أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > أدب > القصة و القصة القصيرة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 19/08/2008   #19
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي قصة عضة الكلب


في شتاء عام 1964 نقل طبيب الأسنان الدكتور حسن بهجت من القاهرة إلى وحدة صحية في الريف .. وكان الطبيب الشاب على عكس الأطباء الذين هم في سنه .. والذين ينقلون من المدينة إلى الريف دون رغبة .. ودون تمهيد .. فيشعرون بالمرارة والضيق النفسي والقلق .. كان على عكسهم تماما .. فقد شعر بالبهجة .. والتفتح النفسي والتطلع الواسع .. وكان في أعماقه يتوق إلى هذه التجربة الحية .. إلى العيش في قلب الريف .. مادام قد عاش إلى هذه اللحظة مدنيا صرفا .. ليخرج بشيء لا يجد مثله في الكتب .
ولما كان غير متزوج فقد أقام في السكن المخصص له بالوحدة .. وكانت القرية التي تقع فيها الوحدة من القرى الكبيرة والمواصلات إليها سهلة .. فهي قريبة من محطة السكك الحديدية .. ومن الطريق العام لسيارات الأجرة .. وأهلها وادعون مسالمون يشتغلون بالزراعة وتجارة المواشي .. وفيها سوق كبير يتجمع فيه أهل القرى المجاورة في يوم الاثنين من كل أسبوع .. ويتبادلون السلع بكل ألوانها وأشكالها ..
***
ولاحظ الطبيب الشاب شيئا في المرضى الذين يترددون على الوحدة .. شيئا لم يلتفت إليه أولا .. ثم شد انتباهه بعد أن برز بوضوح كطلعة الشمس .. لاحظ ندبة في الصدغ الأيمن من كل رجل يدخل الوحدة .. ورأى أن الندبة برزت وأصبحت كالدمل المقروح في وجوه الرجال فقط .. ولم يرها في وجوه النساء والأطفال ..
وأدركه العجب وخرج يمشى على جسر القرية وبين دروبها ليتأكد مما شاهد فوجد الندبة ظاهرة في وجوه الرجال .. وبارزة بوضوح .. واضطر بعد هذا التعميم أن يسأل أحد مرضاه عن سببها فعرف أنها عضة كلب .
ودخل شيخ البلد العيادة فرآه الطبيب وفى صدغه العضة .. فسأله في استغراب :
ـ حتى أنت يا شيخ على ..؟
ـ حتى أنا يا دكتور .. لم يترك الكلب رجلا في القرية إلا عضه .
ـ الرجال فقط ..؟
ـ أجل .. وبفراسة شديدة .. اختار الرجال لفعلته وترك النساء والأطفال .. لم يقترب من أحد من هؤلاء .
ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ منذ أكثر من سنتين .. وبنظام وترتيب .. بدأ بالذين فى البيوت والدروب ثم خرج إلى الغيطان .. وكان يثب كالليث .. ويتخطى الحواجز .. ولم يعض إنسانا مرتين أبدا .. فعلها مرة واحدة .
ـ وقتلتموه ..؟
ـ أبدا .. لقد كان في ضراوة الأسد وشدة بأسه .. فمن الذي يجرؤ على الاقتراب منه .. إنه هو الذي كان يستطيع قتلنا .. ولكنه اكتفى منا بترك هذه العلامة .
ـ وهل لا يزال في القرية ..؟
ـ أبدا .. خرج في ليل ولم نعد نراه ..
وشغلت هذه الظاهرة العجيبة بال الطبيب .. واستغرقت كل تفكيره .. وكلما مشى على الجسر وشاهد الفلاحين العائدين بدوابهم من الغيطان .. والسائرين فى الدروب وعلى وجوههم نفس الندبة في الصدغ الأيمن يتعجب ويتساءل .. قد يكون كلبا مسعورا ككل الكلاب المسعورة .. انتابته حالة سعار من مرضه .. ولكن لماذا التعميم والتخصص ..؟ أهو شيطان في جسم كلب ..؟
وأخذ الطبيب يسأل الموظفين في الوحدة وزملاءه الذين جاءوا إلى القرية في زمن قبله .
فعلم أنهم هبطوا القرية ووجدوا أهلها على هذه الصورة .. ولم يشغلهم الأمر أو يستلفت نظرهم لأنهم ظنوها خلقة طبيعية .. ومنهم من سمع أنها عضة كلب .. ومرت الأيام وألف من في الوحدة هذه الوجوه على حالها .

***
ولكن الدكتور بهجت .. ظل في حيرة من أمر هذه الظاهرة .. وتعجب كيف تكون عند الكلب هذه القدرة على ترك هذه العلامة في رجال القرية جميعا أمام سطوته ..؟ وهم يعرفون أنه يطاردهم في كل مكان .. قد تكون عضة واحدة في صدغ رجل واحد وانتقلت بالتصور إلى جميع الوجوه .

***
وأخيرا قرر الطبيب أن يصلى الجمعة في مسجد القرية الذي يجمع صورا مختلفة من أهلها .. الشيوخ والشبان .. ليتأكد من هذه العلامة الغريبة .. ولما دخل المسجد رأى الندبة برسمها وحجمها على وجوه المصلين جميعا .
وخرج المصلون من الجامع .. واختار الطبيب أكبر المصلين سنا .. وكان شيخا وقورا .. مال به الطبيب إلى جلسـة تحـت المحـراب وسأله وهو يشير إلى صدغه :
ـ وهـل هذه الندبة عضة كلب أيضا .. يا شيخنا الكبير ..؟
ـ أجل .. يا دكتور ..
ـ إنه شيطان إذن مادام يعض الصالحين المتوضئين من أمثالك ..
ـ إنه ليس بشيطان .. إنه نذير ..
ـ وهل إذا رأيت الكلب تعرفه ..؟
ـ بالطبع أعرفه .. وكل القرية تعرفه .. لقد كان من كلاب القرية .. وأخذه عبد الجابر السحلاوى وأصبح من زمرة كلابه .. إلى أن حدث ما حدث واختفى الكلب بعدها ..
ـ وما السبب الذي أهاج الكلب .. لقد سألت الكثيرين فلم أعرف السبب الحقيقي .. الأقوال متضاربة ..
ـ الناس يشعرون بالخجل يا دكتور .. من تصرفاتهم .. عقدة الذنب .. استقرت في أعماقهم .. فمنعتهم من الكلام .. لأن في التصريح بالكلام ورواية الحقيقة عارا .. وعارا أبديا .. على أهل الريف .. أهل الريف الذين عاشوا طول عمرهم يتعاونون في السراء والضراء .. ويغيثون الجار ويدافعون عن المظلوم .. ولكنهم تغيروا الآن يا دكتور .. وانقلب حالهم .. وتسلطت عليهم الأنانية في بشاعة .. حتى لا تجد فيهم من مروءة الرجال من يذوذ عن امرأة مسكينة .. لقد اقتص الكلب من أنانيتهم وانشغال كل منهم بحاله .. غافلا عن حالة أخيه .. مادام لا يصيبه من أمرها مكروه .. فكر فيالسلامة لنفسه .. ولم يفكر في سلامة الآخرين الذين يعيشون بجواره وفى حضن قريته وزمامها ..
لقد كان عبد الحافظ مدرسا في المدرسة الإعدادية بالقرية .. وغريبا عن أهل القرية .. جاء ليهديهم ويعلم أبناءهم .. ولكنهم خذلوه في خسة وضعف .. أشفق المسكين على حالهم عندما رأى السحلاوى يستولى على ريع السوق ويتاجر في سماد الجمعية المخصص لهم .. ويسرق قوتهم وقوت عيالهم .. ويسيطر على كل شيء بنفعية وتسلط .. فحرك الفلاحين ليقفوا فى وجهه .. ويطالبوا بحقهم .. ولكنهم تخاذلوا في ضعف مشين ..
وطلب منهم أن يشتكوه لمن يرد لهم حقهم المسلوب .. ولكنهم كانوا يعرفون بالخبرة أن الشكوى لا تنفع وسترتد إلى صدورهم .. فسكتوا .
ولم يرض عبد الحافظ بهذا وكتب هو الشكاوى بلسانهم .. ولكن الشكاوى كانت تموت لسطوة السحلاوى وكثرة معارفه من ذوى النفوذ ..
وعلم .. السحلاوى .. أن كاتب هذه الشكاوى هو عبد الحافظ .. وفكر في الانتقام منه سريعا ..
وكان عبد الحافظ لأنه أعزب .. وليس من أهل القرية قد اختار مضيفة الحاج حسانين القريبة من المدرسة كمنزل إقامة ..
وكانت المضيفة قريبة من حوش البهائم الخاصة بالسحلاوى ومن منزله .. وعند السحلاوى كلاب شرسة مدربة على الحراسة ونهش من يقترب من البهائم .. وكل من سار في الليل واقترب من حوش السحلاوى ومنزله يخافها لشراستها .. وكان السحلاوى لا يريد اغتيال المدرس الغريب مواجهة وإنما فكر في تعذيبه وإذلاله .
وفى ليلة من ليالي الصيف أطلق عليه وهو نائم كلبا من كلابه الشرسة .. وشاءت إرادة الله أن يعرف الكلب عبد الحافظ ويحفظ له صنيعه عنده .. فقد أطعمه عبد الحافظ ذات ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرودة .. وأواه في المضيفة .. وكان الكلب وقتها طريدا شريدا .
وعرفه الكلب .. فنام بجواره يحرسه بدلا من أن ينهش لحمه .. وجن جنون السحلاوى عندما رأى عبد الحافظ لم يمس بسوء .. وما كان يفعله مستخفيا .. أخذ يفعله علانية وهو فى حالة هياج .. فأخذ يضرب الكلب .. ويطلقه على المدرس .. ولكن الكلب لم يستجب له إطلاقا .. فرأى أن يضع مع الكلب كلبا آخر ليحرضه على افتراس المدرس المسكين الذي أخذ يستغيث بأهل القرية فلم يغثه أحد .. كانوا مشغولين بحالهم .. ويخافون من بطش السحلاوى فتخاذلوا عن غوث الغريب .
وأخذ السحلاوى بعين الوحش يرقب ما يجرى أمامه ولكن .. خاب فأله .. فقد افترس الكلب الأول الكلب الثاني وألقاه جثة هامدة .
ولمح السحلاوى عين الشر في عين الكلب الأول فلم يقترب منه وإنما قرر أن يقتله بمسدسه .
وفى اللحظة التي فكر فيها أن يفعل هذا كان الكلب الأول قد وثب عليه وألقاه على الأرض .. بعد أن عضه في صدغه تلك العضة .. ووضع فى وجهه تلك العلامة المميزة ..
وارتعب السحلاوى وغشى عليه .. ولما أفاق كان الكلب قد خرج من القرية ..
ولكنه عاد إليها وأخذ يعض الرجال من أهلها بالصورة التي رأيتها في وجوههم .
وبعد هذه الحادثة لفق السحلاوى تهمة للمدرس المسكين ونقله من القرية ..
وسافر السحلاوى ليعالج نفسه من عضة الكلب وطال غيابه ..
وصمت الشيخ قليلا ليرى أثر حديثه في وجه الطبيب الشاب ثم قال :
ـ هذه هي قصة العضة التي تراها في وجوهنا يا دكتور بهجت وأرجو أن تساعدنا أنت وزميلك الجراح على إزالتها ..!
ـ مع الأسف يا حاج .. لا أستطيع ذلك .. لا أنا .. ولا زميلي الجراح ..
ـ كيف .. يا دكتور .. كيف ..؟
ـ لأنها من عملكم وخصائص نفوسكم .. ومتى تغيرتم ستزول ..
ـ بغير جراحة ..؟!
ـ بغير جراحة ..
وشكر الدكتور بهجت الشيخ الكبير على حديثه .. وأخذ طريقه إلى الوحدة ، وهو يفكر فى طريقة عملية ليخرج الخوف من نفوس هؤلاء المساكين الذين أصابهم الكلب بهذه الوصمة .. وتمنى أن يرى السحلاوى والكلب والمدرس وبعد هؤلاء الثلاثة سيعالج الخوف بطريقته .

***
ومع دوامة الحياة تصور عبد الحافظ أنه نسى ما حدث له .. ولكن تصوره كان خاطئا .. فقد كان الجرح عميقا وضاربا في أعماق النفس .
وذهب يسأل عن السحلاوى فعلم أنه مات .. ومات مع قوته الانتقام .. ونسى عبد الحافظ ما حل ولكنه فوجئ بعد ذلك بمن يخبره أن السحلاوى حى وفى بلده .. فأشعلت في نفسه جذوة الانتقام التي حسبها تحولت إلى رماد .. وقرر أن يغتاله في نفس المكان الذي عذبه وأذله فيه .. نفس المضيفة .
وركب القطار إلى القرية بعد أن تسلح .. ووصل إلى بساتينها ساعة العصر .. ورأى أن يظل في البستان إلى الساعة التي يختارها في الليل للتحرك .
وبعد وصوله بأقل من ساعة شاهد جنازة طويلة تتجه إلى المقابر القريبة من البساتين ..
فسأل عنها .. وعلم أنها جنازة السحلاوى .
وتعجب وقال لنفسه :
ـ مات السحلاوى في اليوم الذي قصدته فيه .. ما أعجب الدنيا بتصاريفها ..
وتعجب أكثر من طول الجنازة وعرضها .. فقد خرج وراءه رجال القرية جميعا .
وردد لنفسه :
ـ إنهم يخافونه ميتا .. أكثر مما يخافونه حيا ..

