآن أعيش في "تورمارانشيو"، مع زوجتي وأطفالي الستة في غرفة خالية إلا من مراتب كثيرة مفروشة على الأرض. وحين تمطر السماء يتدفق الماء فوق رؤوسنا كما يتدفق على المقاعد الموجودة في شارع "ربيتا". أو قد أقرأ: "وما أن اكتشفت المرأة المسكينة أنها حامل حتى قررت أن تتخلص من ثمرة عاطفتها تلك". حسناً، لقد اتخذت وزوجتي هذا القرار بناءً على اتفاق مشترك حين اكتشفنا أنها حامل للمرة السابعة. قررنا في الواقع أن نترك الطفل في إحدى الكنائس بعد أن يعتدل الطقس ويصبح أكثر دفئاً، أي أن نتركه لرعاية وإحسان أول من يصادفه العثور عليه.‏
بالمساعي الحميدة لمثل أولئك السيدات المحسنات دخلت زوجتي المستشفى لتضع مولودها. وما أن تحسنت حالتها حتى عادت مع المولود إلى "تورمارانشيو". قالت حين دخلت الغرفة: "أتدري؟ على الرغم من أن المستشفى يظل مستشفى إلا أنني كنت أود أن أبقى هناك بمحض إرادتي بدلاً من العودة إلى هنا". وما أن تفوهت بهذه الكلمات حتى أطلق الوليد صرخة لا تصدق، وكأنما فهم معنى كلماتها. كان طفلاً لذيذاً يانعاً له صوت قوي بحيث أخذ يمنع النوم عنّا جميعاً حين يستيقظ ليلاً ويبدأ في البكاء.‏
عندما حلّ شهر أيار وغدا الهواء دافئاً بحيث يسمح بالخروج دون ارتداء معطف انطلقنا أنا وزوجتي من "تورمارانشيو" إلى روما. كانت زوجتي تحتضن الطفل وتضمه إلى صدرها وقد لفته بكمية كبيرة من الخرق وكأنما ستتركه في حقل من الجليد دون أن يصيبه أذى. ما أن بلغنا المدينة، وكأنها تريد أن تخفي حقيقة أنها تمقت ما هي مقدمة عليه، فقد أخذت تتحدث دونما انقطاع وهي مبهورة الأنفاس وعلائم الإجهاد تبدو عليها وقد تناثر شعرها في كل اتجاه وبرزت عيناها من مآقيهما. تتحدث حيناً عن الكنائس المختلفة التي يمكن لنا أن نترك الطفل فيها، مؤكدة بأن من الواجب أن تكون كنيسة يرتادها الأغنياء. فمن الأفضل أن يتربى الطفل بيننا إن كان من سيلتقطونه فقراء مثلنا. وما تلبث بعد قليل أن تتحول لتقول بأنها تصرّ على أن تكون الكنيسة منذورة للسيدة العذراء لأنه كان لها ابن أيضاً وبذا يمكنها أن تتفهم أموراً معينة، وبذا ستمنحه ما يستحق من عطف. هذه الطريقة في الكلام أرهقتني وهيجت أعصابي- خصوصاً وأنني كنت أشعر بالإذلال أيضاً وأمقت ما أنا مقدم عليه. غير أنني كنت أحاول إقناع نفسي بأن علي أن أتمالك مشاعري وأبدو هادئاً لكي أساعدها على التماسك. تفوهت ببعض الاعتراضات مستهدفاً قطع هدير كلامها ثم قلت لها: "عندي فكرة... لم لا نتركه في كنيسة القديس بطرس؟" ترددت للحظة ثم أجابت: "لا، فهي كبيرة جداً وقد لا يرونه هناك... أفضّل تلك الكنيسة الصغيرة في شارع "كوندوقي" حيث توجد كل تلك المحلات الجميلة التي يرتادها الكثيرون من الأغنياء- إنها المكان المناسب!"‏
ركبنا الحافلة حيث جلست صامتة بين الآخرين، وكانت تعيد ترتيب الحرام الصوفي وتحكمه حول الطفل بين حين وآخر، أو تكشف عن وجهه بحرص وتتأمل وجهه. كان الطفل نائماً ووجهه محمرّ ومتورد في وسط كل تلك اللفائف. ثيابه رثة شأن ثيابنا، والشيء الجميل الوحيد الذي يرتديه هما القفازان المصنوعان من الصوف الأزرق، وكان في الحقيقة يفرد يديه على اتساعهما وكأنما يتباهى بقفازيه. نزلنا في "لارجو جولدوني" وعادت زوجتي تثرثر من جديد، ثم توقفت أمام واجهة أحد بائعي المجوهرات وقالت لي وهي تشير إلى المجوهرات المعروضة على رفوف مغطاة بالمخمل الأحمر: "هل ترى ما أجملها! الناس يأتون إلى هذا الشارع ليشتروا المجوهرات والأشياء الجميلة الأخرى. أما الفقراء فليس لهم شأن بهذا المكان. وفيما هم ينتقلون من محل إلى آخر يدخلون الكنيسة ليصلّوا للحظة من الزمن، وبعد ذلك، وبينما هم في مزاج رائق يجدون الطفل ويأخذونه..." قالت كل ذلك وهي تقف وتحدق بالمجوهرات وتشد الطفل إلى صدرها وعيناها مفتوحتان على اتساعهما، وهي تتكلم وكأنما تحادث نفسها. أما أنا فلم أكن أجرؤ على مجادلتها. توجهنا إلى الكنيسة، كانت صغيرة وقد دهنت بكاملها بحيث بدت وكأنها من المرمر الأصفر؟ وبها عدد من المحاريب ومنبر كبير. قالت زوجتي بأنها تتذكرها على نحو آخر، وأما وهي كما تراها الآن فإنها لا تحبها على الإطلاق. ومع ذلك فقد غمرت أصابعها في الماء المقدس، وصلّت ثم تابعت سيرها بخطى بطيئة حول المكان وهي تتفحصه بعينين مرتابتين وبعدم ارتياع وتضم الطفل إلى صدرها.‏
كان هنالك نور بارد ساطع ينبعث من قنديل يتدلى من قبة الكنيسة، وأخذت زوجتي تطوف من محراب إلى آخر وهي تتفحص كل شيء: المقاعد، والمحاريب والصور لتحكم فيما إن كانت مكاناً مناسباً تودع فيه الطفل.. أما أنا فقد كنت أتبعها وأسير على مسافة منها وأراقب الباب بحذر طوال الوقت.‏
دخلت فجأة فتاة شابة ممشوقة القوام ترتدي ثوباً أحمر، يزين رأسها شعر أشقر ينسدل كالذهب، ركعت الفتاة والتصقت حينذاك تنورتها بجسمها، وصلّت لفترة دقيقة واحدة فحسب ثم خرجت ثانية دون أن تنظر إلينا. أما زوجتي التي كانت تراقبها فقد قالت فجأة: "ليس هذا بالمكان المناسب، فالناس الذين يرتادونه هم، شأن هذه الفتاة، على عجلة من أمرهم كي يمضوا ليتسلوا ويتفرجوا على المحلات.. لنذهب! ثم خرجت على الفور.‏

يتبع..
  رد مع اقتباس
قديم 18/08/2008   #6
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