***
ودخل عبد الحافظ في خط الجنازة مع الرجال .. وتلفتوا بأصداغهم التي عضها الكلب .. وتهامسوا ..
ـ جاء المدرس .. يشترك في الجنازة .. ونسى ما فعله فيه ..
ـ إنه نبيل .
وفجأة اضطربت الصفوف المتراصة الواجمة .. ورفعت رؤوسها المنكسة .. وصاح الرجال :
ـ الكلب .. الكلب ..
وأصابهم الذعر .. ووضعوا النعش على الأرض .. وانطلقوا يمينا وشمالا في الغيطان يسابقون الريح ..
ونظر عبد الحافظ فوجد الكلب واقفا على القنطرة التي سيعبر منها الرجال إلى المدافن .. إنه نفس الكلب ولكنه تضخم أكثر وغدا أشبه بالأسد في ضراوته ..
تقدم عبد الحافظ نحوه بثبات وناداه :
ـ تعال .. يا مبروك .. تعال إلى صاحبك ..
واتجه الكلب إليه بعد أن عرفه .. وهو يحرك ذنبه فرحا بلقاء صاحب قديم ..
ووضع عبد الحافظ يده على رأس الكلب ومسح على ظهره بنعومة .. وطوقه بذراعيه .. ثم أشار إليه بأن يبتعد ..
فانسحب الكلب وهو يشيع صاحبه بنظرة لم تصدر مثلها من إنسان ..
وانحنى عبد الحافظ على النعش ليحمله .. وشجعت هذه الحركة الرجال .. فعادوا إلى الجنازة من جديد ..
عادوا وهم يشعرون أن حركة الكلب قد فعلت شيئا فيهم لم يدركوه بعد .. وهم يتحركون في صمت .. والمدرس الغريب بينهم وفى رأس الصفوف ..

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #20
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي قصة الصياد


أبحر الزورق في الخليج .. ومنذ اندلعت نيران الحرب وشعبان لا يبـعد في الليـل. كان يصطاد قريبـا من الساحل متحاشيا الموج ما أمكن، وكانت الظلمة شـديدة ولكن الريح كانت رخـاء.. فأرسل الزورق على سننه .

وأخذ يرمى الشبكة وهو جالس في المؤخـرة .. وكان يمنى النفس بصيد كثير قبل أن ينتصف الليل. فلم يكن منذ نشب القتـال يتأخر عن زوجته وأبنائه الصـغار. كانت صورهم لا تبعد عن ذهنه أبدا وهو في قلب البحر.. أنهم امتداد له وحياة ..

خلف مدينة السويس وراءه غارقة في الظلام ولا يبدو من بيوتها البيضاء ومآذنها وأعمدة مصابيحها.. إلا ظلال في العتمة الشاحبة.
وبدا شاطئا القناة من بعيد في سواد الأبنوس .. وغابت الأشجار التي على الشط الغربي من بور توفيق في الظلمة وانطمست معالمها ..
وأخذ شعبان يحرك الزورق بلين .. ولجة الماء دكناء ساكنة وغيـاهب الليـل تتساقط في كل ساعة تنقضي وتصبح كريش الغراب.
وفجأة أحس أن الشبكة أمسكت بشيء .. فقد اهتزت في يده بعنف .. وخشي أن يمزق الصيد الشبكة لضـخامته وقوته.. فأرخى الحبـل حيث جرته السمكة واتجه إلى الشرق .. تسـحب في لين وراء السمكة الكبيرة .. التي أحس بها تنتفض في عنـف وخشي أن تكون من صنف القرش فيذهب كل تعبه هباء وتصبح الليلة لا نفع منها ولا جدوى فيها.. تصبح ليلة من ليالي النحس .

واشتد الجذب فأرخى الحبل .. أرخى وهو يحس يرجفان قلبه وظـل يطامن حتى وجـد نفسه يقترب من شط القناة الشرقي ويسير بحذائه في هوادة ولين ، حابسا ما أمكن صوت المجاديف .

كان يعرف أن المعركة في هذا الساحل وأن القتال يدور على أشده هناك .. وأخـذ يسمع بوضوح صوت القنـابل التي تلقيها الطائرات وصوت المدافع .
كان شعبان يعيش في قلب المعركة بكل حسه ووجدانه . لم تكن بعيدة عنه أبدا فقد بدأت يوم الاثنين.. واليوم هو الأربعاء ثالث أيام المعركة ، والقتال يدور في عنف وكان يتبعها بحواسه وإذا سمع نبأ سيئا ثار وعض على نواجذه ولم تمنعه الحرب عن السعي وراء معاشه ولكنه كان يخرج في الليل مسلحا ببندقية سريعة الطلقات يتقى بها الشر أينما كان ..

وفى اللحظة التي أحس فيها بغريزته كصياد أن الشبكة صادت شيئا ضخما لم يحدث له في حياته.. انتابته نشوة عارمة .. وكان لا يود أن يفلت منه هذا الصيد أبدا.. فلما جذبته شرقا طاوعها واتجه بالزورق إلى الشاطئ الشرقي .. كان لا يريد أن يضيع منه الصيد بعد هذه المشقة.

وأخذ يسحب الشبكة بيد الصياد الماهر .. وقد خيم السكون فجأة وخيل إليه أن الحرب قد توقفت.
خيم سكون ذهل له.. وخيل إليه في قلب الظلام أن المدينة ستتلألأ في هذه الليلة كما كانت قبل الأيام الثلاثة .. ستتلألأ كما كانت من قبل وتزهو وترقص قناديلها كلما مايلتها الريح ..

***

وعندما اقتربت الشبكة من القارب ورأى بعينيه السمكة الكبيرة التي اصطادها شعر بفرحة .. إنها ليلة من ليالي الخير .

وأخذ وهو نشوان يخـرج السمكة من الشبكة ويضـعها في بطن القارب.. إنها ضخمة بشكل مهول، ومن أكبر الأسماك التي اصطادها في حياته كصياد.

***

وفجأة سمع أزيزا عنيفا وحلقت طائرة فوق رأسه .. فاضطرب أولا ولكنه تماسك وحدق في الظلام فبصر بأجسام طويلة تسقط من الطائرة في مجرى القناة.

ودوت المدافع المضادة وتكهرب الجو . واستمر القصف مدة .. ثم سكن ..
وظل الصياد يتحرك في المياه الهادئة وهو قريب من الساحل، وسمع فجأة اشتباكا على الأرض قريبا منه وطلقات رصاص.
فلما اقترب بالقارب من الموقع والظلام يخيم على البحر واليـابسة.. بصر بجندي مصري من جنود السواحل مشتبك مع دورية إسرائيلية في قتال رهيب. ومع أنهم أكثر منه عددا ولكنه ظل صامدا وقتل منهم واحدا وجرح آخر .. وكان منبطحا وراء كثيب من الرمل .. والرصاص يتطاير حوله .
ودفع الصياد الزورق إلى الشاطئ ونزل منه سريعا واقترب من الموقع زاحفا ببندقيته حتى كمن بجانب الجندي المصري وأخذ يشد أزره على القتال والصمود وكان الجندي قد جرح جرحا بليغا في هذه اللحظة ولكنه ظل مع ذلك يطلق النار ثم سكتت بندقيته .
وظل الصياد يقاتل وحده حتى سكتت كل بنادق العدو . وخيم السكون وظل فى مكمنه قابعا بجوار رفيقه مدة ثم رأى أن يغير المكان .. فنهض وتلفت حواليه ليتخير الموقع الذي سينتقل إليه . وهنا سمع انفجارا رهيبا في البحر وطار زورقه وتمزقت شباكه ولم يحزن كثيرا .
وتقدم حتى اقترب من جندي السواحل الجريح .. كان لا يزال ينـزف دمه .. وغسل جراحه وحمله على ظهره وسار به في الليل محاذرا متوقعـا في كل خطوة أن يقـع في أيدي الأعـداء الذين انتشروا في الصحراء ، وكان الرصاص يتطاير حواليه وخلفه .
سكن الليل بعد القذف واللهب المنبعث من الأرض والسماء .. سكن الليل .. سكون الموت .. وكلما سار الصياد بالجندي خطوات طلب منه هذا أن يضعه على الأرض ويمضى لسبيله وإلا سيقع الاثنان في أيدي الأعداء.. ولكن الصياد كان يرفض بإصرار ويتصبب عرقا . وهو يسير باذلا من الجهد فوق كل طاقات البشر.
كان ينظر إلى الشاطئ الغربي والليل قارب على منتصفه والظلام يخيم ولا مغيث..
قد تمر عليهما دوريات الأعداء وتمزقهما بالرصاص ..
وظل يسير وهو يحمل الجريح والريح تصفر في الصحراء ..
كان شعبان يحس بثقل الجسم على عاتقه وبتعبه الشديد وانقطاع أنفاسه ولكنه كان لا يريد أن يضع الجريح على الأرض أو أن يستريح خشـــية أن يعـطل ذلك إسـعافه وإنقــاذ حياته.. ولأول مرة يعرف قيمة النفس البشرية والحرص على بقائها وبذل كل سبيل لإحيائها.
لكم خرج في الليل يصطاد الحيتان، ولكم قاسى في الليالي الحالكة، ولكم خاطر بحياته ليأتي بطعام أولاده.. ولكم شعر بالفرحة بعد الجهد والعرق ..
ولكنه لم يحس بمثل السعادة التي يحس بها الآن.. وهو يحمل جنديا جريحا .. قاتل ببسالة ..
ولم يكن وهو يحمله يفكر في تعبه قدر تفكيره في إنقاذ روحه.
ولأول مرة في حياته يحس بأنه وحدة واحدة في عالم كبير .. وأنه جزء من كل.. وأن التعاون عضد الحياة..

***

وطال السير في الليل والظلام .. وبلغ المرحلة التي أحس بعدها الصياد بأنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى.. وأنه آن له أن يلقى بالحمل على الرمال..

ويتخفف هو من ملابسه .. وقد يجد شيئا يستعين به على أن يعبر القناة إلى بور توفيق، أما أن يربط حياته بهذا المخلوق الميت.. فذلك فناء وسيموتان معا .. أي سلسلة ربطتـه به، لابد من فكها.
وتمهل جدا .. وفى ظل كومة من الرمال وسد الجريح بعناية كما يوسد الموتى تماما ، وجعل وجهه للقبلة وقرأ الفاتحة في صوت خافت .. ثم القي عليه نظرة أخيرة وانطلق في الرمال .
وكان الظلام يلف كل شيء في شملته.. والريح تسفي الرمال ومياه قناة السويس ساكنة على شماله .. وغياهب الظلام تزداد كثافة .
وسمع طلقات النار مرة أخرى
ولكنه كان مطمئنا بأنه سينجو وسيعود إلى بيته كما خرج منه.. ولكن كيف يعود .. ويترك رجلا من وطنه ينزف دما .. ولا تزال فيه الروح .. كيف يتركه هناك وحده .. أحس بأن قدميه تغو صان في الرمال ومسح عرقه..
ورجع إلى الجريح فحمله مرة أخرى وسار به قرب الشاطئ .


***
وفى وضح الفجر.. رآه صياد آخر عن بعد ولوح له شعبان بيده فحول الصياد الزورق إليهما والتقطهما.. وظل شعبان يحكى ما جرى له للصياد الآخر ويحكى .
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #21
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي طلقة فى الظلام


كانوا ثمانية خرجوا في الظلام من مدينة العريش والعدو على مبعدة ثلاثة كيلو مترات منها .. وهدير القصف يسمع في كل مكان .. وعندما تجاوزوا حدود المدينة وجدوا خلقا كثيرا يتحرك مثلهم إلى الغرب ..
واكتسحت الجموع الطريق الضيق، كانوا يسيرون في مشقة، وقد اختلط الحابل بالنابل، والرجال بالنساء، والأطفال بالشيوخ، والعذاب يلفهم في كل خطوة.
كانت الحرب تتحرك بسرعة رهيبة . والحياة نفسها تتحرك في قلوب هؤلاء المشردين بسرعة ولهفة.
وكانت السيارات قد اختفت عن المنطقة كلها، أخذها من سبقهم إلى الفرار.

والطريق المألوفة قـد خربت بالقنابل لتعوق المدرعات من الانسحاب، فاضطر الأهالي إلى الاتجاه إلى البحر، والتفرق في صحراء سيناء، وساروا على وجوههم.. وكانت الأرض والسماء ملفوفتين بالدخان والنار.. والطيور تطير مذعورة وريح الصيف تزفر نارا وبخارا ..
وكان القلق يعصف برؤوسهم ..
وظلوا يسيرون طوال الليل ، والقنابل تتناثر حولهم ، ودوامات الرمال تثور فى وجوههم والفراغ الرهيب الذي يحدث من الانفجار يعريهم من ثيابهم ، ويطير متاعهم من أيديهم ..


***

ورغم تفكك الجموع. ظل الثمانية كما هم.. وكانوا جميعا من الموظفين المصريين الذين يعمـلون في العريش ومن بينهم سيدتان .

ورغم تزايد عدد الرجال على النساء في هذه الرحلة الرهيبة فقد استراحت المرأتان إلى الصحبة.
ولم تكن بين هذه الجماعة أية علاقة عمل أو جوار .. ولكنهم اجتمعوا على الطريق لغرض واحد..
وساروا أولا حـذاء البحر، والنخيل الكثيف النابت في الماء على يمينهم يتمايل ويلطف الجو كله. فلما جاءتهم أنباء بنـزول الأعــداء من ناحـية البـحـر، غيروا اتجاههم ودخلـوا في الصـحراء.
وبعد نهار خانق وشمس حامية، ورمال حارقة. عثروا في الليل على سيارة قديمة ، وقبل سائقها بعد مساومة طويلة ، وبعد الضراعة ، وكل ضروب التوسل .. قبل أن يحملهم إلى القنطرة شرق وهم وحظهم في العبور.. !
وتقاضى منهم الأجر مقدما قبل أن يضعوا أقدامهم في العربة.. تقاضى منهم أجرا باهظا كأنه سينقلهم إلى أوربا .. ودفعوا صاغرين ولم يتعجبوا إنها دقات الحرب ونوازعها الشريرة في النفوس الوضيعة.

وقال السائق القصير العنق ، النمش الوجه ، الأحمر الشعر ، بعد أن تحرك بالسيارة في طريق ملتوي يعرفه أمثاله :
ـ سنتعرض في الطريق للتفتيش .. فقد نزلوا بالمظلات وهم الآن أمامنا.
ونظر للسيدتين بخبث فالتهب وجهاهما .
ثم أضاف :
ـ وأرجو ألا يكون معكم سلاح .. وإلا تعرضنا للمهالك ..
فلم يرد عليه أحد .. كان الانكسار قد سحق مشاعرهم ، وجمـد إحساسهم ، فلم يعودوا يعبأون بأي شيء يقع لهم .
وكانوا قد خرجوا من بيوتهم دون أن يتزودوا بزاد الطريق، حمـلوا نقودهم فقـط، وتركوا كل شيء آخر، ومنهم من نسى حتى ذلك..
ولم يجدوا على الطريق من يبيع لهم الماء.. وشكروا الله لأنه ليس معهم أطفال.
وبعـد سـير بطيء أسرع منه المشي على القدم.. وفى جو الحرب والقصف .. فاجأتهم غارة مروعة فخرجوا جميعا من السيارة ، وطاروا على وجوههم يدفنون أجسامهم في التلال الرملية المحيطة بهم

***

ولمــا فتــح إسـماعيل عينيـه وأفـاق من غشيته ، وجــد أمينة وحدها هي الباقية من الثمانية ، ولم يعرف أين ذهب الباقون ، غيبتهم الصحراء في جوفها ، أم مزقنهم القنابل.
وشكرت أمينة ربها لأنها وجدت رجلا بجانبها في الليل والحرب .. وكانت قد استراحت إلى إسماعيل منذ ركبت معه السيارة، استراحت إلى أعصابه الهادئة وجلده.. واشتمت في ملامحه وطباعه النبالة .. ولم تكن فراستها تخيب أبدا في نظرتها إلى الرجال ..
فمنذ بدأت تعمل وتخرج إلى الحياة ، وتنتقل من بلد إلى بلد ، وهى تحمل بين جنبيها ذخيرة تجارب صادقة ..
ولم تكن وهى الأنثى الشابة الجميلة إلى حد الفتنة .. ترفض البعد عن الأهل في سبيل العمل والحصول على رزق أوسع .. وكانت بعد العريش تتطلع إلى العمل في الكويت .. وليبيا.. والسعودية لتجمع لأسرتها من المال ما يبنى لهم بيتا.. فيلا جميلة بدلا من السكن بالإيجار..
ولكن أحلامها أوقفتها الحرب عند وجه إسماعيل .
وتطلع إليها في غبش الظلمة والصحراء في لون الرماد ، والطلقات تصفر .. وقال بتؤدة وهو يتألم لما لاقته في سفرها من عذاب :
ـ يجب أن نخرج من هذا المكان.. ونسرع ما أمكن .. وكنت أود أن يعطيني الله القوة لحملك. وما أحسبك ثقيلة الوزن .
فقالت ورغم الضنى ابتسمت :
ـ في حدود ستين كيلو ..
ـ ليس هذا بالصعب .. إنه وزن استطيع حمـله والسير به عشر خطوات .!
ونظر إلى عينيها على اتساعهما ، تلمعان في الظلمة .. وقد هزتها كلماته المداعبة في هذا الجو .
وقال وهو يجلس على الأرض :
ـ يجب أن نتخفف من حملنا لأن المشوار طويل.. وسأبدأ بنفسي .
وفتح حقيبته وأخرج حاجات قليلة وضعها في جيبه .. وألقى بالحقيبة وما بقى فيها في الرمال وهو يقول:
ـ إنها مطمع للأعراب .. ولا خير فيها .

وقالت بعد أن شاهدته يضع مسدسا في جيبه .
ـ أكنت تحمل المسدس.. بعد أن حذرك السائق من التفتيش..؟
ـ المسدس حملته من أجلك .. ومن كان يضع يده عليك سأرديه قبل أن يتحرك له أصبع ..
فانشرحت لقوله وقالت في رقة :
ـ ولكنك ستموت بعدها..
ـ وما قيمة الموت للمرء . بعـد أن يشعر بأنه أدى واجبه كرجل ..
وقال وهو يشير إلى حقيبتها :
ـ والآن جاء دورك ..!
فقالت وهى تفتح الحقيبة ..
ـ انظر ليس بداخلها سوى أشياء قليلة . ماتتزين به النساء .. ونقودي وجواهري، أما ملابسي كلها فقد تركتها في البيت .. وليس معي سوى فستاني الذي أرتديه ..
وتأمل فستانها الوردي، الذي كان لا يزال منسجما على جسمها، رغم رحلة العذاب وكانت رشاقتها تنبع من حيوية جسمها فبعد التمرغ في الرمل يبدو كل شيء بعد لحظات بكل جماله الطبيعي.. العينان والشفتان.. كلها تفيض بالحرارة والفتنة ..
وكانت قد غطت شعرها الأسود المتموج بإيشـارب وخلعـت ساعتها الذهبية .. كما خلعت حذاءها.. وأبقت سلسـلة ذهبية في عنقها لأن في نهايتها المصحف ..
وأعطاها جوربه وهو يقول :
- البسي هذا... وسنسير في الليل.. وفى بكائر الصباح .. أما في وهج الشمس فسنتوقف عن السير .. ونحتمي في أي مكان نراه صالحا.
ووضعت يدها في داخـل حقيبتها ، وأخرجـت منها حزمـة من الأوراق المالية وقالت له :
ـ ضع هذه النقود في جيبك ..
ـ خليها في مكانها وسأحمل عنك الحقيبة بما فيها .. ولكن ما هذا المبلغ كله ؟
ـ كنت ذاهبة إلى غزة لأشترى ثلاجة وتليفزيون، وأدوات مائدة لأختي، والحمد لله لو ذهبت ما استطعت العودة..
ـ خذي هذا المبلغ احتياطيا للظروف .. فربما طوقونا .. وفصلوا بيننا ..
ـ معي ثلاثين جنيها..
ـ أين .. ؟ !
واستغرب فلم يكن لثوبها جيوب .. وأشارت إلى صدرها فى خجل .
ـ يا لبراعة النساء..
وابتسم والليل تبدو غياهبه في كل موضع .. وبقيت النجوم وحدها تتلألأ في السماء بين الدخان ولهب الحرب ..
وحمل لها الحقيبة وسارا .. وعجب ـ وهو يسير إلى جانبها في الليل والحرب ـ لما أحس به.. فقد شعر بقـوة لم يشعر بمثلها في جسمه .. وكانت الريح الخفيفة تحرك الرمال . ولكن سماء شهر يونيه بدت صافية .. كلما خف الدخان ووهج النيران..

وشعرا معا بوجود جسم رمادي يتحرك عن يمينهما على مبعدة مائة خطوة لا أكثر، ثم تبينا أنها سيارة عسكرية للعدو.. وكانت تسير ببطء شديد فى طريق متعرج .. وتتـوقف لتسير.. ولعلـها ترسـل الإشارات .. وأحس إسماعيل بالخطر. فأمسك بيد أمينة وجذبها إلى الأرض .. فانبطحت بجانبه في رملها وترابها .. وهمس في أذنها .. فكتمت أنفاسها والتصقت بالرمل أكثر وأكثر .. وتخشبا تماما .. ووضع يده على مسدسه .. ثم تركه بعد أن تبين أنها مخاطرة.. فيها من الطيش أكثر مما فيـها من التعقـل .. ومـا ذنب أميـنة فهي إن نجـت من القتـل لن تنجـو من العـار..
وأمسك بيدها وضغط وأحس بالحرارة والعرق والتراب والرمل .. أنه ترابه ورمله . ولن يخوناه أبدا .. وراقب السيارة بعين الصقر حتى ابتلعتها الصحراء في جوفها ..
وأنهضها واستأنفا السير ..
ولم يكن يدرى أهي خائفة..؟ كما تخاف النساء من الليل والحرب أم لا . ولكنه كان مستيقنا من أنها شجاعة.. وأنها سريعة الخاطر ومتحركة.. وتبين له هذا من كل الأشياء التي اعترضتهما في الطريق .
ولم يكن يسير في طريق يعرفه ولكنه كان بحسه يتجه إلى القنال بعيدا عن طريق الحرب.. وعن جوف الصحراء حتى لا يظل في التيه..
سار على هدى بصيرته مستضيئا بالنجوم .. وسارت بجانبه مطمئنة راضية .. ونسى تعبه وجوعه ، ونسى قدميه وقد أخذتا في التورم .. ولم يكن يدرى الذي جرى لقدميها ولكن كانت تتحمل العذاب في صمت ..
وأحس بأن له هدفا وسط هذه المعمعة، التي لم يشترك فيها بسلاح.. وهو أن يهون عليها السير، ويحميها من شر الليل، وشر الإنسان
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #22
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وقبل الفجر بساعتين استراحا بجانب تل .. بعيدا عن كل قدم يمكن أن تتحرك.. ووضع لها الحقيبة تحت رأسـها الذي عصبـته بإيشـارب وتمددت على الرمال وهو قريب منها.
ولما شعر بأنها نامت، وأحس ببرد الليل، خلع سترته وغطاها في رفق حتى لا توقظها حركته.
ولكنها كانت متيقظة، وشاعرة براحة النفس واطمئنانها، لأنها لا تزال حية وفى رفقة رجل أدركت بغريزتها كل ما في طباعه من نبل وشهامة.. وان لم يحدثها أحد عن ذلك.. وكانت تلاحظه بعينيها وهو على مبعدة خطوتين منها . وتخاف عليه من حشرات الصحراء في الليل ..
نسيت أنها في حرب .. وما يأتي ساقطا من السماء هو شر من كل حشرات الأرض. ولاحظت أنه لم يدخن حتى في النهار وضوء السيجارة لا يضير في هذه الساعة ولا يكون دليلا للأعداء.. حرم نفسه من هذه المتعة لأجلها حتى لا يضايقها برائحة الدخان.. ويثير أعصابها وهى جائعة تعبة ..
كان قميصه قد اتسخ ، وتهدلت بدلته وعلق بها العرق والغبار .. وطال شعر ذقنه وبدا خشنا وعلا الشحوب وجهه . واتسعت عيناه من الإرهاق والجوع ..
كانت الصورة في مجموعها تثير الشجن ولكنها شاقتها .. كانا في حالة عذاب مشتركة وقد سرح بها خيالها حتى جعلها تتصور. أنه سار في هذا الطريق الشاق من أجل أن يحميها.. ولو كان وحده لسهل عليه الأمر.. ونجا .
وفتح عينيه وهى تمشط شعرها ، ورأى حبات الرمال في لون الزمرد عالقة بثوبها .. كأنها تطريز جديد عمل فيه بدقة .. فعجب للطبيعة التي تزيد من جمالها في كل ما تفعله بها
وقالت بعذوبة ..
ـ ألا تحلق ذقنك ؟
وضحك لمداعبتها وقال :
ـ وينقصنا الحمام أيضا . ومرآة زينة كبيرة لك وكل العطور الجميلة التي في العالم .. والآن هيا .. مع الجوع والعطش..

***


ومشيا بعد طلوع الشمس على مهل ، كانا ينـزعان أقدامهما من الأرض بمشقة . واشتد بهما الجوع وبلغ العطش مبلغه . فظهر الشحوب على وجهيهما ، وابيضت الشـفاه وتشـققت .. وترددت الأنفاس بصعوبة .. ولكنهما كانا من الشجاعة بحيث لم يتطرق إلى قلبيهما اليأس..
ومشيا أقل من مائة خطوة ، ثم ارتميـا على الأرض كميتين ، وأغلقا عيونهما من الشمس وأخذ هو يتشهد فى سره ..

***


وتحرك إسماعيل بعد ساعة وفتح عينيه وشاهد على مرمى البصر.. وفى وهج الرمال المصفرة من الشمس خيطا من الدخان يتصاعد من ظهر كوخ.. فنبه أمينة إلى ما شاهده وهو يشعر بالفرح.. فقد وجد خيطا من الأمل وسط ظلام اليأس.. والجوع القاتل.. وجعلها تستريح في مكانها..

واتجه هو نحو الكوخ محاذرا منهوكا، ولما اقترب تصلبت رجلاه ويده على المسدس.. كانت تحدق فيه من فتحة الكوخ عينا رجل.. وجه نحيل خشن وحاجباه كثيفان، وعيناه فيهما صرامة وتحد..

وأظهر إسماعيل كل ضروب الوداعة واللطف .. وهو يقترب من الرجل ويقف على بابه .. ويطلب منه الماء والطعام .. واعتذر الرجل بأن الدار خاوية منذ الأمس، فلا توجد كسرة خبز ولا قطرة ماء.. عندهم.. ولم ييأس إسماعيل وظل يحـاور الرجل ثم أخرج له ورقة بخمسة جنيهات ليغريه ، فتغير حال الرجل على التو ..
ودخل وعاد يحمل خبزا ولبنا .. ناولهما لإسماعيل ..
وحمل إسماعيل الخبز واللبن في ركوة ومنديل ولكن قبل أن يبعد عن الكوخ سمع المرأة في داخل الكوخ تشتم زوجها وتوجعه بالكلام وتوبخه، لأنه أخذ ثمنا لإطعام جائع غريب.. وظلت تصب عليه اللعنة بصوت جارح ..
ثم جذبت الورقة ذات الجنيهات الخمسة منه ، وخرجت تجرى ، وأعادتها لإسماعيل ، وهى تعتذر عن جشع زوجها .. وسرته هذه الشهامة من الأعرابية .. وحكي كل شيء لأمينة وهما يجلسان للطعام .. وكان يردد :
ـ تأملي الحياة .. الخير .. والشر.. في بيت واحد ..
وبعد أن أكلا وشبعا.. لم يستطيعا مواصلة السير إلا قليلا.. جعلهما الشبع بعد الجوع القاتل في حاجة شديدة إلى النوم .. فناما في فجوة منخفضة .
واستيقظ إسماعيل وأمينة نائمة بجواره وتكاد تكون ملاصقة له.. وقد جعله الطعام الذي أجرى الدم في عروقه وغير من حاله.. ينظر إليها لأول مرة كما ينظر الرجل إلى المرأة .. ويشتهيها ..
وكانت نائمة مستسلمة، وما تكشف من جسمها، رغم ما علق به بسبب الطريق كان لا يزال يثيره ولو اقترب منها ما منعته.. ولا رفضت له رغبة .. ولقد لفتهما الحرب في إعصارها والموت يترصد لهما في كل خطوة..
فلماذا يحرم نفسه من متعة الدنيا، وحياته مهددة بالموت في كل لحظة..
وهم بأن يقترب منها ولكنه أحس بمثل الإعصار .. يشق عينيه .. فظل جالسا مدة في مكانه ساهما سادرا. ثم رجع إلى نفسه يلومها على ما انتابه من هواجس وأدرك أنها كانت تحتقره لو فعل بها شيئا. تحتقره كرجل، لأنه استغل ظروف المكان، وخان الأمانة التي جعلتها تضع نفسها ومالها وجواهرها في حماه..
ولما استيقظت من نومها .. ابتسم لها وأمسك بها من يدها واتجها إلى القنال .. وفاجأتهما غارة عنيفة وهما على مداخل القناة .. وغاب إسماعيل عن وعيه ..
ولما أفاق أحس بأثر الضربة في صدغه .. ولا يدرى أكانت من شظية أم من الحصى المتطاير من فعل القنبلة. وسال منه الدم ولكنه تحامل على نفسه ونهض وأخذ يبحث عنها كالمجنون.
وبعد طول البحث لم يعثر عليها . وأدركه اليأس ، وبلغ منه التعب منتهاه ، فارتمى على حافة القناة وكأنه يموت ..