عدنا أدراجنا إلى الشارع وسرنا مسافة ما عائدين بخطى مسرعة على طول شارع "كورسو"، زوجتي تتقدمني وأنا أسير وراءها. ما لبثنا أن دخلنا كنيسة أخرى قرب "بيازيا فينيسيا". كانت هذه أكثر اتساعاً وبدت شبه مظلمة، تمتلئ بالصور واللوحات المذهبة والخزائن الزجاجية المزدحمة بقلوب فضية تتلامع في وسط النور المائل للعتمة. كان هنالك عدد كبير نسبياً من الناس داخل الكنيسة، وبنظرة عابرة تبين لي أنهم ممن يعيشون عيشة رخية، فالنساء جميعاً يرتدين القبعات في حين يرتدي الرجال ملابس مرتبة. كان هنالك واعظ يلوح بذراعيه يمنة ويسرة وهو يلقي موعظة من فوق المنبر والجميع يوجهون أنظارهم إليه. بدا لي الوضع حسناً إذ أن أحداً لن يلحظنا ضمن ذلك الجو. همست لزوجتي: "هل نحاول أن نتركه هنا؟" طأطأت رأسها موافقة فاتجهنا إلى إحدى الزوايا الجانبية التي يعمّها الظلام بحيث يصعب عليك أن ترى ما حولك. لم يكن هناك أحد، ولذا غطّت زوجتي وجه الطفل بزاوية الحرام الذي تلفه به ثم وضعته على أحد المقاعد، كما لو كانت تتخلص من لفة تعوق حرية حركة يديها، ثم ركعت وصلت لفترة طويلة وهي تضع كفيها على وجهها. أما أنا، ولأنني لم أجد ما أفعله فقد أخذت أتفحص مئات القلوب الفضية مختلفة الأحجام والتي تغطي جدران المصلى. وقفت في النهاية وقد علت وجهها إمارات الإصرار وسارت مبتعدة ببطء، وسرت وراءها على مسافة قليلة منها. وفي تلك اللحظة صرخ الواعظ قائلاً: "وقال المسيح: إلى أين تمضي يا بطرس؟" أجفلت عند ذلك وكأنما كان يوجه السؤال إليّ، وبينما كانت زوجتي تهم برفع ستارة الباب كي تخرج أفزعنا صوت انطلق من ورائنا يقول: "سيدتي! لقد تركت لفة على المقعد هناك."‏
كانت تلك امرأة ترتدي السواد، من ذلك النمط من النساء المتدينات اللاتي يقضين نهارهن متنقلات بين الكنيسة وغرفة المقدسات. أجابتها زوجتي: "أجل، يا إلهي، شكراً لك فقد نسيتها". ولذا حملت اللفة ثانية وخرجنا ونحن نشعر بأننا أقرب إلى الموت منا إلى الحياة.‏
قالت زوجتي بعد أن خرجنا: "يبدو أن أحداً لا يريد صغيري هذا." قالت تلك الجملة وكأنها شخص حمل بضاعة إلى السوق متوقعاً أن يبيعها بسرعة ولكنه يفاجأ عندما لا يجد من يرغب بها، أخذت تسرع الخطى من جديد وتنهب الأرض بقدميها وهي تلهث بحيث بدت أقدامها وكأنها لا تكاد تمس الأرض. وصلنا إلى كنيسة "بيازا سانتي أبوستولي"، وكانت هذه مفتوحة. وما أن دخلت زوجتي ورأتها واسعة فسيحة ظليلة حتى همسة قائلة: "هذا ما نريده". مشت تغمرها علائم التصميم واتجهت إلى إحدى الزوايا الجانبية، ووضعت الطفل على مقعد وأسرعت عائدة باتجاه المدخل دون أن تتمتم حتى بصلاة قصيرة أو تقبل جبين الطفل، وكأنما الأرض تلتهب تحت أقدامها. ولكنها، وما أن قطعت عدة خطوات حتى اهتزت الكنيسة بصوت بكاء يائس، فقد حان وقت رضاعة الطفل فيما يبدو، وحيث أنه دقيق غاية الدقة في مواعيده فقد أخذ يبكي من شدة الجوع. بدا على زوجتي وكأنها فقدت رشدها حينذاك إذ هرولت أولاً باتجاه الباب، ثم التفتت وهي ما تزال تهرول وجلست على أحد المقاعد دون تفكير وفتحت أزرار قميصها لتعطيه ثديها، وما أن أخرجته حتى التهمه الطفل وكأنه ذئب مفترس وأخذ يرضع بشراهة ويقبض على الثدي بكلتي يديه وقد توقف عن البكاء. ولكننا ما لبثنا أن سمعنا صوتاً يصيح بها: "لا يمكنك أن تفعلي ذلك في هذا المكان. اذهبي من هنا، اخرجي إلى الشارع!" كان هذا صوت قيّم غرفة المقدسات، وهو رجل عجوز ضئيل الجسم ذو لحية بيضاء، ضئيلة تمتد تحت ذقنه وصوت أكبر من جسمه. نهضت زوجتي وهي تغطي صدرها ورأس الطفل ما استطاعت ثم قالت: "ولكن العذراء تحمل طفلها بين يديها كما نراها في الصور كما تعلم." أجاب بحدة: "هل تشبّهين نفسك بالعذراء أيتها المرأة الدعية؟"‏
حسناً، غادرنا تلك الكنيسة أيضاً ومضينا لنجلس في حديقة "بيازيا فينيسيا" حيث أعطت زوجتي ثديها للطفل ثانية إلى أن ارتوى وعاد إلى النوم من جديد.‏
كان المساء قد حل والكنائس تغلق أبوابها وقد حل بنا التعب والارتباك، ولم تعد في جعبتنا أية أفكار قابلة للتنفيذ. شعرت باليأس وأنا أفكر بكل ما حل بنا ونحن نقدم على أمر لا يجدر بنا أن نفعله، ولذا قلت لزوجتي: "اسمعي، لقد تأخرنا ولست أستطيع الاستمرار على هذا الحال.. علينا أن نقرر." أجابت ببعض المرارة: "ولكنه لحمك ودمك! هل تريد أن تتركه كيفما اتفق، في أي زاوية كما قد يترك الناس لفة من الأحشاء لكي تأكلها القطط؟" قلت: "لا، لم أقل ذلك، غير أن هنالك أموراً على المرء أن يفعلها على الفور ودون تفكير، وإلا فإنه لن يقدم عليها على الإطلاق." أجابت: "حقيقة الأمر هي أنك تخشى أن أغير رأيي وأعيده إلى البيت ثانية. أجل، أنتم الرجال جميعكم جبناء! أدركت بأن علي ألا أجادلها في تلك اللحظة، ولذا قلت لها بلهجة تتسم بالاعتدال: "لا تغضبي! إنني أدرك مشاعرك، ولكن تذكري بأنه مهما حل به فسيكون أفضل له من أن يشب في "تورمارانشيو" في غرفة دون مرحاض أو مطبخ، غرفة تمتلئ بالحشرات شتاء وبالذباب صيفاً. صمتت ولم تجب.‏
بدأنا نسير ثانية دون أن ندري إلى أي اتجاه نحن ماضيان. شاهدت شارعاً ضيقاً صغيراً دوننا، كان مهجوراً تماماً وينحدر من الشارع الذي كنا نسير فيه، ورأيت سيارة رمادية مغلقة تقف عند أحد المداخل. طرأت لي فكرة فتوجهت إلى السيارة وعالجت بابها فانفتح. قلت لزوجتي: "أسرعي! هذه هي فرصتنا... ضعيه في المقعد الخلفي." فعلت ما قلت ووضعت الطفل في المقعد الخلفي وأغلقت الباب. فعلنا ذلك في لمح البصر ودون أن يرانا أحد، ثم تأبطت ذراعها وأسرعنا في طريقنا إلى "بيازا ديل كورينالي".‏
كانت الساحة خالية وشبه مظلمة إذ لم تكن فيها إلا بضعة مصابيح مضيئة في أسفل البنايات، أما المصابيح الأخرى فكانت مطفأة. روما كانت تلتمع تحتنا أسفل السياج. توجهت زوجتي إلى النافورة تحت المسلة وجلست على أحد المقاعد وبدأت تبكي على الفور وهي تدير ظهرها لي. قلت لها: "ماذا بك الآن؟" أجابت: "أحسّ بأنني أفتقده بعد أن تركته! أشعر أن هناك شيئاً مفقوداً هنا حيث كان يمسك بصدري." قلت في محاولة لتهدئتها: "أجل، لا شك بذلك، ولكنك ستتعودين على هذا الأمر." هزت كتفيها وتابعت البكاء، وفجأة جفت دموعها كما يجف ماء المطر عن أرض الشارع مع هبوب الريح. قفزت ثانية من مكانها وقد تملكها الغضب وأشارت إلى إحدى البنايات المطلة على الساحة وهي تقول: "سأذهب إلى هناك فوراً وسأطلب رؤية الملك لأخبره بكل شيء." صرخت فيها وأنا أقبض على ذراعها: "قفي، هل جننت؟ ألست تعرفين أنه لم يعد هنالك ملك بعد؟" قالت: "وماذا يهمني في ذلك؟ سأكلم من أخذ مكانه!" واندفعت راكضة نحو بوابة القصر، ولا يعلم إلا الله وحده ماذا كانت ستفعل لو أنني لم أقل لها في لحظة يأس: "حسناً! اسمعي، لقد فكرت في الأمر ثانية. لنذهب إلى تلك السيارة ونستعيد الطفل، أعني سنربيه بأنفسنا. ما الفارق؟ طفل آخر ليس إلا!" كانت تلك هي النقطة الحاسمة في القضية كلها حيث تغلبت تلك الفكرة على فكرة مخاطبة الملك. وقالت وهي تهرول باتجاه الشارع الصغير الذي كانت تقف فيه السيارة الرمادية: "هل تظن أنه ما زال هناك؟" أجبتها: "بالتأكيد! لم يكن ذلك إلا منذ خمس دقائق فقط."‏
كانت السيارة ما تزال هناك بالفعل، غير أنه في اللحظة التي كانت تهم فيها زوجتي بفتح الباب برز من المدخل رجل قصير القامة في أواسط عمره تبدو عليه سيماء الأهمية فصاح بها: "توقفي.. توقفي.. ماذا تفعلين بسيارتي؟" أجابته زوجتي دون أن تلتفت وهي تنحني لتلتقط اللفة من فوق المقعد: "أريد ما هو لي!" ولكن الرجل قال بإصرار: "ولكن ماذا لديك هناك؟ إنها سيارتي، هل تفهمين؟ سيارتي!"‏
ليتك رأيت زوجتي حينذاك، فقد شدت قامتها واتجهت نحوه وهي تصيح: "ومن أخذ منك أي شيء؟ لا تخف! ليس هناك من سيأخذ منك أي شيء، أما سيارتك فإنني أبصق عليها.. انظر!"‏
وبصقت بالفعل على باب السيارة. قال الرجل بحيرة: "ولكن تلك اللفة؟" أجابته بانفعال: ليست لفة، بل هي طفلي. يمكنك أن تراه إن أردت!"‏
كشفت عن وجه الطفل كي يراه ثم تابعت تقول: "لن تنجب أنت وزوجتك طفلاً في مثل جماله حتى ولو ولدتما من جديد! لا تقترب مني وإلا فإنني سأصرخ وأطلب الشرطة لأقول لهم بأنك كنت تحاول أن تسرق طفلي!" ثم أخذت تشتمه وتهدده حتى أن الرجل المسكين كاد يسقط مغشياً عليه وهو يقف فاغر الفم أحمر الوجه. وفي النهاية سارت بخطى متهادية حتى وصلت إلى جانبي عند زاوية الشارع.‏
  رد مع اقتباس
قديم 20/08/2008   #7
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


البرتو مورافيا - 1907-1990‏
يمكن اعتبار ألبرتو مورافيا واحداً من أكثر كتاب القرن العشرين شهرة، ليس على مستوى بلده إيطاليا فحسب بل على مستوى العالم أيضاً. فلقد أنتج خلال حياته ما يزيد على ثلاثين كتاباً بين رواية ومجموعات للقصص القصيرة والمسرحية والمقالة وأدب الأطفال، إضافة إلى الشعر.‏
أقعد المرض مورافيا منذ سن مبكرة مما حال دون تلقيه تعليماً رسمياً. غير أن ذلك لم يقطعه عن عالم الأدب والإبداع. في سن الثامنة عشرة صدرت له رواية كانت أولى أعماله الأدبية ولاقت على الفور نجاحاً كبيراً بحيث أصبح يعتبر أحد الشخصيات الأدبية القيادية في إيطاليا. وما أن أصبحت صحته تمكنه من التجوال حتى عمل مراسلاً صحفياً لصحيفتين إيطاليتين مرموقتين في الولايات المتحدة أولاً ثم في الصين.‏
عندما عاد إلى إيطاليا عام 1936، وجد أن حكومة موسوليني الفاشستية قد منعت تداول أعماله ووضعتها على القائمة السوداء وما لبث جهاز الاستخبارات الفاشستي (الجستابو) أن بدأ بملاحقته بسبب كتاباته المناوئة للنظام الفاشستي بحيث كادت هذه السلطات تتهمه بمعاداة الدولة. ولهذا اضطر إلى التنقل من مكان إلى مكان في داخل إيطاليا. ولقد لجأ إلى جنوب إيطاليا حيث عاش لفترة من الزمن مع الفلاحين الفقراء والرعاة مما عمق من تعاطفه مع تلك الفئات ومن تركيزه في كتاباته على حياة البؤس التي تعيش في ظلها تلك الطبقات المعدمة. وعلى الرغم من منعه من الكتابة خلال تلك الفترة ظل يواصل الكتابة تحت اسم مستعار.‏
اتسمت نظرة مورافيا الأدبية بسمات تراجيدية لأنه كان يشعر بأن الإنسان قد تحول إلى آلة. وهو يعلن بأن النظر إلى الإنسان على أنه وسيلة وليس غاية هو أساس الشر في العالم.‏
قصص مورافيا القصيرة بشكل خاص أكسبته شهرة عالمية حيث تكشف عن انسلاخ الطبقة البورجوازية في إيطاليا وتخليها عن هويتها الوطنية حيث أنها لم تعد تهتم إلا بمصالحها ومتعها الخاصة.‏
  رد مع اقتباس
قديم 20/08/2008   #8
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