***


ومضت ساعات وهو مضطجع بجانب التل يتابع بعينيه موج البحر .. وكان شهاب من نار ودخان يتفجر في الصحراء .
وظل إسماعيل الليل بطوله يسمع الدوى ، ويرقب البحر ، وهو في أشد حالات الحزن لفراق أمينة وقد نهش قلبه القلق عليها ولفه في إعصار ..
ورأى في مواجهته زورقا يقترب من شط القناة بحذر .. فنهض في تثاقل وتعب وأخذ يتجه إليه، ولمحه الصياد وهو يسير على الشاطئ .. فحرك الزورق ليقترب منه ..
وقال له إسماعيل :
ـ تعديني القناة يا ريس..؟
ـ أعديك .. ولكن أنت شايف الحال ..
ـ أي حال ..؟
ـ اليهود في كل مكان .. في الشمال والجنوب وطائراتهم تدك .. والتعدية مخاطرة .. وثمنها غال ..
ـ أنا مستعد لما تطلب ..
ـ أعتدت أن آخذ مائة جنيه .. ولكن لأجل خاطرك سآخذ خمسين فقط ..
ـ لماذا تستغل الظروف يا ريس.. عيب .. تكفى عشرة ..
ـ قلت خمسين يعنى خمسين..
ـ هذا كثير ..

ـ أنت حر ..
وحرك المجاديف ليبتعد بالزورق، فارتعد إسماعيل بعـد أن أدرك أنه سيدفن في فيافي هذا المكان كما دفن غيره، وقال في ضراعة..
ـ سأدفع لك ما تريد..
ـ النقود أولا.
فأخرج إسماعيل المبلغ من الحقيبة وأخذ يعد له الخمسـين جنيها والصياد يحدق في محتويات الحقيبة ..
ونزل إسماعيل في الزورق وشد الصياد المجاديف .. واضطجع إسماعيـل في باطن الزورق من الخـلف ، وهو يحس بتعب شديد في عظامه ولحمه . كانت الأوجاع قد أخذت تتوزع على جسمه كله . ورأسه ينفجر من أشد أنواع الصداع .. فوضع رأسه على الخشب الصلب ليفلقه نصفين ويستريح.. ! وظل نائما على جنبه وظهره إلى الصياد الذي كان يجدف في حذر وسكون، وتكاد مجـاديفه لا تمس الماء ولا يسمع لها صوت..
ولامست يد إسماعيل بالمصادفة معدنا صلبا صغير الحجم وهو يدس يده بين فتحات الخشب في باطن الزورق .
وجعله حب الاستطلاع يمرسه بين أصابعه .. حتى تبين أنه سلسلة ناعمة خارجة من فتحة في صندوق، غيبه الصياد في باطن الزورق. وحدق إسماعيل في الظلام بين شقوق الخشب فلم يتبين نوع السلسلة. فحول وجهه إلى الصياد وسأله :
ـ أمعك ثقاب يا ريس ..؟
ـ لماذا ..؟
ـ أشعل سيجارة .
ـ السيجارة تضيعنا .. إننا في حرب ..
فأذعن إسماعيل للأمر .. وصرف ذهنه عن السلسلة والصندوق بعد أن أدرك أن الصندوق موجود غالبا في كثير من الزوارق التي تبقى في البحر..
وسأل وهو يتطلع إلي وجه الصياد الجامد وكان يراه طويلا مستقيم العود.. رغم أنه يزاول التجديف كثيرا ويحنى جذعه..
ـ عديت ناس كثير يا ريس .؟
ـ كثير.. من يومين وأنا أعدى خلق ..
ـ وتحت أي بلد نحن الآن الإسماعيلية أم السويس..
ـ إننا في الخليج قريبا من السويس .. ولو كنا تحتها كنا ضعنا من زمان..
ـ ألم تعدى سيدات .؟
وحدق إسماعيل في وجه الصياد وهو يلقى عليه هذا السؤال فرآه جامدا لم يتغير ..
ـ سيدات في هذه الأهوال.. أبدا ..
كان صوته هادئا وواضحا..
ـ بقى كثير على البر ..
ـ إنني أحاول أن أبعدك عن المخاطر .. ولذلك تحس بطول المسافة .. قربنا .. أمامنا القليل..
ـ سأنام وعندما نصل أيقظني ..
ـ حاضر ..
ومضى زمن ..
وأغلق إسماعيل عينيه بضعة دقائق واسترخى .. وأحس بتوقف المجاديف .. فتصور أن الزورق وصل إلى الشاطئ . وفتح عينيه فإذا بالزورق لا يزال في وسط الماء.. ولمح في يد الصياد شيئا غريبا .. مسدسا كبيرا من طراز إيطالي قديم . وكان يعده للحركة الأخيرة .. ضغط الزناد .. وقد انشغل به . فتأمله إسماعيل في صمت وتوجس من الرجل شرا .. مسدس كهذا في يده لماذا ؟ .. إنه لا ينفع في الحرب..
وأحس بالخوف وبالعرق على جبينه وبازدياد ضربات قلبه ..
ولكنه تمالك نفسه سريعا ووضع يده على مسدسه وأصبعه على الزناد .. وأخرجه من جيبه ، وفى اللحظة التي كان فيها الصـياد يمد يده ويصوب إلى رأس إسماعيل وهو نائم ، تحرك إسماعيل سريعا وأطلق النار .
وضاعت الطلقتان في دوى المدافع ووهج النيران ..

***

وأحس إسماعيل بالدم يلطخ ثيابه ، وأدرك أن الرصاصة أصابت كتفه وخرجت من جسمه واستقرت في قاع الزورق... وحدق في وجه الصياد وجس نبضه فتبين له أنه مات..
وظل يبحث في بطن الزورق حتى وجد قطعة حديد رفع بها قطعة الخشب التي تغطى الصندوق.. وكسر القفل وفتح الصندوق .. فوجده ممتلئا بالنقود والحلي ووجد سلسلة أمينة الذهبية ومصحفها، فارتجف قلبه وارتعد، وكان الزورق ساكنا في وسط الماء، فتناول إسماعيل المجدافين.. وأخـذ يجـدف طوال اللـيل متجها إلى بور توفيق..
أدرك وهو ينظر إلى الشواطئ البعيدة أن الصياد كان يغرر به ويتجه إلى الجنوب.
ولما بلغ شاطئ بور توفيق ترك المجدافين وحمل فى يده حقيبة أمينة وكل الجواهر والنقود التي وجدها في الصندوق ، وخرج من الزورق بعد أن دفعه برجله إلى عرض الماء ..

***

وعندما صعد إلى شارع القناة، كان الظلام لا يزال يخيم ، والمدينة ساكنة ، بعد أن توقف الضرب ووجد أمينة جالسة تحت الشجر وحدها تنتظره ، وكانت حزينة وجائعة ونعسانة ..
ولما رأته استردت روحها وجرت إليه وارتمت على صدره ..
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #23
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي قصة الخفير


كانت المحطة تقع بجانب بستان الشيخ عرفان أكبر البساتين فى المنطقة على الإطلاق .. وفى مواجهتها ترعة الإبراهيمية وفى الشرق والجنوب تمتد المزارع وأشجار الجميز والسنط وعلى امتداد البصر تبدو حقول القمح المحصودة .. والذرة المزروعة حديثا .. والأرض الجرداء الملاصقة للجبل الغربي ..
ويبدو من هنا وهناك شريط ضيق بين المزارع ينحدر حتى مجرى النيل ويلتف ويدور صاعدا حتى المحطة ..
وكانت المنطقة آمنة .. فقد تحول الناس بكل طاقاتهم إلى العمل والكفاح فى سبيل الرزق ونسوا حياة الفراغ والجهالة فيما سلف من الأيام ..
وكانت المحطة مع صغرها معروفة وكثيرة الحركة لأنها المتنفس الحديدي الوحيد لعدة قرى متقاربة في الصعيد ..
وكانت مشهورة أكثر من أي شيء بخفيرها سليمان وهو شيخ متوسط الطول حاد البصر ..
كان له في شبابه تاريخ حافل بالتصدي لرجال الليل وقطاع الطرق ، فلما طعن في السن وترك المزارع والوابورات إلى المحطات .. عاش من وقتها على صيته القديم فلم يطلق رصاصة واحدة طوال حياته فى السكة الحديد ..
وكان يؤدى عمله اليومي بأمانة عديمة النظير .. فيحب المحطة وناظرها وعمالها ودخان قاطراتها وكل ما فيها من جماد كأن كل هذه الأشياء قطعة من جسمه ..
***
وتحرك كعادته كل صباح على الرصيف يرقب عربات البضاعة والعمال يحملونها بالأكياس .. وهم يثرثرون ويغنون .. ولاحظ حركة السيمافور المفتوح على خط القاهرة .. لمرور الاكسبريس .. فجلس على كتلة من الخشب ينتظر مروره .. طاويا البندقية بين رجليه .. وأشعل سيجاره وأرسل عينيه السوداوين إلى ما وراء الترعة .. وكانت الشمس قد ارتفعت وضوؤها يبهر الأبصار .. وغمرت صفرتها المحطة وكل ما يحيط بها فبدت المزارع والمياه والبساتين وحتى الرمال التي تبدو من بعيد في الجبل ، مكتسية بلون الأرجوان ..
وأخذت الريح تهب لينة مداعبة أوراق الشجر .. وصفحة المياه وأعشاش الطيور .. وبدت السيارات الكبيرة المحملة بالبضائع والركاب تثير الغبار على الجسر ..
وفاض سيل الحياة المتدفق في دائرة قطرها ثلاثة أميال على الأقل فدارت وابورات الطحين والسواقي والطنابير .. وأخذ الفلاحون يعزقون الأرض ويفلحونها .. ويسوقون المواشي إلى مرابطها في أطراف الحقول ..
ولاحت أشرعة المراكب من بعيد في وهج الشمس وهى تتحرك ببطء في النيل فقد كانت الريح لينة والقلوع لاتشيل ..
وقبل أن يمر قطار الاكسبريس .. سمع الناظر رنين جرس التليفون .. فدخل المكتب .. وقبل أن يرد عليه قطع ورقة من النتيجة نسى أن يقطعها الفراش وهو ينظف المكتب .. فظهر يوم 5 يونيو .. بخط كبير وجلس يتلقى من محطة المنيا محادثات هامة عن تحرك القطارات وشغل فى مكتبه عما يدور فى الخارج .. وظل العمال ومن في المحطة في عملهم الصباحي المألوف ..
وأزت فجأة طائرات في الجو .. ثلاث طائرات صغيرة كالنسـور مرت فى سماء المحطة وهى منطلقة بأقصى سرعتها .. وتطلع إليها العمال .. وأوقف الفلاحون حركة المذارى في أجران القمح .. وحولوا وجوههم عنها فقد أخذ الهواء يعصف ويدوم ويطير التبن فى عيونهم من فعل الضغط ..
وحدق سليمان الخفير .. فيها طويلا حتى غـابت عن بصـره واحتوتها السماء .. وبدت بعدها السماء صافية وفى زرقة ماء البحر .
وتصور من في المحطة أنها طائرات مصرية في طريقها إلى أسوان .. ولكنهم عرفوا بعد قليل من الإذاعة .. أن إسرائيل هجمت في جبهة سيناء والطائرات مغيرة .. ووجم سليمان قليلا لما سمع الخبر ، ولكن ما عتم أن صفت نفسه ولانت ملامح وجهه .. فقد كان على يقين من النصر ..
واخذ يسترجع في ذاكرته كل ما سمعه ورآه .. من مواقف البطولة التي وقفها المصريون وهم يقاتلون الأعداء فى الزمن القريب والبعيد ..
ورجع إلى ميدان المعركة وكان عالم الرؤية يبسط أمامه المواقع في الجبهة .. تذكر هذا كله .. فرأى الجيش المصري بكل فرقه بمشـاته ومدرعا ته ودباباته وطائراته يتقدم صوب إسرائيل لسحقها .
وظلت الصورة في رأسه مبهجة تهز المشاعر .. حتى سمع همسا في العصر يدور .. على ألسنة الناس .. فارتعش بدنه .. ولكن شجاعته لم تبارحه ويقينه من النصر لم يتزعزع .. فلم يصدق الخبر وغضب غضبا شديدا وكاد يحطم كل متحدث به حتى ناظر المحطة نفسه ..
وفى الليل ظل جالسا وحده .. ينظر إلى الحقول .. ويسمع حركة القطارات وقد أطفأت أنوارها ..
وكانت أسلاك البرق تهتز فوقه ، والظلام يخيم على القرى والمزارع والمحطة غارقة في الظلام .. خيم جو الحرب بسرعة ..
وكانت صفحة النيل هي الوحيدة التي تلوح بيضاء فى هذا السواد .
وخرج ناظر المحطة من مكتبه .. منفعلا يغلبه التأثر وقد أحس بمثل السكين تغوص فى قلبه .. وقال بصوت يرتعش من الغضب .. اتهزمنا إإسرائيل .. يا شيخ سليمان ؟ !.. يا للعار .. نتراجع ياللعار .. فلنقاتل حتى الموت .. لنعيش كراما ..
وتجهم سليمان .. وأخذ يهدئ من روع الناظر .. ويعده بتحول الحال .. وظلت الأفكار تلاحقه .. أيذهب هو إلى الجبهة .. إن ولديه حسن .. وعبد الرحيم .. هناك .. أيذهب هو أيضا ؟ .. إن زوجته قادرة على رعاية الأسرة في غيابه ولكنهم لا يقبلون تطوعه .. فهو شيخ قارب على الستين .. يكفى ولداه .. وقد يقتلان ولكن قبل أن يقتل أي واحد منهما سيقتل عشرة من الصهيونيين على الأقل .. ويكفيه هذا فخرا .. وسيكون النصر .. والشجاعة توحى بالإيمان والأمل ..
ظلت الأنبــاء عن المعركة متضاربة .. حتى الساعة التاسعة ليلا ..
وفى الساعة العاشرة وقف قطار يحمل الجنود الذاهبين إلى المعركة .. فسرت انتفاضة في جسم سليمان .. وأخذ يرحب بهم .. ويشعل فيهم نار الحماسة ..
وبعـد أن تحرك القطـار .. أحـس بصوت عجـلاته يدوى في قلبه ..
***
وخيم السكون على المحطة .. وكان الظلام تاما في كل مكان .. وعاد صوت الطائرات في الجو .. وصوت المدافع المضادة يسمع من بعيد ..
وسمع سليمان أن طيارا هبط بالمظلة بعد أن أصيبت طائرته قريبا من قرية تل العمارنة .. واختفى في الحقول .. وأخذ البوليس يطارده .. وانتصف الليل ولم يعثروا له على أثر .. وازداد القلق والتوتر واشتعل رأس سليمان.. وأخذ يرسم في رأسه الدائرة التي يمكن أن يختفي فيها هذا الطيار .. بعد أن طارده البوليس بخيله ورجاله .. ووضحت الصورة في ذهنه ..
واعتقد أن القدر وضع في طريقه حدثا جللا بعد كل هذه السنـين الطويلات المدد ليمتحن قدرته على القتال ..
***
ظل يعيش متنبه الحواس حتى الهزيع الأخير من الليل .. وكان على يقين من أن الطيار سيظل في مخبئه لا يبارحه .. ثم يتسلل قبل نور الفجر ليذهب إلى الجبل .. أو إلى المدينة ويغيب في زحمة الناس .. بعد أن يخفى مظهره ..
***