امرأة ذائعة الصيت

النظام يغلف كل شيء، في المطار توقفت على مقربة من الطائرة، حشد من الجمهور تدفق نحوي، وهج من النور ينبعث من افريقيا ويجعلني غير قادرة على الرؤية بوضوح، ومن خلال النور بدا الافريقيون وكأنهم اشكال معتمة اللون في الجهة السالبة من الصور، اما الأوروبيون فمن المؤكد انهم قد تواروا عن الأنظار في سنا ضوء الشمسِ
على أي حال استطعت ان أميز الوزير الذي رحب بي باسم الجمهورية التي زرتها في رحلة سياحية منذ مدة قصيرة مضت، هنالك ثلاثة أو أربعة مصورين وقد وقفوا أو جثوا على ركبهم وهم يصورون بحماس، بهوس، وهنا وقف اثنان أو ثلاثة محررين مع اقلام تدون ردي على الوزير في دفتر الملاحظات الخاص بهم، فتاة افريقية صغيرة ترتدي رداء أبيض قدمت لي وهي تنحني باقة من الزهور الذابلة، ثم تسلقت سلم الطائرة ببطء وتأن كي امنح المصورين الفرصة لان يلتقطوا بسمتي الشهيرة، ولكن ما ان وطئت قدماي مدخل الطائرة حتى اسدلت الستارة فجأة على بسمتي، حتى المضيفة التي ينبغي ان تعرف هي نفسها جيدا معنى تلك البسمات المزيفة، خشيت من انه ربما ألم بي مكروهِِ
هززت رأسي وجلست وأنا أجد صعوبة في مقاومة الدمع الذي تدفق من عيني ليبلل خدي، أحس خطرا رهيبا مروعا، احسه الآن، انه يلازمني دائما، على الاقل لعامين طويلين، انه خطر يدفعني الى عرض مرتبك خجول، وعندما ابصرت بنطلونا أبيض لرجل يجلس بجانبي كان هذا كافيا لان ألفت انتباهه وانا اربط حزام المقعد هنالك افتراض واحد من مليون بان هذا الرجل لا يعرف من أكون، افتراض واحد من ألف مليون بان هذا الرجل لم يكن من المعجبين بي، لا، لا، أنا لا أريد ان اغامر بضياعه، لكن ماذا لو اتضح لي انه احد اولئك المعجبين المألوفين؟ معجب يثير النفور والاشمئزاز، سيكون من السهل لدي ان اجعله يقف في حدوده بواحدة من تلك الأجوبة الملأى بالاهانة، بالتهكم، والازدراء، الأجوبة التي انا مشهورة بهاِِ
وبعد ان بدأت الطائرة سيرها حول ساحة الطيران توقفت محركاتها لتدور بأقصى سرعة، لم اتمالك نفسي ووجدتني انظر الى يد جاري وقد تركها على مسند الكرسي، يد شاب ضخمة، قوية لها نوع مميز من اللون الأحمر القاتم، لون دم لم تكن عيناي قد وقعتا عليه ابدا من قبل، ألمي ـ على أي حال ـ كان أقوى من فضولي، اخذت بالبكاء ثانية وانا انظر الى التنبيه المضاء في النهاية البعيدة من الطائرة، 'اربط حزام المقعد، امتنع عن التدخين' وفجأة اخذت الطائرة تشمخ نحو السماء في خط عمودي تقريبا، وضعت يدي فوق يد جاري كما لو كنت خائفة، الطائرة تهتز بعنف وتتيح لي فرصة ان اضغط بها على يده بانفعال، ثم ادرت رأسي ونظرت اليهِِ
لم أكن مخطئة، ها هوذا، شاب أنيق كلي ثقة بانه يجهل من أكون، شيئان تغلغلا في اعماقي، لون رصاصي يميل الى الخضرة ونوع مادة سائل في عينيه اللتين بدتا وكأنهما جردتا من النظر واعميتا بالسائل ذاته، والاختلاف الظاهر بين لون الوجه الأشقر ولون يديه القاتمتين، تبادلنا النظرات، انحدرت دمعتان فوق خدي فقلت وأنا ألهث، 'احس بالوحدة لدرجة القسوةِِ'، اجابني بابتسامة عريضة تكشف عن أسنان بيضاء حادة كالتي يمتلكها الثعلب، 'امرأة جميلة مثلك، وحيدة؟!'ِ
'وحيدة تماما لانني جميلة'ِِ
'انه لأمر غريب، كم ظننت ان الجمال يخلق الصداقات والمودة والعلاقات الغرامية بسهولة'ِِ
'أجل، لكن بشرط ان يقف خلف السوق'ِ
'أي سوق هذا؟!'
'السوق الذي يعرض فيه الجمال، مثله مثل أي سلعة أخرىِِ'ِ
'ثم ماذا بعد ذلك؟'ِ
'ثم تتوقف المعرفة، الصداقة، العلاقة الغرامية التي تتطلب ادنى درجة من الاختبار، من الحرية، من الاستقلال، لن يكون هناك سوى سعر السوق العالي أو الواطئ'ِ
'وجمالك، هل يقف خارج السوق؟!'
وجاء السؤال في نغمة صريحة لا مجال للشك فيها، لا ليس هناك أي تكليف فيها، انه حقا لا يعرف من أكون، قلت مع تنهيدة 'كلا، جمالي ولسنوات في السوق، أنا نجمة سينمائية، في الحقيقة مشهورة جدا، اما أسعاري فهي ضمن الأعلىِِ'ِ
'آوه، حقا؟!'ِ
كنت في شك من أمره، ترى هو يهزأ بي؟ بسمة الثعلب التي تطل من شفتيه، الغموض الذي يحتوي نظرته، كلها تغمرني بالقلق، قلت بحزم 'ادعىِِ' اعطيته اسمي كاملا، لم تحركه كلماتي، اضفت 'ربما، لم تسمع باسمي ابداِِ'ِ
اجاب مع شيء من الارتباك 'كنت ولسنوات عدة في منطقة بعيدة عن افريقيا، انا مستكشف عشت ولست سنوات في جزء مقفر مليء بالمستنقعات والغابات والنباتات المتسلقة والحيوانات المتوحشة، لا أخبار تصلني من العالم الخارجي، غير انني سأرى افلامك عندما أكون في أوروبا، ولكن لم تبكين؟!'ِ
هززت رأسي وانا عاجزة عن الكلام، وبشدة ظلت يدي تضغط على يده، ثم هدأت وقلت، 'تستطيع ان تحكم بنفسك، ولدت في قرية ريفية صغيرة سكانها حوالي خمسة آلاف نسمة، لاحظ كلمة خمسة آلاف، خمسة آلاف شخص يكون عددا لا بأس به لكن خمسة آلاف ساكن يكون موقعا محليا صغيرا، انه واحد من تلك الأماكن المحلية حيث يوجد فيها نموذج واحد من الأشياء، صيدلية واحدة، كنيسة واحدة، مكتبة واحدة، مقهى واحد، سينما واحدة وهكذا، وفي سن الخامسة عشرة عرفت الخمسة آلاف ساكن في قريتي الصغيرة جميعا وهم عرفوني، اذا خرجت عند الغروب لنزهة على قدمي يسارعون لتحيتي التي اردها لهم، اذا ذهبت الى السوق فاصحاب المخازن ينادونني باسمي وانا اناديهم باسمائهم، لو قمت بجولة على قدمي خارج المدينة وعلى امتداد الطريق الرئيسي فأنا أعرف الفلاحين الذين يعملون في الحقول وهم يعرفون جيدا من أكون، في الحقيقة انا عرفت الخمسة آلاف شخص وكنت معروفه لهم جميعا بصورة مباشرة، ودودة وبوضع ينم عن المادة، وعندما أقول مادة أعني هؤلاء الناس كلهم يمتلكون عيونا تركزت لا على صورتي فقط بل علي شخصيا لحما ودما، وأنا بدوري امعنت النظر اليهم، والآن دعنا نقفز عشر سنوات الى الأمام، أنا في الخامسة والعشرين، مشهورة، وكما اخبرتك احس بالوحدة أكثر فأكثر، أنا لست امرأة حمقاء، فأنا اعرف ماذا تعني ماذا، لا اتوقف ابدا عن التفكير بالعزلة التي انا فيها، واخيرا، تبدو لي انها من الممكن ان توضح بهذا الشكل، الوحدة التي احسها ناتجة عن خطأ بي، أوه كيف استطيع ان أشرح ذلك؟ عن خطأ في الحساب، انها كما لو تكون في بداية مراحل نجاحي المهني، كم قلت لنفسي يومها وأنا شابة مغمورة في مدينة ريفية كنت معروفة ومحبوبة وبشكل مادي الى خمسة آلاف ساكن، ولأسباب أكثر لماذا وأنا معروفة الى العالم أجمع وسأعرف وبشكل ودي ومادي ملايين وملايين من الناس، ان هذا الود المتكاتف سيدفئ قلبي ولن يجعلني احس بالوحدة مرة أخرى ابدا ابداِِ
'بدلا من ماذا؟'ِ
'كانت غلطة كما قلت، ان تشتهر يعني ان تكون وحيدا، الشهرة هي كالزجاج في شباك مخزن، أنت توضع للعرض الكل ينظر اليك وهم ماضون على الرصيف، لكن لا يستطيع احد ان يلمسك وأنت أنت نفسك لا تستطيع ان تلمس أحدا، أنا أعني فعلا تلمس، كما ألمس أنا يدك هذه اللحظةِِ'ِ
نظر الي بعطف وحنو، ربما، لكنه قال 'هذا لا يهم، انك مشهورة'ِ
'هل تظن انه لشيء جميل ان تكون مشهورا؟!'ِ
'انه أروع شيء في الوجود، أنا نفسي أقوم بعمل أي شيء، أي شيء لأصبح مشهورا، حتى لو ارتكبت جريمة'ِ
'سوف تصبح مشهوار لمساء واحد فقط ومع الطبعة الثانية من الجرائد تكون قد اختفيت في اللاشيء مرة أخرى'ِ
'وما الذي يجعلك تعتقدين بانني سوف اقتل شخصا عاديا، أنا سوف أقتل شخصا مشهورا، ان شهرة ذلك الشخص سوف تصبح لي، تماما كما هي الحال هنا في افريقيا، لقد اعتقد الناس يوما بان من يأكل كبد العدو يرث شجاعته'ِ
قطع حديثنا بدء الطائرة بالهبوط، وفي الوقت نفسه، وبينما الطائرة تلمس الأرض وهي تفاخر بأزيز محركاتها اذا بجاري ينهض من مقعده ويتقدمني نحو الباب، رأيته على رأس صف من المسافرين يتهيأ للنزول، عشرون شخصا بيني وبينه مما جعلني اقتنع بأنه سوف يتوه عني، لقد كنت وحيدة قبل ان التقيه، كنت واياه اكثر من ساعة واحدة، ها آنذا سأكون وحيدة، مرة اخرىِ
في فندق الدرجة الاولى وفي عاصمة الجمهورية الافريقية الجديدة اعدوا لي جناحا خاصا، غرفة نوم مع غرفة استراحة وحمام، على المنضدة وضعت سلة كبيرة ملأى بفاكهة المنطقة الاستوائية ورسالة مختصرة لم افتحها لانني اعرف مقدما ماذا تحوي - تحية مجاملة من الادارة - ارتديت قميص نوم واتجهت نحو الشباك، نظرت الى الخارج، الشباك يطل على البحر الذي بدا هائجا ذا لون ابيض تقريبا، انه يغلي في ضوء يثير الضيق ويملأ السماء المظلمة بالضباب، وفي الجهة المقابلة للفندق تماما وعلى الجانب البعيد من المتنزه المهجور كان اعلان كبير له حجم شاشة السينما وتحت العنوان وفي احرف بارزة حمراء بدا اسمي ِ ثم ظهرت مع البطلِ
هنالك طرق على الباب، ناديت ادخل، لم افاجأ وانا ارى جاري في الطائرة، اقفل الباب، تقدم نحوي ثم ابتعد قليلا وقال 'تظاهرت بانني لا اعرف من تكونين لكنني كنت اعرف ذلك طول الوقت، عرفت ذلك تماما، كثير من المجلات اعتادت ان تصل الى العيادة الطبية كم قطعت صورك وعلقتها على جدران غرفتي'ِ
- لماذا، اي عيادة طبية هذه؟! ألست مستكشفا؟! ألم تسكن لسنوات ست في منطقة ملأى بالمستنقعات والغابات؟
- اجل، تماما، هذا ما قاله الطبيب لي ايضا، انت مستكشف، كنت مختفيا بعيدا بين المستنقعات والغابات، يجب ان تخرجِ
فجأة ادركت ما الذي كان يحدث لي، ثم وعلى الفور، ما حدث لي في الماضي القريب، وما الذي سوف يحدث، هل كنت خائفة؟! حقا لا، ولكنني تظاهرت ان اكون، اطلقت نفسي منه مع صرخة من الرعب الهادئ، ركضت نحو الباب، ادركت انه اغلق الباب ووضع المفتاح في جيبه بيد انني تظاهرت بضرب الباب بقوة بقبضة يدي، كنت ممثلة فضلا عن كل شيء وكممثلة سوف اموتِ
اطلق الرصاصة الاولى وانا اقف قرب الباب ثم انزل اثنتين او ثلاثا او اربع رصاصات اخرى بي، تركت الباب لأتمدد فوق السرير كي اموت الميتة اللائقة، ادركت انني قد فقدت الكثير من الدم واغلقت عيني، فتحتهما ثانية، ربما على الفور، رأيته وقد انحنى علي وهو يتفحصني، احسست بحاجة الى ان اقول له شيئا مؤثرا، شيئا يهز الاحاسيس، قبل ان افارق الحياة همست وانا الهث 'هل انت مسرور يا ولدي العزيز؟! سوف تصبح مشهورا، اجل مشهورا في كل انحاء العالم'ِ