وبارح سليمان المحطة في خفة الثعلب وتسلق شجرة ملتفة داخل بستان الشيخ عرفان .. وكمن فيها .. وعيناه تتحركان في كل اتجاه .
وفى حوالي الساعة الرابعة صباحا سمع حفيفا واهنا بين أوراق الشجر .. فتسمع ومد بصره .. فرأى شبحا يتحرك بحذر ناحية الشرق .. وتوقف الشبح ليأمن طريقه قبل التحرك .. كان الخوف يزيده يقظة في كل خطوة .. ورأى سليمان عينيه تتوهجان فى الظلمة كما تتوهج عينا الثعبان وهو خارج من جحره .. ومال برأسه إلى اليمين مادا عنقه كما يفعل الثعبان تماما ..
وأدرك سليمان دقة الموقف وخطورته .. لو تنبه الطيار المذعور إلى وجوده .. إن الذعر سيجعله يبادر بالحركة ..
لقد حانت الساعة ليهاجمه .. وإلا فلتت منه الفرصة إلى الأبد .. وانتظر سليمان لحظات حابسا أنفاسه .. ثم هبط إلى الأرض .. يزحف على بطنه .. من جانب وجاعلا ظهر الطيار إليه .. حتى أحس بأنفاسه وظل ملتصقا بالأرض يشتم ترابها ويده على زناد البندقية ..
وأطلق الطيار أولا .. أحس وهو مرعوب بأن شيئا خطرا وراءه فاستدار سريعا وأطلق .. ثم دوى الرصاص .. من الجانبين .. بعنف فمزق سكون الليل .. ونبحت الكلاب بشدة .. وجرى الناس على صوت النار .. ووجدوا على بصيص النور الذي لاح مع نور الفجر سليمان يستدير لمواجهتهم والدم ينـزف من كتفه ..
وتحت شجرة ضخمة .. يرقد الطيار الصهيوني ساكنا وقد مزق جسمه الرصاص ..
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #24
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي المعجزة


كانت هند طريحة الفراش منذ تسعة شهور ، استيقظت ذات صباح فوجدت نفسها لاتستطيع أن تنهض من سريرها ، لقد أصيبت بالشلل النصفى على إثر صراع نفسى جبار استمر سنوات وأحزان قاتلة هدت كيانها ..
كانت تعتقد أنها دميمة قبيحة الصورة لاتصلح للرجال ولايحبها إنسان .. وقد رسخ هذا الاعتقاد فى نفسها منذ الطفولة وكبر مع الأيام .. كانت أمها تقول لها وهى صغيرة تلك الكلمة القاتلة يا وحشة كانت تسمع منها هذه الكلمة فى اليوم عشرين مرة .. فرسخت الكلمة فى أعماقها واستقرت فى طوايا نفسها ، فنشأت مريضة حزينة منطوية .
ولما كبرت رأت أختيها الصغيرتين تتزوجان قبلها وبقيت هى فى المنزل لايتقدم لها أحد حتى تعدت سن الزواج . وكانت تتصور أن جميع من فى البيت يكرهونها لهذا السبب ، وزادت أحزانها وآلامها .. وانفجر شريان غضبها أخيرا فأصيبت بالشلل ..
وأحضر لها أبوها أبرع الأطباء فى المدينة ، ودخلت كل المصحات وطافت بالأضرحة ، ونذرت لها النذور ، ولكن دون جدوى ..
ولجأت أمها ـ بعد أن تطرق إلى قلبها اليأس ـ إلى الدجالين ، فكانوا يكتبون لها الأحجبة والطلاسم والألغاز .. وأخذت تطلق البخور فى حجرة ابنتها لتطرد الشياطين .. وتنتظر الفرج من ملائكة الرحمة ..
وكانت الفتاة بعد الحادث الذى نزل قد زهدت فى كل شىء .. فى الحياة .. وقد علمتها الشهور الطويلة التى قضتها فى الفراش التأمل .. والقراءة .. فكانت تطلب الكتب وتقرأ .. وتقرأ وتفكر .. وقد خرج بها الألم عن الدائرة الضيقة التى كانت تعيش فيها من قبل ، فأصبحت إنسانية النزعة تتألم لآلام الناس وتشاركهم عواطفهم ..
وكان أبوها يسير أصيل يوم فى أحد شوارع القاهرة ، فلمح لافتة صغيرة تشير إلى طبيب نفسانى .. ومع أنه لم يسمع به من قبل ولم يحدثه أحد عنه ولكنه صعد إليه .. واستقبله الطبيب مرحبا .. فقد كانت العيادة خالية تقريبا من المرضى ، وتحدث الأب عن فتاته المريضة ..
فقال الدكتور وهو يبتسم :
ـ قبل كل شىء سنشرب القهوة لأن جلستنا ستطول..
وشرب القهوة .. وقال الدكتور وهو يفتح دفتر مذكراته :
ـ أنا على استعداد لأن أذهب معك إلى البيت الآن وأرى المريضة ، ولكنى أود قبل هذا أن أعرف كل شىء عنها .. فأسرد علىّ سيرتها من الطفولة إلى الآن ، وحاول أن تتذكر كل شىء فإن ذلك من الأهمية بمكان ..
وتحدث الأب واستمع اليه الطبيب ساعة كاملة ، ثم ركب عربة إلى البيت ، ودخل الطبيب على المريضة واستقبلها بوجهه الضاحك ، وأخذ يوجه اليها بعض الأسئلة ويشيع الطمأنينة فى نفسها ..
واستراحت اليه الفتاة كثيرا على خلاف من سبقه من الأطباء ..
ثم استأذن وأخذ طريقه إلى الخارج .. وسأله الأب فى لهفة :
ـ أين الروشته يا دكتور ؟
ـ ليس بابنتك أى شىء ..
ألا تصف لها دواء ؟
ـ أنا لاأعالج بالسموم .. وسأعالجها على طريقتى .. وسترى نتيجة ذلك قريبا ..
ـ وستشفى ؟
ـ بإذن الله .. ما فى شك ..
ونظر إليه الرجل بين مصدق ومكذب .. ودفع يده فى جيبه ليخرج المحفظة ويدفع الأتعاب .. فقال له الطبيب وهو يربت على كتفه :
ـ دع هذا الآن .. وسأحضر غدا فى مثل هذه الساعة ..
وفى اليوم التالى جاء الطبيب ومكث مع الفتاة أكثر من ساعة يحادثها فى مختلف الشئون ، ولم يجر ذكر المرض على لسانه قط ، فعجب الأب لهذا الطبيب المعتوه ..
وفى صباح يوم جميل حمل البريد إلى الفتاة رسالة ففضتها وهى تعتقد أنها من احدى صاحباتها ، ولكنها عجبت بعد قراءة سطرين منها إذ وجدتها بخط رجل يبثها غرامه .. ويقول انه جارها ويسكن فى الشارع الذى تقيم فيه .. وأنه رآها أكثر من مرة فى شرفتها ولكنها كانت فى شغل عنه فلم تلتفت اليه مرة واحدة .. وأنه لم يرها منذ شهور فى الشرفة أو فى النافذة فهل هى مسافرة أو مريضة ؟ إنه يود أن يعرف لأنه قلق .. ولأنه معذب ولأنه متيم بها ..
وقرأت الرسالة مرة ومرات وتورد وجهها .. وكانت عندها خادمة تحبها وتثق فيها فطلبت منها أن تضع الرسالة فى خزانة ملابسها ففعلت ..
وبعد يومين جاءتها رسالة ثانية .. فقرأتها فى لهفة .. وكانت أشد عنفا إذ كتبها بدم قلبه .. ثم تدفقت عليها الرسائل بعد ذلك .. وكان الطبيب فى خلال تلك المدة يزورها ، ويلاحظ التغير الذى طرأ على نفسها وجسمها .. فيسر لذلك ..
وحملت إليها الخادمة رسالة معطرة من حبيبها المجهول ..
وقال لها فيها إنه عرف رقم تليفون منزلها بعد أن عرف اسم والدها من البواب .. وإنه سيطلبها الليلة فى التليفون الساعة العاشرة مساء ويرجو أن تكون وحدها ..
ومن غروب الشمس كانت آلة التليفون بجوار سريرها ، وفى الساعة العاشرة دق الجرس .. فرفعت السماعة وظلت ممسكة بها برهة وقلبها يخفق خفقان الطائر المذبوح .. ثم قربت السماعة من أذنها وجاءها صوته من وراء الأبعاد .. وأخذ يتحدث .. وكانت هى تستمع فى نشوة وقد عقد الخجل لسانها .. ثم تشجعت وأسمعته صوتها .. ورأته يسر لذلك ويتدفق فى الحديث كالسيل ..
ووضعت السماعة وأحست بشىء جديد يسرى فى كيانها ، وبالدم يتدفق فى عروقها .. ويسرى فى جسمها كله حتى فى نصفها المشلول ، وكان خداها فى حمرة الورد .. وكانت عيناها تلمعان ببريق غريب .. بريق الحياة التى أخذت تدب فى جسمها ..
وظلت تحلم أحلام اليقظة إلى ساعة متأخرة من الليل ..
وأخذ بعد ذلك يحادثها فى التليفون كل يوم .. وكانت تطلب من خادمتها أن تغلق عليها الباب وتظل تتحدث معه ساعة وأكثر .. وكان إذا تصادف وخرج أهلها للتنزه وبقيت وحدها مع خادمتها ودق جرس التليفون كانت تشعر بسعادة غامرة لأنها تستطيع أن تحادثه بحرية ولمدة أطول وأطول .. وكانت قد ألفت صوته واستراحت إليه وازداد تعلقها به .
وذات مرة قال لها :
ـ عاوز أشوفك ..
ـ صحيح ..؟
ـ والنبى ..
ـ فين..؟
ـ فى أى مكان تحبينه ..
ـ لكن أنا مبخرجش ..
ـ أبدا ..؟
ـ أبدا..
ـ طيب ..
ووضعت السماعة وبكت ..
وفى اليوم التالى حادثها وقال لها :
ـ أنا زعلان منك ..
ـ ليه ..؟
ـ مررت تحت البيت فلم أرك ..
ـ والله فيه عذر قوى .. وأنا معذورة ..
ـ بكرة سأمر .. ولازم أشوفك ..
ـ سأحاول ..
ووضعت السماعة .. ولكنها لم تبك بل أحست بشىء يعمل فى داخل نفسها .. وبقوة دافقة تسرى فى كيانها ..
وقبل الموعد بساعات طلبت خادمتها وأخذت تتزين ، والبستها الخادمة أحسن أثوابها .. وقربت منها المرآة .. فأخذت تنظر فى وجهها طويلا .. وتصفف شعرها ، ولاحظت التغيير الذى طرأ عليها ، ورضيت وابتسمت .. وصرفت الخادمة ولما اقترب الموعد خيل اليها أنها تسمع صوته يناديها فتحركت من فوق السرير ووجدت نفسها لأول مرة فى حياتها تحرك رجليها .. وأنزلتهما برفق وقد غمرتها فرحة عارمة ونزلت على الأرض وتماسكت واستمرت واقفة وحلت المعجزة ومشت فى أرض الغرفة نحو الشرفة ..
واستندت على الحاجز ، ورأته هناك فى الجهة المقابلة من الشارع ولوح لها بمنديله الأبيض كإشارة للتعارف كما اتفقا .. وظلت متماسكة تنظر اليه فى سرور ..
ورأت الخادمة سيدتها واقفة فصاحت :
ـ شوفو ستى .. شوفو .. ستى ..
ورأت الأم ابنتها واقفة فى الشرفة .. فجرت نحوها ، وارتمت هند على صدرها وأخذت تبكى .. بكاء الفرح ..
وبعد ذلك بساعة كان الطبيب جالسا فى مكتبه يسجل فى دفتر مذكراته ..
إنتهى العلاج وحدثت المعجزة
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #25
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي المجداف


ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..
وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .
ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .
ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى المندرة قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .
قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .
وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .
وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..
وسألت الملاح :
ـ إلى أين .. ياعم ..؟
ـ رايح .. الخزان
ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..
ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .
ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..
وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..
ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..
ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..
ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..
وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .
وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .
وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..
وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .
وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..
وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..
وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسه سيجارة ..
وبعد أن أشعلها .. استراح ..
وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .
وقدرت أن حاجا جديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .
وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..
وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
ـ أساعك .. ياعم ..؟
ـ كتر خيرك .. يا ابنى
وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..
وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
ـ خذنى معك .. يا عم ..
ـ إلى أين ذاهب ..؟
ـ ارمينى تحت الريح ..
وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..
وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..
فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .
فقال له الرجل :
ـ ارجع ..يا عجوز .. أحسن لك ..
واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..
ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..
ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..
ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..
ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..
أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..
ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..
وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..
***
ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .
وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟
انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..
وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..
وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القاه من يده .. كأنه يستخف بنا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..
وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..
ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..
وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..
وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..
ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..
وقالت الفتاة :
ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..
وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..
وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..
وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..
ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..
وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..
وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..
وقلنا له فى نفس واحد :
ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..
وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..
ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..
وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..
وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..
واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..
وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..
ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..
وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..
واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..
وسألته :
ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟
فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..