ترجمة: أسماء بركات

  رد مع اقتباس
قديم 22/08/2008   #9
صبيّة و ست الصبايا تامل
شبه عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ تامل
تامل is offline
 
نورنا ب:
Jul 2006
المطرح:
المغرب
مشاركات:
91

افتراضي


شكرا لمثل هذه القصص
  رد مع اقتباس
قديم 23/08/2008   #10
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


الوردة

في شهر أيار، كانت توجد في حديقة هذا البيت الصغير في الضاحية، بالقرب من أشجار الورد، صفوف من الملفوف. كان المالك، وهو عجوز متقاعد، يعيش وحيداً مع طاهيته، يخلع سترته عند الغسق، ويلبس مئزراً من القماش المخطّط وينكش الأرض بالمعول، ويشذِّبها، ويسقيها ساعة، في انتظار وجبة العشاء. وكانت نساء الحيّ تستطيع رؤيته، وهن عائدات مساءً من الحدائق العامَّة مع أطفالهن، من خلال قضبان الشبكة المعدنية، فيما هو يوجِّه الفوارة على المساكب حاملاً خرطوم الماء بيده. وكان الرجل المتقاعد يقطف، من حينٍ لآخر، ملفوفةً، ويعطيها لطاهيته؛ أو يقص بالمقراض بعضاً من تلك الورود، ويضعها في زهرية في منتصف الطاولة، في قاعة الطعام. وعندما يجد وردة جميلة جمالاً خاصاً، كان الرجل المتقاعد يحملها إلى غرفته، ويضعها في كأس بعد ملئها بالماء، ويضعها على منضدةٍ قرب سريره. وكانت الوردة تبقى في الماء تنظر إلى رأس سرير العجوز، حتى تسقط أوراقها، وتتفتَّح كل بتلاتها مثل الأصابع، وتكشف عن قلبها الأشقر والوَبِر. لكن المتقاعد لم يكن يرمي الوردة إلا عندما يجد بتلاتها منثورةً على رخام المنضدة، ولا يوجد في الماء الذي فتر والمليء بالفقاعات سوى الساق المليئة بالأشواك.‏
وفي صباح أحد أيام شهر أيار، انقضَّت سيتونية(1) مذهَّبة كبيرة، تتبعها ابنتها التي لا تزال شابة، بعد أن حلَّقتا سدىً في حدائق المنطقة، ولم تجدا أية زهرة وقد شاهدتا، من بعيد، مساكب المتقاعد، انقضتا على ورقة شجرة زعرور جرماني، عريضة وقاسية؛ وهنا قالت الأم لابنتها بعد أن استردَّت أنفاسها: "ها قد وصلنا إلى نهاية تجوالنا. فإذا ما انحنيتِ ونظرت إلى الأسفل، سترين زهرات عدة لا تنتظر سوى مجيئك. فنظراً لصغر سنِّك، أردت حتى الآن مرافقتك ونصحك في اختيار الورود وعلاقاتك معها... كنت أخشى أن تتعرض صحتُكِ الجسدية والنفسية للخطر بفعل حداثة الأحاسيس وعنفها إضافة إلى النهم الخاص بشبابك، لكنني وجدت أنكِ سيتونية عاقلة، مثل باقي سيتونيات عائلتنا، وقرَّرت أن الوقت قد حان، من الآن فصاعداً، لكي تعتمدي على نفسك وتحلِّقي بأجنحتك نحو الورود التي تفضلين؛ فمن الأوفق إذاً أن نفترق نهاراً كاملاً؛ وسنعود ونلتقي على ورقة شجرة الزعرور هذه. لكنني سأعطيكِ قبل أن نفترق، بعض التوصيات. تذكّري أن السيتونية خلقت لتلتهم الورود. أو، على العكس، خلق الله الورود كي تتغذّى السيتونيات عليها. وبخلاف ذلك، فلسنا نجد لماذا تصلح هذه الورود. وإذا لم تجدي ورداً، أمسكي وامتنعي عن الطعام، فمن الأفضل تحمّل الجوع على مسّ غذاءٍ غير جدير بعِرقنا. ولا تصدِّقي مغالطات دود الأرض والرعاع الآخرين، الذين يدَّعون أن جميع الورود جيدة. هذا ما يبدو، في أول الأمر لكن بعد ذلك تنكشف بعض الأمور. وبعد أن ينقضي زمن الشباب، تكشف السيتونية التي انحطت، النقاب عن جميع نقائص انحطاطها المخجلة؛ وعليها، بعد أن يتم إبعادها عن قومها أن تقاوم صحبة الخنافس والزنابير والطفيليات، وقائمة طويلة أخرى من الهَنات(2). لأن الوردة، يا صغيرتي، هي غذاء إلهي، قبل أن تكون غذاءً مادياً. ومن جمالها، تنهل السيتونية جمالها هي. إنها أشياء غامضة، ولن أعرف أن أقول لكِ أكثر من ذلك. وأعرف ببساطة، أن بعض القوانين، التي تدعى، بدقةٍ، إلهية، لم تُنْتَهك أبداً دون عقاب. لكنكِ لست بحاجة لمثل هذه التحذيرات، فأنتِ سيتونية سويَّة ونزيهة، وتحكمين بالفطرة على بعض الأشياء. فإلى اللقاء، يا صغيرتي، إلى اللقاء هذا المساء." وبعد أن عبَّرت عن أفكارها على هذا النحو، طارت الأم الشجاعة، لأن وردة قرمزية ضخمة، تفتَّحت أوراقها قبل هنيهة، كانت الآن تستهويها، وتخشى أن تسبقها إليها سيتونية أخرى، أو أن تستميل صراحة، ابنتها.‏
وبقيت السيتونية الفتيَّة بضع دقائق أخرى على ورقة شجرة الزعرور تتملَّى حديث أمها. ثم طارت بدورها.‏
إن أحداً آخر غير السيتونية، لا يمكنه أن يتصوَّر ما هي الوردة لسيتونية. فتخيَّلوا الزرقة في شهر أيار، تجتازها موجات شمسية بطيئة، في حديقة مزهرة. وها هو سطح منتفخ وأبيض يظهر أمام عيني السيتونية المحلِّقة والتي يداعب ظلّها بتضاريسه المُهيبة، ويتوِّج الضوء حوافه المتألِّقة؛ سطح واسع وناعم، مماثلٍ لسطح ثدي مثقل بالحليب. إنها الورقة الخارجية لوردة بيضاء، لا تزال منغلقة، لكنها عريضة عند الأطراف، وتكشف عن أوراق أخرى متراصَّة وملتوية بعضها على بعض. وقد أثار هذا البياض الشاسع والبكر، الذي اكتسح فجأةً سماء عينيّ السيتونية، هيجاناً شرهاً، فاتناً ولاهثاً. وكان أول اندفاع شعرت به، هي أن تنقضَّ برأسها أولاً، على هذا اللحم الرائع غير المحمي، وتنهشه، وتمزِّقه لتدمغه بندبة استحواذها المسبق عليه. لكن حدسها أوحى لها بطريقة أكثر نعومة لولوج الوردة؛ وها هي تتشبَّث بحوافي ورقةٍ مفرطة وتتسلل إلى داخل الوردة. كان في الإمكان رؤية جسم السيتونية الأخضر- الذهبي برهة، مماثلاً ليد تندس بين أغطية سرائر من الكتَّان الأبيض، يتخبَّط بيأس، محاولاً شق طريقٍ لنفسه؛ ثم اختفى تقريباً، واستعادت الوردة، المنتصبة على ساقها، مظهرها المألوف، شبيهةً بفتاة شابة، تحتفظ تحت مظهر البراءة العذرية، بالسر الحارق لأول عناقٍ غراميّ لها. لكن، فلنتبع السيتونية في قرارة الوردة. كل شيء حولها ظلام؛ لكنه ظلام نديّ، ذكيّ الرائحة وناعم؛ ظلام يحيا ويخفق في ثناياها الخفيَّة، مثل ثنايا فمٍ مُشْتَهى؛ والسيتونية ذاهلة بعطر الوردة، مبهورة ببياضها الذي تسبره بين البتلات التي تنطبق ثانيةً، وقد اهتاجت بليونة هذا اللحم. وهي ليست سوى رغبة، كما أن الوردة ليست سوى غرام؛ وبحبٍّ جنوني فطري، بدأت تلتهم الأوراق. ليس الجوع، كما قد يُظن خطأ، ما يدفعها إلى تمزيق البتلات وخرقها، لكنها الرغبة المجنونة في الوصول إلى قلب الوردة بأسرع وقتٍ ممكن. إنها تعصر بين براثنها، وتمزِّق، وتقطِّع، وتخزق، وتجزِّئ. وفي الخارج، لا يشك أحد بأمر هذا الولوج المجنون؛ وتحتفظ الوردة المنتصبة والبِكْر تحت ضوء الشمس، بدون خجلٍ، بسرِّها. لقد كسرت السيتونية، في أثناء ذلك الوقت، بهيجانٍ متزايد، غلاف الوردة الأول، والثاني والثالث. وبمقدار ما كانت تلج، كانت الأوراق تصبح أكثر نعومة، وأزكى رائحة، وأكثر بياضاً. وشعرت السيتونية بأنه سيغشى عليها من المباهج، وأن قواها ستخور تقريباً، وتضرب ضربةً أخيرة ببراثنها، وتفتح في متراس البتلات القاتم، فتحة نهائية، وتُدْخِل رأسها أخيراً في الفرو الأبيض والمُسْكِر لغبار الطلع. وستبقى هنا، دائخة، ضائعة، منهكة وكأنها ميتة، في هذه الظلمات الندية والمعطّرة؛ لن تتحرَّك، وستبقى جامدة، ساعات، وأياماً كاملة. أما، في الخارج، فلم يُفْشِ أدنى ارتعاش للأوراق، تحت براءة أشعة شهر أيار، سرَّ الوردة المثير.‏
  رد مع اقتباس
قديم 23/08/2008   #11
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