  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #26
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي رجل على الطريق


اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى فى شركة من شركات الملاحة بالسويس براتب تافه ، كنت أسكن بنصفه ، وأشرب بالنصف الآخر جعة ، ولا أحفل بعد ذلك بشىء فى الوجود ، وكنت أقيم مع أسرة إيطالية تسكن فى منزل صغير على شط القناة فى بور توفيق ، وتعيش عيش الكفاف .
وقد كانت الحياة شاقة على شاب فى مثل سنى ونشاطى فى هذه المدينة الصغيرة التى ليس فيها شىء سوى القناة ، ومنازل الشركة المتناثرة على الشاطىء ، وسكانها جميعا من الأجانب الذين وضعتهم الأقدار العجيبة فى هذا المكان ، ولاصلة تربطهم بالمواطنين ولا مودة ولا إخاء .
على أن ولعى بالمطالعة ، وحبى للهدوء ، خففا مما كنت ألاقيه من وحدة ووحشة فى هذه الضاحية . وكنت أذهب كل مساء إلى السويس لأشرب الجعة فى مشرب صغير ، وأتمشى فى طريق الزيتية .. ثم أعود إلى بور توفيق لأنام .
وكنت أجد على رأس الطريق الموصل لبيتى رجلا غريب الأطوار ، يجلس على الحشائش قرب القناة وبجواره كلب ضخم وزجاجة فارغة ...! وكان الرجل يجلس ينظر دائما إلى ناحية القناة ، ويخط باهتمام فى دفتر أمامه .. ويجلس هكذا معظم النهار ، فإذا غربت الشمس حمل متاعه ومضى ووراءه كلبه واختفى فى الظلام .
وكان موضع السخرية من العابرين فى الطريق .. وكان أكثر الناس سخرية به العمال الذاهبون إلى ورش الميناء .. وما كان الرجل يعبأ بسخريتهم أو يحفل بكلامهم .. كان يمضى فى عمله ولا يجيب .
ولعلى كنت الوحيد الذى يمر به فى الصباح والمساء ولا يسمعه كلمة نابية ، ولذلك كان ينظر إلىّ فى استغراب ودهشة . وكنت أخرج لأتمشى كل أصيل ومعى كتاب .. وأتخذ طريق القناة عادة .. وأجلس هناك على كرسى حجرى أطالع ، والرجل على مقربة منى يكتب فى كراسته ، ودنوت منه ذات مرة ، وجلست إلى جواره فوق العشب ، وحييته فحيانى بهزة من رأسه وهو يبتسم ، ومر مركب فى القناة فانحنى على كراسته وكتب شيئا فى تمهل وعناية .
فسألته :
ـ ماذا تكتب ..؟
فنظر إلىّ بوجه ضاحك وقال :
ـ إننى أتلهى ..
ثم أضاف وقد لمعت عيناه بعض الشىء :
ـ لقد كنت ملاحظ فنار فى البحر الأحمر ، وكان هذا هو عملى فى النهار والليل .. أرقب السفن وأدون أسماءها ، وأنا أفعل هذا الآن بحكم العادة ، وأجد فى ذلك لذة تنسينى متاعب الحياة ..
ـ لاشك أن العمل فى المنارة وسط البحر ممتع للغاية ..
ـ جرب وسترى ..
ثم شاعت فى وجهه ذى التجاعيد ابتسامة عريضة وسألنى :
ـ هل أنت متزوج ..؟
ـ لا ..
ـ إذن فيمكنك أن تركب البحر إلى هناك .. ولا بأس عليك .. كتاب وفونوغراف ، وكل شىء سيمضى على سننه .. أما إذا كنت متزوجا فستعود من هناك نصف مجنون ..!
ـ وهل اعتزلت هذا العمل من مدة ..؟
ـ مدة طويلة جدا يا بنى .. منذ سنين وسنين ..
وتغير صوته وأطرق .. فأدركت أنه تذكر شيئا يؤلمه .. فتحولت بوجهى عنه ، وأخذت أقلب صفحات الكتاب الذى معى حتى أقبل المساء ، فحييته وانصرفت .
***
والتقيت به بعد ذلك كثيرا فى هذا المكان حتى توثقت بيننا مودة صادقة . وكان الرجل مخمورا أبدا ، وما رأيته غير ثمل فى نهار أو ليل ، وكانت زجاجة الخمر معه لاتبارحه قط ، وكان ادراكه الصحيح للحياة قد جعله لايعبأ بشىء مما تواضع عليه الناس ، فهو يسكر وينام فى الطريق .
وما رأيته متبرما بشىء ، أو شاكيا من شىء .
ورآنى مرة فى حانة صغيرة فى مدينة السويس .. أتحدث مع زوجة صاحب الحان .. فلما انصرفت المرأة لعملها جاء وجلس إلى مائدتى ..
وسألنى :
ـ لماذا تسكر فى هذه السن ..؟
ـ لأننى أشعر فى أعماق نفسى بالتعاسة
ـ إن هذا أحسن جواب لسكير ..!
ـ ولماذا النساء ..؟
فصمت ولم أقل شيئا ..
واستطرد هو :
ـ انك تسكر لأنك وحيد .. ولا رفيق ولا أنيس لك فى هذه المدينة الكئيبة ، ومع كل مساوىء الخمر فإنها قربتك منى ولم تجعلك تسخر من ضعفى ، وأنا أشرب على قارعة الطريق فى بور توفيق ، إنك تدرك الضعف الإنسانى لأنك إنسان ..!
ـ إن هذا لايغير من نظرة المجتمع إلى السكير ..
ـ هذا صحيح .. ولكنى أسكر رغم أنفى وكذلك أنت . وهناك شىء فوق إرادة الإنسان يربطنا بهذه الدنان .. وإن تشرب فى ساعة مظلمة من حياتك ثم تصحو .. إن هذا لاشىء .. ولكن النساء .. هذا شىء آخر .. إنك لا تستفيق من خمرهن إلا وأنت ساقط فى الهاوية ..
وجاء له الساقى بكأس فشربها وعض على نواجذه .. ثم أشعل لفافة من التبغ ، وأخذ يسرح الطرف فى سماء الحان ..
فسألته وأنا أنظر إلى وجهه وقد غضنته السنون :
ـ لماذا تركت البحر ..؟
ـ إنها الأقدار ..
ثم صمت .. وأمسك بالكأس البللورية الفارغة .. ورفعها إلى عينيه كأنه يقرأ فيها من لوح الغيب .
ثم سألنى :
ـ أركبت البحر ..؟
ـ ذهبت منذ سنتين إلى استامبول ..
ـ أشاهدت منارات فى الطريق ..؟
ـ أجل ..
ـ سأحدثك عن قصة منارة من هذه المنارات ..
ووضع الكأس البللورية على المائدة .. وأشعل لفافة أخرى وأقبل علىّ يتحدث :
ـ كنت أعمل فى منارة بالبحر الأحمر منذ سنين .. وكان معى زميل لى يساعدنى على العمل . أمضيت شهرين فى المنارة وسط البحر .. ولا شىء تراه هناك غير البحر .. وكنا نطالع ونصطاد السمك ، ونسمع الفونوغراف .. وننير المنارة فى الليل للسفن ، ونغنى ونفعل كل شىء لنتلهى . ولكنك فى ساعة من الساعات تحس كأن شيئا يثور ويضطرب فى أعماق نفسك ، فتكاد تمزق الكتاب وتحطم الفونوغراف .. وتشعر بسأم .. وتضيق ذرعا بكل شىء .. وتحس بالاختناق .. وتنظر ولا ترى حولك غير البحر ، وبينك وبين الأرض سفر أيام ، فى هذه الساعات كنت أجلس على سلم المنارة وأدلى بساقى فى الماء .. وأحلم بعرائس البحر التى قرأت عنها فى الأساطير .. وأتصور أن واحدة منهن ستطلع وتجىء إلىّ .. وتمر سفينة من بعيد ، وأنوارها ترقص على الموج ، وأتصور أننى أسمع ضحكات نساء .. ورقص نساء .. وأرى بعين الخيال واحدة منهن تتجرد من ثيابها وتتهيأ للنوم ، فيأخذنى السعار .. وأظل أفكر وأحلم فى المرأة .. ولا شىء غير المرأة .. إنها تأخذ عليك مسالك تفكيرك ، وتشغل حواسك ، فإذا رأيت شيئا أبيض يلوح فى سفينة من بعيد تصورته ساق امرأة .. وإذا أبصرت شيئا ينثنى على سطح مركب تصورته امرأة .. إنك تراها فى كل شىء ولا تراها ..
وكنت أنا وزميلى أحسن صديقين .. كنا نعمل فى صفاء ووئام .. وكان الطعام لابأس به ، ووسائل التسلية متوفرة .. أما إذا جن الليل وثارت الغريزة فقد انقلب كل شىء إلى جحيم .
وكان صاحبى متزوجا وكنت أعزب ، وكان يحب زوجته ويحدثنى كثيرا عنها ..
ومضت شهور ، واقترب موعد عودتى إلى السويس لأستريح فى الأجازة المقررة لأمثالنا .
وجاءت الباخرة التى ستقلنى إلى السويس ، وأعطانى صاحبى رسالة إلى زوجته .
***
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #27
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وأمضيت أياما فى السويس ، والرسالة موضوعة فى جيبى حتى كدت أنساها .. وفى أصيل يوم ذكرتها ، فاتجهت إلى بيت صاحبى وكان فى أقصى المدينة .. وتقدمت فى الشارع الضيق ، وشمس الأصيل تضرب رؤوس المنازل البيضاء بأنوارها الساطعة ، وكل شىء يسبح فى الضوء الباهر .. ووقفت أمام البيت ، واجتزت العتبة ، ورأيت فتاة فى مقتبل العمر تمسح الدرج وقد شمرت عن ساقيها .. ولما رأتنى توقفت عن العمل ، ونظرت إلىّ فى سكون فاقتربت منها وسألتها وأنا مفتون بجمالها : ـ أهذا منزل عبد السلام أفندى ..؟
ـ أجل ..
ـ أريد أن أقابل زوجته ..
ـ أنا زوجته ..
فابتسمت وظهر على وجهى الارتباك ، فما كنت أتوقع أن تكون زوجة صاحبى صغيرة وجميلة هكذا ..
رأيت أمامى فتاة فوق العشرين بقليل ، خمرية اللون سوداء العينين .. جذابة الملامح إلى حد الفتنة .
وعرفتها بنفسى وسلمتها الرسالة .. فأخذتها فى لهفة ثم ردتها إلىّ وهى تضحك وقالت بصوت ناعم :
ـ أرجو أن تقرأها لى فأنا لا أعرف القراءة
ـ وقرأتها لها فأشرق وجهها وزاد سرورها ..
ثم طوت الرسالة وقالت وهى تشير إلى الداخل :
ـ تفضل ..
ودخلت وجاءتنى بعد قليل بكوب من الليمون
وأخذت أحدثها عن البحر ، وعرائس البحر .. حتى أقبل الليل فحييتها وانصرفت وأنا جذلان طروب .
***
وبعد أيام التقيت بها عرضا فى السوق ، وكانت معها سيدة وفتاة أصغر منها قليلا .
وسلمت علىّ فى بشاشة وقالت :
ـ لماذا لم تزرنا ..؟
ـ سأزوركم طبعا ، قبل عودتى إلى المنارة ..
ـ وقبل ذلك ..؟
ـ وقبل ذلك .. !
ـ سلم على أمى وأختى .. إنهما قادمتان من بور سعيد لزيارتى .. وقد حدثتهما عنك ..!
وسلمت على أمها وأختها ، ومشيت معهن إلى البيت ، وبقيت معهن حتى ساعة الغداء ..
***
وذهبت إلى الإسماعيلية ، وأمضيت فيها أياما .. ورجعت إلى السويس ، وفى أصيل يوم مررت بمنزل زينب زوجة صاحبى لأخبرها بموعد عودتى إلى المنارة حتى أعطيها فرصة لتعد بعض المأكولات لزوجها ، ووجدتها فى البيت وحدها ، كانت أمها وأختها قد سافرتا .. وشعرت وأنا جالس فى الحجرة بالسرور والارتياح .. وهذه مشاعر لم أستطع تعليلها ..
وكانت زينب تلبس رداء أزرق بسيط التفصيل .. وقد صففت شعرها وعقدته جدائل فوق ظهرها ، وكانت تعصب رأسها بمنديل أزرق كذلك ، وفى عينيها كحل خفيف ، وعلى خدها الأيمن حسنة . ولما جاءت إلىّ بفنجان من القهوة ، ومددت يدى لأتناوله من يدها ، شممت من جسمها روائح الطيب ، فتنبهت حواسى ، ونظرت إليها وكأننى أراها أمامى لأول مرة ..
ولأول مرة أشعر بقلبى يدق وأنا معها فى غرفة واحدة والعرق قد أخذ يتصبب على جبينى ..!
ومالت الشمس إلى الغروب ، ونهضت لأنصرف فقالت وهى تنظر إلىّ :
ـ لماذا أنت مستعجل ..؟
ـ الليل قد أقبل ..
ـ إن هذا أدعى لبقائك لأننى وحدى فى البيت ، فانتظر حتى تأتى خالتى أم اسماعيل ..
وبقيت .. وظللنا نتحدث .. حتى مضت فترة من الليل .
ووجدت أمامى أنا الشاب القوى الذى يعانى مرارة الحرمان امرأة ناضجة محرومة مثلى ..
كان فى نظراتها تكسر ولين
وكان جسمها يروح ويجىء أمامى وهى فى أحسن مجاليها ، فأخذت أنظر إليها ، وأنا مستغرق فيها بحواسى ومشاعرى جميعا ، ونسيت أنها امرأة صاحبى ، نسيت هذا وذكرت أننى وحيد فى قلب الليل مع امرأة أشتهيها من كل قلبى .
ودون أن ندرى ما حدث كانت بين ذراعى وكنت أرتوى منها .
وغرقنا فى النشوة فلم نحفل بأحد .
وأصبحت أقابلها كل يوم ..
***
ولما حان موعد عودتى إلى المنارة حملتنى هدية لزوجها ، وودعتها وفى قلبى جمرات من نار .
وذهبت إلى المنارة وأعطيت الهدية لصاحبى وسألنى عنها ، وكان يتلهف على كل كلمة يسمعها منى .. كان يحبها إلى درجة العبادة .. سألنى عن صحتها وأحوالها ، وأخذت أجيبه على مئات الأسئلة التى أمطرنى بها ، وكان من فرط ولهه يود لو يقبل يدى لأنها لمست يدها ..!
وحل موعد عودته فتركنى ورحل ..
وكنت فى خلال ذلك أعانى عذاب السعير ، وأتصورها بين ذراعيه فأكاد أجن ..
وانتهت أجازته وعاد .. ورأيته يصعد سلم المنارة بعد غيبة ثلاثة شهور .. وكدت أنكره .. فقد تغير .. إذ ظهر على وجهه الشحوب والذبول وحيانى فى فتور .. ووضع متاعه فى جانب من المنارة .. وصعد إلى البرج .. وهو صامت ..
وجلست بعد هذا أفكر وأسائل نفسى .. ما علة تغيره ؟ هل عرف ..؟ هل علم بكل شىء ..؟ ما أشد جنون المحبين ! إنهم يتصورون أن الناس لاتعرف عنهم شيئا .. وسيرتهم تدور على السنة الناس . إن الحب يعميهم عن ادراك الحقائق .
وكان عليه أن يسهر فى البرج ، وعلىّ أن أنام لأحل محله بعد ذلك .. واستلقيت على الفراش ولكنى لم أنم .. كانت نظراته إلىّ ترعبنى .. وكنت أخافه .. كان أشد منى قوة .. فأغمضت عينى نصف إغماضة وسمعته يهبط السلم .. ويدور فى الغرفة الصغيرة حتى وقف على فراشى ، وتظاهر بأنه يبحث عن شىء وعاد إلى البرج ..
وبعد ساعة سمعته يهبط السلم مرة أخرى .. ورأيته يتجه نحوى .. وكانت فى يده قطعة من الحديد .. إنه يود قتلى .. ودون أن نتبادل كلمة واحدة تشابكنا فى عراك دموى ، وظللنا نقتتل حتى لم تبق فينا قدرة على الحركة ، ورحت فى غيبوبة طويلة .. ولما فتحت عينى ونظرت إليه كان الدم يلطخ وجهه ، وكان صدغه قد تهشم من ضربة قاتلة .. فأدركت هول ما حدث وأغمضت عينى ..
***
نمت على الأرض وهو بجوارى فاقد الحراك .. ونظرت إلى السماء فوقى ، وإلى البحر الصاخب من حولى ، وإلى الظلام الذى تضل فيه الأبصار ، واستعرضت فى ذهنى صور حياتى إلى أن التقيت بصاحبى هذا .. وجمعتنى الأقدار معه فى عمل واحد .. وامرأة واحدة ..!
وبكيت وماتت فى نفسى كل عواطف البغضاء .. وودت لو أفتديه بحياتى .. وأخذنى بعد قليل ما يشبه الدوار .. ثم فتحت عينى ، وتصورت أن الجثة تتحرك وأنها اقتربت منى .. وكنت مشلولا ولا أستطيع الحركة .. فتملكنى غيظ مستعر ، وجعلت أصر بأسنانى ، وأهذى كالمجنون ، وأصرخ بأعلى صوتى .. ولكن موج البحر كان أعلى من صوتى .
كان يزمجر وكنت أصرخ فيختلط الصوتان معا ويذهبان أباديد ..
وظللت ساعة كاملة وأنا فاتح عينى ومعلق بصرى بالجثة .. وقد عجزت عن كل حركة .. وخيل إلىّ أنها انتفخت .. وأن وجهه يزحف عليه النمل .. والهوام ! وازددت كراهية لها ونفورا .. وخطر لى خاطر لماذا لا أدفعها إلى البحر .. وأتخلص من هذا العذاب ..
وزحفت بجسمى كما يزحف الثعبان .. وحاولت أن أدفع صاحبى فلم أستطع .. فتمددت فى مكانى وبصرى إلى النجوم .. إن الليل مرتع للهواجس .. فإذا طلعت شمس النهار ذهبت هذه الخواطر المرعبة أباديد .. ولكن متى يطلع الصبح ..؟
لقد كنت أرتعش وأصر بأسنانى ، وأشعر بجفاف حلقى .. ولما صحت بأعلى صوتى كان صوتى قد انقطع .. فأغمضت عينى وأخذت أبكى كالأطفال .. وكنت كلما أغمضت عينى ازداد سمعى حدة .. وخيل إلىّ أننى أسمع صياح مردة فى برج المنارة وعواء ذئاب .. ووضعت أصابعى فى أذنى .. ولكن هيهات كان الصوت قويا ، وكان يجلجل فى البرج .
وارتعشت .. وتصبب العرق وأخذنى الدوار .
***
ولما فتحت عينى ، كان النور قد غمر الكون .. وظللت طول النهار فى مكانى ، وأنا أتلوى من الألم والعذاب . . وكلما أدرت وجهى عن رفيقى .. عدت برغمى أنظر اليه وأرتعش .. حتى طار صوابى .
ومرت مركب فى المساء .. ولاحظت انطفاء المنارة .. فاقتربت وحملتنا .. هو ميت وأنا أشبه بالموتى .
وسجنت .. وخرجت من السجن .. وذهبت إلى كل مكان لأتلهى وأنسى .. ولكن صورة البحر بأمواجه وأشباحه والمنارة المنطفئة .. والزميل الراقد بجوارى لاتبارح مخيلتى أبدا ..
إننى معلق هناك بخيط لايرى .
  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #28
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي رجل فى القطار