هذا هو قدَر السيتونية. لقد كانت هذه الشابَّة التي أعطتها أمها نصائحها التي تظنُّها غير ضرورية، تشعر في الواقع بأنها مختلفة، اختلافاً لا يُحدّ نهائياً، عن رفيقاتها من جنسها. شيء لا يصدَّق، لكنه صحيح: كانت الورود لا تعني لها شيئاً. وكانت سيتونيتنا تشعر، شعوراً عارماً، بأنها مدفوعة لتغيير هذه المشاعر الوراثية والحارَّة، التي تشعر بها السيتونيات نحو أجمل الورود المعطَّرة، منذ الأزمنة السحيقة، إلى اختيارات باردة وخشنة. كانت السيتونية قد اكتشفت باكراً جداً ميولها، ورأت، في مبادرةٍ أولية، أن تكاشف أمها بالأمر. لكنها فيما بعد، ومثلما يحدث دائماً في هذه الحالة، شعرت بالذعر من صعوبة اعترافٍ كهذا، وفي الوقت ذاته ومع شكِّها بالعلاج الأمومي، عدلت عن ذلك. وحاولت جاهدة ولثقتها بقدراتها الشخصية، إصلاح نفسها بنفسها. وهكذا حاولت متنقِّلة من وردةٍ إلى وردة، تحت عيني أمها العطوف، الحصول مع الرضى على هذه الرغبات التي كانت فطرتها ترفض إعطاءها لها. جهد ضائع. فما أن كانت تدخل بين الأوراق حتى تتوقَّف سريعاً، وكأنها مشلولة، وليس فقط غير مبالية، بل صراحةً، عرضة لنفورٍ لا يقاوم. وكان هذا اللَّحم الناعم يبدو لها مغموساً بشهوةٍ لزجة وعسليَّة، والروائح كعفونات مختلطة، والبياض كظلٍّ نجسٍ وفاحش. وكانت تحلم، وهي لا تزال جامدة ومشمئزَّة، بالملفوف الأخضر الطازج والشهي. فالملفوف لا يتزيَّن بألوان البطاقات البريدية المزيَّفة، ولا يتعطَّر بعطر البتشولي(3) المقزِّز والمريب، ولا يعرض بمحاباة هذه العذوبة المغثية. وقلب الملفوف مثير للشهية، يلتوي وهو يتعرَّج بين التِلَع(4)، ورائحته رائحة العشب والندى الصحيِّ، ولونه أخضر زاهٍ. كانت السيتونية تلعن في قلبها، الطبيعة التي جعلتها مختلفة عن ممثِّلات جنسها الأخريات؛ أو بالأحرى ما جعل جميع السيتونيات الأخريات مختلفات عنها. أخيراً، وعندما وجدت أن إرادتها لا تساعدها على النجاح في شيء، وأنها حاولت جاهدة إرغام نفسها كثيراً ولم تستطع حب الورود، قررت ألا تقاوم ميولها أبداً، بل أن تستسلم لها صراحةً. كانت تفكر أحياناً، محاولة تبرئة نفسها بطريقة مغالطة، وإنامة ضميرها تقول: "وفضلاً عن ذلك، ما هو الملفوف؟ إنه وردة خضراء... إذاً، لماذا لا أحبُّ الملفوف...؟"‏
بعد كل ما قيل، من السَّهل تصوُّر ملاحظات السيتونية الشابة، حول ورقة شجرة الزعرور، حيث تركتها الأم لتطير نحو وردة شهواتها. ولكي نسلّط الضوء على مأساة هذه النّفْس، سنروي بعضاً منها: "شيء حزين أن نُخْلق مختلفين عن الجمهور. لا نعرف لماذا، ولا نعرف كيف يصبح الفرق، فجأة، دونيةً، خطيئةً، وجريمة. ومع ذلك، لا يوجد بين الجمهور وبيني سوى علاقة عدد. مصادفة كون السيتونيات، في غالبيتهن العظمى يحببن الورود؛ من الجيد إذاً، أن نحب الورود. نهج جميل في التفكير. أنا، مثلاً، أحب الملفوف ولا شيء آخر سوى الملفوف. إنني مكونَّة على هذا النحو، ولا أستطيع أن أتغيّر."‏
ومن غير المجدي، من جهةٍ أخرى، نقل أفكار السيتونية التعيسة كاملةً. يكفي القول، كي نبتّ في أمر تفكيرها الطويل إنها طارت نحو شجرة الزعرور، وبعد عدة جولات استكشافية، ذهبت لتحط على ورقة أكبر ملفوفة موجودة، لونها أخضر-مزرق، منتفخة، ومليئة بالضلوع والتجاعيد. وكي لا تلفت الأنظار إليها، تظاهرت بأنها حطّت على الخضرة لترتاح. وبالتالي، اتخذت وضعاً متراخياً؛ فجلست على جنبها وأسندت رأسها على قائمتها. وكان نعم الرأي، لأن سيتونيتين طائشتين مفعمتين بالحيوية، ظهرتا بعد برهة، وأخذتا ترفرفان حولها. ثم صاحتا ثملتين: "ألن تأتي؟ إننا ذاهبتان إلى الورود." ولحسن الحظ أنهما لم تهتَّما في عجلتهما بمراقبة رد السيتونية على دعوتهما. ................وبعد أن ألقت السيتونية نظرة خاطفة حولها، ولحظت عدم ظهور أي سيتونية في الأفق، تظاهرت بأنها تعثَّرت بضلعٍ من أضلع ورقة الملفوف، وتركت نفسها تتدحرج باتجاه قلب الخضرة. وخلال ثانية واحدة، وبعد أن أحدثت فتحةً بضرباتٍ تشنُّجية في الورقة السمينة والغشائية، اختفت داخل قلبها المجعَّد.‏
وماذا نقول أكثر من ذلك؟ هل علينا أن نتوقَّف عند وصف الهيجان الذي فتحت به السيتونية طريقاً لها داخل الملفوفة، وقد أصبحت حرة أخيراً في إطلاق غرائزها المكبوتة، وقد انتشت بالنتانة النباتية التي كانت تفوح من قلب النبتة الشحيم، وكيف وصلت إلى قلب الأوراق البارد واللَّزج؟ وكيف بقيت طوال النهار في الداخل، خائرة القوى، وأمضت فيه نهار سكرٍ وعربدةٍ حقيقيين؟ ....... وعند المساء، انسحبت السيتونية، على مضض، بالممر الذي حفرته في قلب الملفوفة، كما هو مقرَّر، وطارت نحو شجرة الزعرور، إلى المكان الذي حدَّدته أمها لموعدهما. فوجدتها منحنية، تنظر حولها، قلقة لأنها لم ترها تظهر. سألت الأم الشجاعة ابنتها سريعاً كيف سارت الأمور خلال النهار؛ فردت السيتونية صراحة، بأن كل شيء تمَّ على أحسن ما يرام: فالورود متوفِّرة بكثرة. وتفحَّصت الأم وجه ابنتها؛ لكنها اطمأنّت تماماً لملاحظتها بأنه صافٍ وبريء مثلما هو دائماً. قالت لها عندئذٍ: "تصوَّري بأن فضيحة قد تفجّرت... لقد شوهدت سيتونية تدخل تحت أوراق، أكاد لا أجرؤ على أن أكرِّر الكلمة، ملفوفة." وزايدت الابنة قائلة: "يا للهول"؛ لكن سرعة دقات قلبها بدأت تشتد، وأضافت: "ومن كانت؟" أجابت الأم: "لم يستطيعوا تبيُّنها. شاهدوها تدخل تحت الأوراق، وهي تخبِّئ رأسها فيها... لكن، تبعاً لأغمدتها يُظَنُّ أنها فتيّة. شقيّة هي الأم التي جعلها حظها العاثر تلد بنتاً كتلك. وأعترف لكِ بأنني لو كنت أعلم أن لابنتي ميولاً مماثلة، لمتُّ من الألم." وردّت البنت قائلة: "إنكِ على حق. إنها أشياء يرفض العقل حتى تصوّرها." فقالت الأم: "هيا بنا." وطارت السيتونيتان في فتور الغسق، نحو حدائق أخرى، وهما تثرثران.‏


ترجمة: وفاء شوكت
______________________________________________
" عن الفرنسية"‏
(1)- سيتونيه (حشرة تشبه الزيز، من مغمدات الأجنحة).‏
(2)- هَنَة (ما يرميه الصيادون من صغار السمك).‏
(3)- بتشولي (عشب عَطِر).‏
(4)- تلعة ج تِلَع (ما علا من الأرض).‏
  رد مع اقتباس
قديم 24/08/2008   #12
صبيّة و ست الصبايا وشم الجمال
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ وشم الجمال
وشم الجمال is offline
 
نورنا ب:
Aug 2007
المطرح:
جبين الشمس
مشاركات:
4,561

افتراضي


ما قريتن كلن بس الجنون وجد اسلوب كتير رائع وفكرة كتير حلوة .....

يعني بصراحة الله ياخد اللي مو منيح ....هيك كلمة من قلبي شو دخلك انت

تباً إننا جيل كامل من الانتظار .. متى نفرغ من الصبر .. و من مضغ الهواء ..


اتعرى من الجميع كي أجدني,,,,
فأضيع !!!!

حاولتُ أن أغرق أحزاني في الكحول، لكنها، تلك اللعينة، تعلَّمَت كيف تسبح!
  رد مع اقتباس
قديم 31/08/2008   #13
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


شجرة المنزل

كانت الخلافات بين أوديناتو وزوجته كارينا، تتواصل حول ملاءمة العيش وسط الطبيعة، أو وسط الأبنية التي يشيِّدها الإنسان. كان أوديناتو، وهو رجل نظام ودراسة، يميل إلى حياة متحضِّرة، بيتية، مدنيَّة، بعيدة عن عنف الطبيعة وألغازها. أما كارينا، فكانت تحب ممارسة التمرينات الرياضية في الهواء الطلق، والسباحة، والشمس، والغابات، وتحب السير عاريةً على الشاطئ، ومثل ذلك من الأمور. وإذا ما كنا نريد سحب النزاع الذي يبقيانه دائماً في حدود العواطف الزوجية، أمكننا القول، إن الزوج يمثِّل حضارةً عقلانية، وإنسانية، مدنية، الخ؛ وإن الزوجة تمثَّل العكس تماماً. وتحدث أحياناً في هذه العائلات البرجوازية مجابهات صغيرة جداً مماثلة تخفي وراءها مجابهاتٍ أكبر بكثير.‏

وبالمقابل، كما سبقت أن قلنا، كان النزاع ينحصر دائماً في حدود الحميمية الزوجية. صحيح أنهما لم يكونا متفقين حول هذا التفصيل، لكن الوفاق كان تاماً تقريباً بينهما،‏
حول باقي الأمور. وكان كل شيء يسير دائماً على ما يرام، لو لم تبرز فجأةً مشكلة الشجرة المزعجة.‏


كان الزوجان ميسورَيْن بل ثريَّان، يسكنان في مبنى قديم وسط المدينة. وكان في الشقة، من بين غرفٍ أخرى، قاعة استقبال فسيحة. والحال أن كارينا وجدت أن زوجها، وقد عادت إلى المنزل بعد ظهر يومٍ من الأيام، يستعدّ، وهو مسلَّح بسطام (1)، لقطع جُنْبَة (2)، أو بالأحرى، شجيرة لا تزال ليِّنة، نمت، فجأةً، في زاوية قاعة الاستقبال، بين المدفأة ذات الطراز الإمبراطوري، وصِوان المائدة، طراز لويس الخامس عشر، المملوء بالتماثيل الصغيرة الثقيلة الزخرف، وأواني "سيفر" (3) الخزفية؛ كان طول النبتة أو الشجيرة الآن متراً. وهي نبتة لم ترها زوجة أدويناتو أبداً من قبل هي طويلة ومستقيمة، أوراقها كبيرة وخضراء، لامعة وذات وبرٍ قليل من جهة، ومائلة إلى البياض من الجهة الأخرى. باختصار، أوراق شبيهة جداً بأوراق الدلب. لكن بدلاً من رأس ورقة الدلب الذي يجعلها تشبه غالباً يداً أصابعها متباعدة، كانت هذه الأوراق على شكل قلب، لـه رأسان، أو بالأحرى قلبان ذائبان في واحد، يشبهان بالضبط القلبين الذين يحفرهما العشاق في قشر الشجر ويجمعانهما بسهمٍ واحد يخترقهما. كانت هذه الشجيرة تنبثق من الأرض المبرقشة. وبالإمكان رؤية الجذور الليِّنة وقد غمست لحاها بين لوحتين صغيرتين منها، بوضوح.‏
أطلقت المرأة صرخةً وهي ترى أوديناتو يُشْهِر السطام، بطريقةٍ عدوانية، ضد النبتة الصغيرة الناعمة؛ فتدخَّلت في الوقت المناسب، لتحوِّل اتجاه الضربة، التي وقعت أخيراً على صِوان المائدة طراز لويس الخامس عشر، محطَّمة واجهته الزجاجية. وتبع ذلك مشادةً حاميةً بينهما: ومثلما يحدث دائماً في مثل تلك الحالات، أعطت الشجرة، التي كانت غير ذات معنى بذاتها، الفرصة لإطلاق العديد من الأحقاد المكبوتة؛ كان أوديناتو يصرّ على أنه يجب اقتلاع النبتة، التي، برأيه، لا تنسجم مع طراز الديكور في القاعة. وكارينا تلومه على كراهيته المعتادة للطبيعة، وتصرخ قائلة: "هذه هي حقيقتك، حين ترى شجرةً فإن أول فكرة تخطر ببالك هي قطعها.. لكن، ألا تعرف أن الأشجار مقدَّسة؟" ويجيب أوديناتو على ذلك بأنه لا يملك شيئاً ضد الأشجار؛ إلا أن وجود شجرةٍ في المنزل يشكِّل عائقاً كبيراً. هذا دون الأخذ بالحسبان وجود فرق بين شجرةٍ وأخرى: فليتها كانت شجرة سنديان، وهي شجرة نبيلة، كانت أوراقها تتوِّج رؤوس المحاربين القدامى، أو شجرة الغار المقدَّسة (وهي شجرة ربَّات الفن)، أو شجرة الزيتون الورعة والمسالمة، أو شجرة سرو جنائزية لكن حالمة، أو حتى، ولمَ لا، شجرة صنوبر، نستطيع تزيينها في نهاية العام بالشموع وأكاليل الزهر. أما هذه الشجرة، فالله وحده يعلم من أين خرجت، وأي شجرةٍ قذرةٍ هي. وترد زوجته قائلة:‏
"لكن، أخيراً، لمَ تزعجك؟ إنها لا تعوي مثل الكلب، ولا توسِّخ المكان مثل الطير... إنها صامتة، محتشمة.. لا، لا، إنه حقاً رأي قَبْلي (4)." وبدأ أوديناتو، بعد أن عاد السطام إلى المدفأة، وهو يعترض على وجود الشجرة في منزلـه، بالتراجع شيئاً فشيئاً، تحت شتائم زوجته، باتجاه مكتبه. كان يستسلم دائماً تقريباً أمام كارينا، التي كانت تزداد تسلُّطاً، بشرط، كما كان من عادته أن يقول، ألا تحشر أنفها في كتبه، وفي ما عدا ذلك، تستطيع فعل ما تريده. وهكذا، فتح أوديناتو باب مكتبه في ذلك اليوم، بعد أن ردَّد بصرامةٍ شديدة، أنه لا يحبِّذ إطلاقاً قصة الشجرة هذه، واختفى بداخله.‏
أمضت كارينا طوال بعد ظهر اليوم ذاته وهي تقرأ مؤلَّفات في علم النبات، وتبحث في مسألة النوع الذي يمكن أن تنتمي إليه هذه الشجرة الغامضة؛ ليس ثمة شك في كونها شجرة، لأن لون الجذع وقوامه خشبيَّان. ويسمح شكل الورقة، من جهةٍ أخرى، بتصنيفها بالتأكيد بين الأوراق العريضة ذات الورقية النافضة. حتى الآن، كانت كارينا في وضعٍ حسن؛ أما تسمية الشجرة باسمٍ فأمر مستحيل البتَّ فيه. ولابد أن تكون، على الرغم من ذلك، شجرةً سريعة النمو، لأن كارينا لم تذكر رؤيتها ليلة البارحة خلال استقبالٍ صغير تمَّ في قاعة الاستقبال وقد نمت، في ليلةٍ واحدةٍ فقط، ما يقارب نصف المتر. وحسبت كارينا أنه في معدَّل كهذا سيصل طول الشجرة إلى ثلاثة أو أربعة أمتار، في أسبوع. وكانت تقف، من وقتٍ إلى آخر، وهي تقوم بأبحاثها، لتداعب أوراق الشجرة. وفي ذلك المساء، رفض أوديناتو المتذمِّر أن يتكلَّم مع زوجته، عمداً. لكن كارينا كانت تفكِّر في شجرتها، وتشعر بأنها سعيدة.‏
وفي الأيام التالية، تأكْدت تكُّهنات كارينا بدقة. كانت الشجرة تنمو، وتقتضي الحال قول ذلك، بسرعةٍ كبيرة. وأصبحت نبتة المنزل بالأمس، شجيرة في صباح اليوم التالي. وأصبح الجذع خشبياً عند الأسفل، قائماً نحو الأعلى، وأخذ لون القشرة البنيِّ يطرد اللون الأخضر النباتي بشكلٍ جليّ. حتى الأغصان اكتسبت شكلاً: الأكبر منها تثخن، والأصغر تحوَّل اللُّب الطري فيه إلى ليفٍ لدن مغطى بالقشر. ووصل غصن من أغصانها إلى الصوان، وكان بالأمس لا يمسَّه. كانت كارينا في أوج سعادتها، وأخطر أوديناتو نفسه، مع أنه ردَّد أن هذا الشيء سوف لن يتأخَّر في خلق المشاكل، التي أهمُّها إدخال نوتة خاطئة في ديكور قاعة الاستقبال، أخطر للاعتراف، وهو يصرف بأسنانه، بأنها كانت شجيرة جميلة.‏
وفي ذلك اليوم، لم تهتم كارينا، وقد أثارتها الحماسة، إلا بالشجرة. فطوت سجادة "البخارى" التي كانت ترسل رأسها في الزاوية، وانتزعت ورقتين عفنتين، بالطبع، ثم ذهبت لتحضر مرشَّة، وضعت مستنقعاً حقيقياً على الأرض. صغرت البركة شيئاً فشيئاً واختفت، وهي إشارة صريحة إلى أن الشجرة شرٌ كامل.‏