كانت الليلة شديدة البرودة .. والريح تنذر بالعواصف .. وكان كازينو فينوس قد أغلق نوافذه وأبوابه وترك فقط الباب الصغير الموصل للطريق مفتوحا .. وكان هذا بابا عتيقا فأخذت الريح تهزه .. وانطلق كلما دفعته الريح يدور على مفصلاته ويحدث صريرا مزعجا ..
وجلس من وراء الباب بعض رواد الكازينو الدائمين متناثرين حول الموائد ولائذين بالأركان فبينهم من كان يشرب ويتعشى ويثرثر .. وبينهم من كان يحتسى الخمر فى صمت كئيب ..
وكان الضوء شاحبا وقليلا فى الخارج والداخل .. وأنفاس الدخان الحارة تذوب فى الهواء البارد .
وكان الجو كله يوحى بالكآبة والوحشة ورهبة الصمت وفى حوالى الساعة التاسعة من المساء .. دخلت من الباب الصغير امرأة شابة .. ترتدى معطفا سنجابيا .. ويبدو على وجهها الهزال والتعب ..
وكانت جميلة حلوة التقاطيع متناسقة القوام ولكنها غطت هذا القوام البديع .. وبدت محتشمة فى ملابسها .. ولاتبرز شيئا من مفاتن جسدها .. وكانت وهى تتحرك بين الموائد مضطربة وفى أشد حالات الخجل .. وكأنها تبحث بعينيها عن شخص ينقذها من دخولها وحدها إلى مثل هذا المكان ..
ثم جلست وحيدة .. منكمشة فى ركن قصى .. وما لبثت أن عـاودها الشرود فذهلـت عن نفسها .. ثم استـفاقـت على صـوت الجرسون يسألها عما تطلب ..
فحدقت فيه برهة .. وهى أشد ما تكون اضطرابا .. كانت جائعة جدا وتود أن تطلب شيئا تسد به رمقها .. ولكنها تخشى أن يكون ثمن الطعام أكثر من القروش الخمسة التى فى حقيبتها .. فنظرت إلى الجرسون فى حيرة .. كانت تشتهى طبقا من المكرونة أو شطيرة صغيرة بالجبن .. وخجلت من أن تسأله عن ثمنها .. وأخيرا طلبت فنجالا من الشاى .. وهى تنظر إلى وجه الرجل فى استكانة وكأنها ترجوه أن يبتعد عنها ويرحمها إذ أنها فى الواقع لم تكن ترغب فى أن تطلب أى شىء على الاطلاق ..
وبعد أن تركها الجرسون ومضى إلى داخل المحل .. جمعت سعاد أشتات نفسها المضطربة وأخذت تحدق بوعى فى المكان ..
ولاحظت رجلا متوسط العمر .. يسدد إليها النظر بقوة .. فاضطربت جدا ولكن انتباه الرجل إليها سرها فى الحقيقة .. وتذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبل وهى نازلة من الترام ..
وسرت لأنه تبعها فقد كانت فى الواقع تبحث عن شخص تلجأ إليه فى محنتها وفرحت لهذا الغرض .. وكانت قد جاءت إلى هذا الكازينو من قبل مرة واحدة مع صديقة لها .. وعرفت منها أن تحت رواقه يلتقى الرجال بالنساء .. ومن الرجال من يدفع بسخاء طيب فى سبيل ملذاته ..
وعندما سمعت سعاد هذه الكلمات لأول مرة امتعضت وخرجت تجر صاحبتها من الكازينو بسرعة وابتعدت عنه .. كانت رغم فقرها الشديد تخشى أن تتردى فى هذا الوحل أو يصل بها الحال إلى هذا الحضيض .. ولكن الكلمات ظلت مع ذلك فى أذنيها ..
فلما مرضت أختها زكية مرضا أشرف بها على الموت .. وعجزت عن أن تشترى لها حتى زجاجة صغيرة من الدواء خرجت إلى الطريق كالمجنونة وعادت إلى رأسها صورة الكازينو .. والكلمات التى سمعتها من قبل .. فاتجهت إليه مغمضة العينين ..
وكانت سعاد تشتغل من قبل فى منسج ثم طردت منه .. منذ أربعة أشهر دون سبب ظاهر .. ولم تستطع أن توفق إلى أى عمل وتستمر فى أدائه بعد ذلك .. فقد كان جمالها هو سبب نكبتها فى الحقيقة .. فقد طردت من قبل من مصنع العلب الكرتون .. ومن معمل للحلوى لنفس السبب .. كان كل من تعمل عنده ويدفع لها الأجر يود أن يخضعها لنزواته ويفترسها أولا كما يفترس الذئب الشاة .. فكانت تفزع من هذا .. وطارت على وجهها مذعورة وظلت محتفظة بصفائها .. ولكن الجوع حطمها .. ومرض أختها الطويل هز كيانها .. وكانت أصغر منها وهى عائلتها الوحيدة ..
فخرجت من البيت فى ليلة شديدة البرودة مظلمة .. وفى رأسها أن تفعل كل شىء ..
وعندما رأت هذا الرجل يلاحظها بنظراته سرت .. فقد كان هذا هو ما تطلبه وتسعى إليه .. وبعد أن حدق الرجل فى وجهها قليلا .. ولاحظ البسمة الخفيفة التى مرت على شفتيها والومضة التى فى عينيها .. اتخذ مجلسه فى مائدة ملاصقة لمائدتها ولكنه لم يحدثها بادىء ذى بدء بل ظل ينظر إليها طويلا ..
ثم التفت إليها وأخذ يحادثها ولاحظ بعد تبادل بضع كلمات معها أنها أشد اضطرابا مما كان يتوقع .. ومع ذلك صبر على خجلها وظل يتبسط معها فى الحديث برقة وايناس ..
وكان الجرسون قد جاء فى تلك الآونة يحمل الشاى .. فطلب الرجل منه فى الحال عشاء دسما وكأسين من الخمر .. ولكن سعاد رفضت أن تشرب فشرب الرجل الكأسين .. وطلب الكأس الثالثة والرابعة وظل يشرب ..
وتعشت سعاد وملأت جوفها .. وظلت طول فترة العشاء تتفرس فى وجه الرجل .. تستوضح ملامحه .. كان مستطيل الوجه .. فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره ذا شارب صغير وعينين صغيرتين ولكنهما نفاذتان وكان صوته ناعما ملفوفا .. وفيه براعة ورقة من اعتاد التحدث مع النساء والتودد لهن ..
ومع أنه كان جذاب الملامح وحلو الحديث ولكن سعاد أحست بعد أن شبعت وملأت بطنها بشاعة ما هى مقبلة عليه .. وفكرت فى أن تترك الرجل .. وتخرج ..
ولكن كيف تتخلص منه بعد أن أطعمها من جوع .. وكيف تنسى أختها المريضة فى البيت .. ورجعت بفكرها إلى البيت وتصورت أختها وهى تموت دون علاج وظلت فى عذاب شديد .. وجعلتها سذاجتها تفكر فى أن تطلب من الرجل جنيها .. وتتركه على الباب ..
ولكن الرجل قطع عليها حبل التفكير فى الحال بأن خرج بها من الكازينو وركب معها سيارة أجرة من قلب المدينة إلى محطة كوبرى الليمون وعرفها فى الطريق أنه يقيم فى ضاحية عين شمس وكانت قد ذهبت إلى هذه الضاحية مرة واحدة منذ خمس سنوات فى زيارة سريعة وعابرة .. وأعجبت بها وراقها هدوءها ودفؤها فى الشتاء ..
وقد انشرح صدرها لأن الرجل يقيم هناك وستدخل بيته فى سكون بعيدا عن الأنظار وعن فضول الناس ..
وعندما جلست بجواره فى عربة القطار المكشوفة ذات المقاعد الجلدية مع جموع الركاب .. شعرت بالاطمئنان ولكن عندما بدأ الناس ينزلون من العربة ويتركونها فى مختلف المحطات .. أحست بالخوف ..
وكانت تصعد بصرها فى وجه الرجل وتراه يبتسم إليها فى وداعة فعادت تطمئن إليه ..
وقد نسيت فى رحلة القطار ودخانه ووجود الركاب معها .. ما هى مقدمة عليه .. فلما خف الركاب أحست بأنفاس الرجل بجوارها وبالخشب .. والمقاعد الفارغة .. خافت .. وارتعشت من مجرد التفكير فيما هى ذاهبة إليه ..
***
وقبل أن يقف القطار على محطة الزيتون ظهر فى ممر العربة .. رجل طويل القامة عظيم الهامة .. يرتدى معطفا من الصوف الثقيل ويضع على رأسه عمامة بيضاء .. وكانت ذقنه طويلة سوداء لامعة تتخللها شعيرات بيضاء .. وعيناه شديدتا البريق .. وحرك دفترا صغيرا فى يده ..
وأخذ يخطب فى الركاب بصوت جهورى ويحثهم على التبرع لبناء مسجد .. فى جهة الزيتون ..
وكان يتحدث ببلاغة مذهلة وتتدفق الكلمات من فمه كالسيل .. وأثرت الكلمات فى الموجودين جميعا فانهالت عليه التبرعات .. ومنهم من دفع ورقة بخمسة قروش وبعشرة قروش .. وخمسة وعشرين قرشا .. وبلغ التأثر من راكب بأن أخرج جنيها صحيحا وسلمه للخطيب وعيناه تفيضان بالدمع ..
وكان يفك للذين ليس معهم فكة .. ولا يترك راكبا دون أن يدفع ويتبرع ..
وبعد أن انتهى من ركاب العربة .. دفع النقود فى جيب معطفه .. ولاحظت سعاد مع كونه لم يترك راكبا فى العربة إلا وأخذ منه التبرع ولكنه ترك الرجل الذى معها عن عمد .. ولم يوجه إليه أى كلام .. ولكنه كان يلاحظها هى بنظراته القوية حتى شعرت بالخجل من نظراته وكأنه عرف لماذا تركب القطار فى صحبة هذا الرجل فاستحيت وانكمشت ..
وترك الرجل الضخم ذو العمامة هذه العربة .. ونفذ إلى العربة الأخرى ولكنه عاد .. بعد بضع دقائق .. إلى نفس العربة ومر بجوار سعاد بجسمه الضخم وقامته الفارعة .. وذقنه الطويلة ووجد مقعدا خاليا قريبا منها .. وفى الناحية الملاصقة للشباك .. فجلس عليه مسترخيا .. وقد بدا عليه التعب من الجهد الذى بذله .. ورأته بعد قليل يغمض عينيه وجعلته هزات القطار الرتيبة ينام فعلا ..
***
وكان الرجل الذى يرافق سعاد قد تعب من الخمر .. فمال برأسه على صدره .. فانتهزت سعاد هذه الفرصة وأخذت تلاحظ الرجل الآخر جامع التبرعات وقد أعجبها شكله وهندامه وقوة البريق الذى فى عينيه ورأت ورقة مالية تطل من جيب معطفة .. فاضطرب قلبها ..
وطاف برأسها خاطر سريع .. دفعته عنها بقوة ولكنه عاد يسيطر عليها ووجدت نفسها تنهض من مقعدها بخفة وتتجه إلى دورة المياه ..
ومرت بجوار الرجل عن قرب وتحققت من نومه .. ورأت الورقة المالية .. متدلية بأطرافها .. فزاد اضطرابها .. ومشت حابسة صوت أقدامها .. وهى تحدق فى كل ما حولها .. فوجدت المكان خاليا .. وهناك ثلاثة ركاب فى الناحية الأخرى من العربة .. ولا أحد بجوار الرجل النائم ..
وذهبت إلى دورة المياه سريعا ثم عادت فوجدت الرجل الضخم جامع التبرعات نائما وحده على مقعده والورقة لاتزال تطل من جيب معطفه ..
وأحست بالرهبة وبلسعة شديدة فى أطراف أناملها وهى تمد يدها سريعا وتتناول الورقة المالية وطوتها فى لمح البصر فى صدرها ..
وكانت ورقة بجنيه كامل ..
وظلت فى مكانها شاردة إلى أن أحست بالقطار يهدىء من سرعته ويقف على محطة المطرية فاندفعت بسرعة من الباب .. ونزلت من القطار إلى المحطة ..
وبعد دقيقتين ركبت القطار المضاد الذاهب إلى القاهرة ..
***
وقبل أن ينتهى الإسبوع .. سمعت سعاد من جيرانها فى البيت الحديث عن رجل سفاح نشرت صورته فى جريدة الصباح يتصيد النساء الوحيدات من الأمكنة العامة ودور السينما ويذهب بهن إلى بيته فى ضاحية عين شمس .. وبعد أن ينال منهن وطره .. يقتلهن ويدفنهن فى الرمال .. وانتفضت سعاد لما سمعت .. عين شمس .. وتطلعت إلى صورة الرجل فى الجريدة .. ولما رأتها صرخت .. انه نفس الرجل الذى صحبها .. وهربت منه فى تلك الليلة ..
***
وتزوجت سعاد .. وسكنت فى خط المرج .. وكانت فى كل مرة تركب فيها القطار .. تتمنى أن تلتقى بالرجل الضخم الذى أخذت من جيبه الجنيه .. والذى أنقذها من الموت والعار .. لترد له ما أخذته وتشكره من قلب بتول .. ولكنها لم تلتق به بعد ذلك أبدا .. وصور لها خيالها وسذاجتها أن الرجل لم يكن بشرا وانما هو ملاك هبط عليها فى تلك اللحظة من السماء ..