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
قديم 31/08/2008   #14
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


بعد هذه البدايات السعيدة، لم تفعل الشجرة سوى النمو. كان الجذع، الذي هو بحجم ساق، ينتصب تقريباً حتى منتصف الجدار، بَميَلان قليل نحو مركز الغرفة. واتخَّذت القشرة هيئتها النهائية، قشرة ناعمة، عسليَّة، فاتحة، بيضاء هنا، صفراء هناك، وأعلى بزرقة السماء، قريبة جداً من قشرة الأوكاليبتوس. كان للشجرة أربعة أغصان رئيسية. يميل أحدها إلى جهة الصِوان، مُخْفياً بخطٍ غير متوقَّع، الزجاج الذي كسره أوديناتو. والثاني يميل لجهة المدفأة، حيث كانت المرآة المتحرِّكة، التي تزيِّن الساعة ذات الطراز "الإمبراطوري"، إنها تختفي الآن، في الخضرة؛ والثالث، الأكبر ربما، لأنه كان أكثر حرية في التمدُّد على راحته، تتقدَّم أوراقه تقريباً إلى وسط قاعة الاستقبال، والرابع أخيراً، يقف عمودياً، وينسحق على زاوية السقف. باختصار، كانت الشجرة تتنامى.‏
ودعت كارينا، وهي في قمة سعادتها صديقاتها الحميمات جداً، لتأتين لتأمُّل الشجرة. وأتت النساء يملؤهن الفضول، لأنهن سمعن الحديث عن الشجرة بغموض، ويعتقدن حقيقةً أن الأمر يتعلَّق بنبتة "فوشية" (5) أو "أزالية" (6)، وباختصار بذاك النوع من النباتات العادية التي تضعها السيدات في أصيص، في زوايا قاعة الاستقبال. لكنهن تجمَّدن عندما وجدن أنها شجرة حقيقية، لها جذور، وجذع، وأغصان، وكل شيء، ابتكار فريد في نوعه، حتى في زمن الحداثات الغريبة هذا. لذا، سكتن بضع ثوانٍ، من الذهول والحسد، وليس فقط كلامياً، بل عقلياً أيضاً. وأخيراً، لم تعد تلك الثرثارات يعرفن ماذا يَقُلْنَ أو بماذا يُفَكِّرن. بعد خروجهن من منزل كارينا، استعدن شجاعتهن وقُلْنَ في أنفسهن إن الشجرة لم تكن هذا الشيء الخارق، بالدرجة التي تصوَّرتها صاحبة المنزل. وقالت إحداهن: "حسناً، كانت شجرة، وإذاً؟ كان من الأطرف لو وجد في قاعة الاستقبال، ما أدراني أنا؟ مِطْيَرَة (7) أو شبل داجن". وأضافت امرأة أخرى: "بماذا تفيد الشجرة؟ إنها ثابتة مثل صخرة، صامتة مثل سمك الشبوط (، وليس باستطاعتنا القول إن بإمكان كارينا استخدامها للوقاية من الشمس. فجدران المنزل تقوم بتلك المهمة. وختمت الشريرات قائلات: "كلا، إنها شذوذ حقيقي، بل أكثر من ذلك: ذوقها مريب.‏
بعد أسبوع، بلغ قطر الشجرة البالغة الآن متراً ونصف المتر عند القاعدة. وازداد ميلان الجذع نحو وسط الغرفة، حتى ليقال إن الشجرة كانت تمد ليس أغصانها، بل ذراعيها، لتستحوذ على الغرفة، ولون القشرة الفاتح واللَّحمي يؤكِّد هذا الشعور الحيواني المجسِّي (9). وتنغرز جذورها الضخمة والملتوية، مثل المخالب بين لويحات الأرضية، رافعةً وقالبةً إياها. كانت كارينا، وهي فريسة لهوى شجرتها، قد أخلت قاعة الاستقبال بأكملها.‏
كان من الغريب حقاً الدخول إلى هذه القاعة الكبيرة، ولا نجد بين جدرانها الأربعة العارية، المغطاة بالورق الموشى، سوى شجرةٍ ضخمة، وحيدة ومنفيَّة في زاوية، مماثلة لأخطبوط نباتي، بأذرعها الكثيرة الورق، الممدودة لتعجَّ في هذا الحيِّز أو المنتصبة لاكتشاف السقف. كان هذا الكائن الضخم المهيب، يدهش بأنه لا ينطق، ولا ينادي بصوتٍ كئيبٍ وحانق. والحال أن أوديناتو، شرط تركه وشأنه، لم يعد يزعج زوجته أبداً. لكنه كان يطلق مكبوتاته خفيةً جالساً مع أحد أصدقائه في مكتبه، ويقول:‏
"ليس لأني أعترض على الشجرة بحد ذاتها، لكن لكل شيء مكانه... الأشجار في الغابة، والإنسان في منزله.. ماذا تعني شجرة في قاعة الاستقبال؟ هذه الطريقة في رزِّ الطبيعة داخل‏
المنازل، هي حداثة شمالية... إن الشماليين يملؤون منازلهم بالنباتات، ربما لأنهم لا يزالون يذكرون الزمن، القريب العهد، الذي كانوا يختبئون فيه، في تجويف شجرة البلوط.. أما نحن، فإننا ننتمي إلى حضارة أقدم... ولا نحتمل الغموض أو العدوى... مدننا مصنوعة من الحجارة.. يبدأ الريف خارج الأسوار، وليس ضمن الجدران!..." هكذا كان يوضِّح فكرته، بوقار. لكن أصدقاءه كانوا يقولون فيما بينهم إنه رجل ضعيف، وإن زوجته، كما يقال، هي التي ترتدي البنطال في منزله.‏
أخيراً، وفي ليلة جميلة من ليالي ذاك الصيف، أيقظت فرقعة رهيبة الزوجين، تبعتها فرقعة كمية كبيرة من الأنقاض. ركضا نحو قاعة الاستقبال، وأول شيء رأياه من خلال فتحةٍ كبيرة في السقف، هو النجوم والهلال. هتفت كارينا وهي تركض لتقبلّ جذع شجرتها العزيزة شجرتي العزيزة تريد تنسُّم الهواء العليل!" فكرَّ أوديناتو: "هاكم كيف هنَّ النساء". لكنه، هنا أيضاً، لم يستطع الاحتجاج.‏
بعد شهر، كانت الشجرة تملأ قاعة الاستقبال بأكملها بأوراقها المضغوطة والمتشابكة. كانوا يفتحون الباب ويجدون أنفسهم وجهاً لوجه، كما يقال، مع غابة. أوراق، وأوراق، وأوراق. في مثل هذه الظروف، لم يكن مدهشا ًأن يجد أوديناتو ذات ليلةٍ الشجرة، صراحةً، في سريره. لا أكثر ولا أقل. كان غضن قد دخل الباب المحطَّم وتقدَّم نحو السرير الزوجي للرجل المثقَّف. ووجد الزوجان نفسيهما مفصولين نهائياً، بحاجز من الأوراق والأغصان. وكان أوديناتو يتذمَّر، من ذلك، قائلاً إن الشجرة تنمو، صراحةً، فوقه، وتضايقه، لأنها تضرب ظهره وساقيه. وكارينا تجيبه بأنه متعصِّب حقيقةً، وجهله مطبق. أما هي، فكانت تشعر بتنميل الأوراق على طول جسمها، الشيء الذي يؤثِّر فيها تأثيراً آخر مختلفاً تماماً. وتقول إنه حمَّام الطبيعة.‏
وفي فصل الخريف، سقطت الأوراق، وملأت قاعة الاستقبال بأكوامٍ حفرٍ تصدر حفيفاً. أحضرت كارينا مُشَدِّباً قَلَّم الشجرة. وتشوَّشت قراءات أوديناتو بضعة أيام بسبب ضربات الفأس. وأخيراً، قدَّمت كارينا الشجرة لزوجها، فخورة مثل أمٍ تعرض ابنها بشعره المقصوص للمرة الأولى، وقد اقتصرت على أغصانها الأكبر دون أوراقٍ أو فروع، قوية ذات عضلات، أكثر من أي وقتٍ مضى، جاهزة لمواجهة قسوة الشتاء. تظاهر أوديناتو المذعن، بالإعجاب بها. لكنه، في نفسه، كان يعتقد أن الطبيعة هي كارثة جميلة، وأن على الحضارة التي تحترم نفسها أن تبقيها أبعد ما يمكن عنها.‏
* ألبرتو مورافيا‏
ولد ألبرتوا مورافيا في روما عام 1907، وتوفيّ فيها عام 1990. ألَّف كتابه الأول وهو في الثانية والعشرين من عمره: "اللامبالون"، الذي ضمن لـه الشهرة الفورية. ونشرت روايته "المرأة الفهد" بعد وفاته، عام 1991. من أعماله: "الاحتقار"، "السأم"، "رحلة إلى روما"، وأخيراً "نزهات إفريقية". ظهر كتابه "جدل الأخطبوطات" في إيطاليا عام 1956، وهو مجموعة نصوص متهوِّرة، يبدو فيها مورافيا غير متوقَّع، ينهل من الميثولوجيا والأساطير الوثنية.‏


ت:وفاء شوكت

______________________________
(1) سطام (حديدة تحرَّك بها النار)‏
(2) جُنْبَة (كل شجرة علوها متران إلى أربعة أمتار، تظل صغيرة، وإن شاخت).‏
(3) سيفر (خزف فاخر من صنع مدينة سيفر بفرنسا).‏
(4) رأي قَبْلي (رأي مكوَّن من قبل لا رجوع فيه).‏
(5) فوشية (جُنْبَة مشهورة بزهرها تعرف باسم نباتي ألماني).‏
(6) أزالية (جنبة للتزيين من فصيلة الخلنجيات).‏
(7) المِطْيرَة (بناء كبير مخصَّص لتربية الطيور).‏
( الشَّبوط (سمك يعيش في المياه الحلوة).‏
(9) المجس (زائدة لا مفصليَّة قابلة للانمغاط والانكماش، توجد عند بعض الحيوانات، تمكنها من القبض على فريستها).‏
  رد مع اقتباس
قديم 06/09/2008   #15
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


ســعادة للبيع

نحو منتصف بعد ظهر كل يوم، كان الموظف العجوز، المتقاعد، المدعو ميلون، يخرج من منزله، بصحبة زوجته أرمينيا، وابنته جيوفانا. كانت زوجته بدينة ومتقدِّمة في السن، وابنته هزيلة البنية وقد أصبحت الآن مسنَّة ومثل المخبولة. كان آل ميلون الثلاثة، الذين يسكنون ساحة "ديللا ليبيرتا"، يصعدون ببطء، على خطا أرمينيا السمينة، يمسحون شارع "كولادي ريانزو"، متأمِّلين واجهات المخازن الواحدة تلو الأخرى. وكانوا يغيِّرون الرصيف في ساحة ريزور جيمنتو" ويعودون، وهم يتابعون تأمَّل المحلات بالعناية ذاتها، نحو ساحة "ديللا ليبيرتا".‏
كان هذا الذهاب والإياب يستغرق قرابة ساعتين، الوقت الكافي للتجلُّد حتى تحين ساعة العشاء. ولم يعد أفراد عائلة ميلون الثلاثة، الفقراء جداً، يدخلون إلى قاعة سينما أو مقهىً منذ زمنٍ طويل. كان التنزُّه هو تسلية حياتهم الوحيدة.‏
وفي يومٍ من الأيام، وبعد أن خرجوا في الساعة المعتادة وصعدوا شارع "كولادي ريانزو" تقريباً حتى ساحة "ريزور جيمنتو"، لفت انتباه أفراد عائلة ميلون الثلاثة مخزن جديد، وكأنه فُتِح بطريقةٍ سحرية، في المكان الذي لم يكن حتى مساء أمس سوى حِباك(1) مغبرّ. وكان صقيل الزجاج يمنعهم عن تمييز البضاعة. فاقتربوا، ثلاثتهم، من المخزن، ودون أن ينبسوا ببنت شفة، شكلوا نصف دائرةٍ على الرصيف وهم يصطفون أمام واجهاته.‏
كانوا يرون الآن البضاعة بوضوح: السعادة. كان أفراد عائلة ميلون الثلاثة، مثل جميع الناس هنا، قد سمعوا دائماً، الحديث عن هذه السلعة، ولم يروها قط. كانوا يتناقشون حولها هنا وهناك، كأنها شيء نادر جداً، فيصفها البعض بالخيالية، مشككين بوجودها الحقيقي تقريباً. وصحيح أن المجلات كانت تنشر من حينٍ لآخر مقالاتٍ طويلة مصوَّرة، يقولون فيها إن السعادة في الولايات المتحدة إن لم تكن عامة، فهي على الأقل سهلة المنال؛ لكن، كما نعلم، أمريكا بلاد بعيدة، والصحفيون يتخيَّلون أشياء كثيرة. وعلى ما يبدو، كانت توجد وفرة من السعادة في الأزمنة الغابرة، لكن ميلون، مثل كل الذين كانوا طاعنين في السن الآن، لا يتذكَّر أبداً أنه رآها.‏
وها هو متجر الآن، وكأن الأمر لم يحصل، وأن الموضوع يتعلَّق بالأحذية أو أدوات المائدة، يقدِّم صراحةً هذه البضاعة، لأي شخص يريد شراءها. وهذا ما يفسِّر دهشة أفراد عائلة ميلون الثلاثة المسمَّرين إلى الأرض، الجامدين أمام هذا المتجر الغريب.‏
ويجب القول إن هذا المتجر كان يُحسِن عرض بضاعته جيداً في واجهاته الكبيرة المؤطَّرة بحجر الترافرتين(2) اللامع، وكانت لافتته من طراز عام 1900، وجميع إكمالاته وزيناته مصنوعة من المعدن المطلي بالنيكل(3) . وفي الداخل أيضاً، كانت طاولاته على الطراز الحديث، وكان بائعان أو ثلاثة من الشبان الحيويين، أنيقي الملبس، يجذبون، بظهورهم فقط، الزبون الأكثر تردداً. وتظهر في الواجهات "السعادات" مثل بيض "عيد الفصح"، وهي معروضة حسب كبرها، وتوافق جميع الميزانيات. فيوجد منها الصغير والوسط والضخم، قد تكون مزيَّفة، وضعت للدعاية. وكان لكل سعادةٍ بطاقتها الصغيرة، مع السعر المدوَّن عليها بالأحرف الطباعية المائلة.‏
وانتهى الأمر بالعجوز ميلون إلى القول بسطوةٍ، معبِّراً عن أفكارهم: -هذا إذاً، لم أكن لأتوقع ذلك أبداً...‏
فسألته الفتاة ببراءة:‏
-ولماذا يا أبي؟‏
رد عليها العجوز بانزعاج قائلاً:‏
-لأنه، ومنذ سنواتٍ عديدة، يُقال لنا بأنه لا توجد سعادة في إيطاليا، وأنها تنقصنا، وأن استيرادها يكلِّف كثيراً... وها هم فجأةً، يفتحون مخزناً لا يبيعون فيه سواها.‏
قالت الفتاة:‏
-قد يكونون اكتشفوا منجماً.‏
فانبرى ميلون يقول مغتاظاً:‏
-ولكن أين، ولكن كيف؟ ألم يقولوا لنا دائماً إن باطن الأرض في إيطاليا لا يحتوي عليها؟... لا نفط، ولا حديد، ولا فحم، ولا سعادة... ثم، هناك أشياء ينتهي بنا الأمر إلى أن نكتشفها... هل تتخيَّلين... عندي شعور بأنني سأرى عناوين كبيرة تقول: بالأمس، كان "فلان" يتنزَّه في جبال "كادور"، واكتشف منجم سعادة من نوعيةٍ ممتازة... هيه، كلا، كلا... إنها بضاعة أجنبية.‏
وتدخَّلت الأم بهدوءٍ قائلة:‏
-حسناً، أين المشكلة؟ هناك، لديهم الكثير من السعادة وهنا، ليس لدينا شيء منها: إنهم يستوردونها... أين الغرابة؟"‏
رفع العجوز كتفيه حانقاً، وقال:‏
"حججٌ غير معقولة... هل تفهمين فقط ما هو معنى استيراد؟‏
هذا معناه صرف نقودٍ ثمينة... نقود بإمكاننا استخدامها لشراء القمح... إن البلد يتضوَّر جوعاً... نحن بحاجة إلى القمح... ومهما قلتِ، فإن الدولارات اليسيرة التي نجمعها بالحرَام، نقوم بإنفاقها على شراء هذه البضاعة، هذه السعادة!‏
ولفتت ابنته انتباهه قائلة:‏
-ولكننا بحاجةٍ أيضاً إلى السعادة.‏
أجابها العجوز:‏
-هذا شيء غير ضروري. قبل كل شيء، يجب التفكير في الغذاء.. أولاً الخبز، وبعد ذلك السعادة... ولكن على أي حال هذا بلد اللا منطق: أولاً السعادة، وبعد ذلك الخبز.‏
فلاحظت زوجته الحليمة:‏
-كم تغضب سريعاً! حسناً، أنت لا تحتاج إلى السعادة.. لكن الجميع ليسوا مثلك.‏
وخاطرت ابنته بالقول:‏
-أنا، مثلاً...‏
فردَّد الأب بنبرة مهدِّدة:‏
-أنتِ، مثلاً...‏
وتابعت الفتاة بيأس:‏
-أنا، مثلاً، سأشتري حقاً، واحدة، واحدة صغيرةً منها، لأعرف فقط كيف هي مصنوعة هذه السعادة.‏
فقال الأب مقاطعاً ومغتمَّاً:‏
-هيا بنا.‏
وتركت المرأتان نفسيهما تُقْتادان بطاعة. لكن العجوز كان الآن منزعجاً. فقال:‏
-لم أكن أتوقَّع ذلك منكِ حقاً، يا جيوفانا.‏
-ولماذا، يا أبي؟‏
-لأنها بضاعة من السوق السوداء، من محدثي النعمة، من أصحاب الملايين... إن موظفاً في "الدولة" لا يستطيع أن يطمح إلى السعادة ويجب ألا يفعل... وعندما تقولين بأنك تودين شراءها، تثبتين على الأقل عدم إدراكك...‏
كيف... نحن نؤجِّر غرفاً في منزلنا، ويصلني راتبي التقاعدي تقريباً في أول الشهر، وأنتِ... آهٍ، إنك تخيِّبين أملي، إنك تخيِّبين أملي.‏
غشت الدموع عينيّ ابنته. فقالت الأم:‏
-هل ترى كيف أنتَ، إنك تمضي وقتك في تأنيبها. ثم إنها لا تملك شيئاً في الحياة، وهي شابة، فأين الغرابة في أن ترغب في تذوُّق السعادة؟‏
-لا شيء... لقد استغنى والدها عنها، فهي أيضاً باستطاعتها الاستغناء عنها.‏
كانوا الآن قد وصلوا إلى ساحة "ريزور جيمنتو".‏
لكن، خلافاً لعادتهم، أراد العجوز، هذه المرَّة، العودة على الرصيف ذاته. وعندما وصلوا أمام المخزن، توقَّف، ونظر طويلاً إلى الواجهة، وقال:‏
-هل تعرفان ماذا أعتقد؟ إنها مزيَّفة.‏
-ماذا تريد أن تقول.؟‏
-حسناً؛ أمس فقط، كنت أقرأ في الجريدة أن سعادة صغيرةً مثل هذه، في أمريكا، أقول جيداً في أمريكا، تكلِّف عدة مئاتٍ من الدولارات... فكيف من الممكن أن يقدِّموها لنا بهذا الثمن؟ إن سعرها مع تكلفة النقل يكلِّف أكثر بكثير... إنها مزيَّفة، إنها منتجات محليَّة... لا يوجد في ذلك أدنى شك.‏
وجازفت الأم بالقول:‏
-لكن الناس يشترونها.‏
-وما الذي لن يشتريه الناس... سوف يكتشفون ذلك بعد أن يعودوا إلى منازلهم، خلال عدة أيام... غشاشون!‏
وتابعوا نزهتهم. لكن جيوفانا كانت تبتلع دموعها، وتفكِّر بأن السعادة، حتى المزيَّفة، ستعجبها.‏


ترجمة : وفاء شوكت

________________________________
(1) حِباك: حظيرة من قصب شدَّ بعضه إلى بعض).‏
(2) ترافرتين حجر جيري من مدينة تيبور بإيطاليا).‏
(3) نيكل معدن أبيض).‏
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 00:18 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.35109 seconds with 14 queries