  رد مع اقتباس
قديم 19/08/2008   #29
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الجوع


دخلت مطعم لينج لأتغدى بعد جولة طويلة في شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع دى فو شريان المدينة الرئيسي .. واشتهر بأطباقه الشهية .
واخترت مائدة مفردة في القاعة التي تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .
وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .
وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى في النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجي كلية .
وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .
وجذب انتباهي رجل صينى في حوالي الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .
وكان الشحوب الذي يتركه الجوع على وجه الإنسان لا يزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..
وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .
وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .
وأخذ يأكل في صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .
ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .
ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى في نفس البناية .
وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك في استرخاء وعيونهن لا تزال تشعر بالحاجة إلى النوم .
ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .
وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع في عينيها .
وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .
ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .
ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .
وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند البنك لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .
وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .
فقد أراد الرجل الصينى جواب الآفاق الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .
وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .
وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .
وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .
وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .
وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .
وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .
وتسرب الخبر إلى العابرين في الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .
وتألمت لحاله .. ولكنني لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..
وخيم الوجوم على من في القاعة عندما دخل رجل البوليس .
وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التي كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين وتقول وهى تشير بيدها :
ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .
وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين في القاعة جميعا ..
وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..
وكبرت المرأة في نظري وكبرت حتى حجبت كل من في القاعة .
وأدركت يقينا وأنا أنظر في عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..
  رد مع اقتباس
قديم 25/08/2008   #30
شب و شيخ الشباب ابراهيم عثمان
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ ابراهيم عثمان
ابراهيم عثمان is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
المطرح:
عنابة
مشاركات:
2

إرسال خطاب Yahoo إلى ابراهيم عثمان
افتراضي


سعيد جدا بما قرأت لك من ابداع فصصي .. دمت متألقة وحاضرة.
  رد مع اقتباس
قديم 26/08/2008   #31
شب و شيخ الشباب فسحة أمل
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ فسحة أمل
فسحة أمل is offline
 
نورنا ب:
Sep 2007
المطرح:
فسحة أمل
مشاركات:
1,372

افتراضي


الصراحة اسا ما قريت الكل بس نسختن عالجهاز عندي.....
بس شي رائع وجميل... وأسلوب ممتع

سلاماً ... سلاماً يا وطن الخمر والعواهر والاسنان المسوسة ......
  رد مع اقتباس
قديم 30/08/2008   #32
post[field7] على عبد اللطيف
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ على عبد اللطيف
على عبد اللطيف is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
المطرح:
مصر الجديدة ـ القاهرة ـ مصر
مشاركات:
9

افتراضي


اشكر الأخت سبيرانزا على قيامها بإعطائنا نبذة من حياة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى ، وتحملها مشقة نقل بعض قصصه إلى المنتدى .. فشكرا لها ..


يبدو أن الأخت باحثة فى الأدب العربى وربما تعد رسالة عن القصة القصيرة لأن هذا التحليل لايأتى إلا من باحث .. ولكن ..


ورد فى بداية الصفحة وهى تعقب على قصصه :


" تعرض ادبه وما زال لاتهامات من الجمعيات النسائية المصرية التى ترى انه يدخل المرأة فى سياج قصصه كمعادل موضوعى للفتنة او المتعة "

وسأكون شاكرا لها لو أطلعتنى على بعض ما يحدث فى هذه الجمعيات مساعدة منها للباحثين والنقاد فى أدب محمود البدوى


مع خالص تحيات


على عبد اللطيف


القاهرة


آخر تعديل achelious يوم 06/09/2008 في 23:37. السبب: حذف رابط لمدونة شخصية..
  رد مع اقتباس
قديم 30/08/2008   #33
post[field7] على عبد اللطيف
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ على عبد اللطيف
على عبد اللطيف is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
المطرح:
مصر الجديدة ـ القاهرة ـ مصر
مشاركات:
9

افتراضي


شكرا لكل من اطلع على قصص الأديب المصرى الراحل محمود البدوى
  رد مع اقتباس
قديم 31/08/2008   #34
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


بالاول بشكر مرورك استاذ على عبد اللطيف اللى اكيد راح استغلوا ....بايجابية ,, وخصوصا انى بعرف ان حضرتك من المخلصين لادب محمود البدوى بالدويتو الجميل مع مدام ليلى
راح استغل مرورك لاطرح عليك اسئلة تخص الراحل محمود البدوى بس بجاوب عليك بالاول

اقتباس:
كاتب النص الأصلي : على عبد اللطيف عرض المشاركة
ا

" تعرض ادبه وما زال لاتهامات من الجمعيات النسائية المصرية التى ترى انه يدخل المرأة فى سياج قصصه كمعادل موضوعى للفتنة او المتعة "

وسأكون شاكرا لها لو أطلعتنى على بعض ما يحدث فى هذه الجمعيات مساعدة منها للباحثين والنقاد فى أدب محمود البدوى
اقرب هذه الجمعيات هى الجمعية التى كنت انتمى اليها وانا من لفت النظر لهذه المشكلة مشكلة معظم ادباء القرن الماضى من اوله وسطه اخره ,,,مسألة ادخال المرأة كمعادل موضوعى للمتعة او كاداة تشويقيه توسع حدقتا القارئ ليستمر فى القراءة اثر الوصفات ..المعروفة فى ادب البدوى
بالاول بقولك استاذ محمود صاحب ادب رائع ويكفى انو كان شبيه بالمجاهد فى ارساء قاعدة متينة لمجال القصة القصيرة فى مصر وسط زحام الشعر والرواية لكن هذه الريادة لا تمنعنا من ابداء الرأى
حضرتك كباحث فيك تقولى كام قصة من قصص البدوى لا تظهر فيها المرأة اما تغرر او يغرر بها او لا توصف باوصاف فتنة مبالغ فيها ...سواء المراة المصرية فى قصصه او امراة طوكيو روسيا الهند انجلترا الخ

نورتنا استاذ على وبنتظر مجيئك لاستغلك
  رد مع اقتباس
قديم 31/08/2008   #35
post[field7] على عبد اللطيف
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ على عبد اللطيف
على عبد اللطيف is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
المطرح:
مصر الجديدة ـ القاهرة ـ مصر
مشاركات:
9

افتراضي


الأستاذة الناقدة سبيرانزا

اشكرك .. ما أكثر القصص التى يظهر فيها والد زوجتى الراحل محمود البدوى .. يظهر فيها المرأة أقوى من الرجال أنفسهم لأن قصصه كان يستلها من الواقع ، وسأقوم بمشيئة الله بحصر هذه القصص ونشرها ، حتى تغير الجمعيات النسائية من نظرتها إلى أدبه ..

وقد سبق وأن اتهمه النقاد بمثل ما اتهمته به الجمعيات النسائية .. فرد عليهم قائلا :

"
قال محمود البدوى ردًا على الذين قالوا عنه إنه يكتب فى الجنس ..

" إنهم يقولون إننى أكتب عن الجنس ، هتفت هاتوا لى قصة جنسية واحدة ، لم أجد من يجيب ــ إننى لا أكتب عن الجنس ــ ولكن فى ذهنى المرأة تتحرك مع الرجل مع صراع الحياة ، فإذا زلت ، فهى تزل من قوة قهرية أكبر منها جعلتها تضطر إلى هذا . المرأة ليس من رغبتها الدعارة، إنما هو الاضطرار"(2).

و"قصصى تردد دائما أنها تبحث عن الرجل الذى لا تجد فيه صفات زوجها"(3) .


"فالمرأة والرجل يتحركان مع بعضهما ، فلم أتعمد الإثارة ، ولم أكتب عن الجنس كشىء مفرد ، إنه شىء طبيعى فى الحياة"(4) . "إننى أصور شيئا موجودًا فى حياتنا ، وموجود بقوة وعنف وهو شىء عميق وبعيد الأغوار ، وقد تظهر أشياء كثيرة فى سلوك الإنسان من الغضب والانفعال وفى أعماقها الجنس وفى ظاهرها لا يبدو الجنس"(5) .

و"أظنك تلاحظ أنى لم أصف أبدًا جسم المرأة بالتفصيل الذى يثير ، كما أنى لا أصورها عارية إطلاقا"(6) .


"الجنس تكمله للظروف المحيطة به .. جذوره أعمق مما تتصورون فى النفس البشرية"

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 

.

"ظواهره خفية ، قد تلاحظ أشياء تبدو من الوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن الجنس ، ولكنك إذا تعمقتها وبحثت وراءها ، تجد أن الجنس هو الباعث الأول لها ، وأعتقد أن الجنس أسبق من غريزة الجوع ، وأكثر تأثيرا فى النفس، وفى كثير من القصص العالمية حين يطرح على المرأة اختيار الطعام أو الجنس ، لا تتردد فى ممارسة الجنس أولاً .


ولقد بعث فرويد ثورة عظيمة منذ أوضح نظريته إلى الآن ، وقد تأثر به مئات من الكتاب فى العالم ، كما أنه ألقى ضوءًا جديدًا على التراث الأدبى كله(2) "


"لقد عالجت مئات الحالات الإنسانية الصارخة التى لم يلتفت إليها أحد .. والجنس عميق الجذور فى حياتنا ، وأنا لم أقصده لمجرد الجنس فقط .. وإنما أحاول أن أصل إلى أعماقه ، وهناك فرق بين رجل يضع يده على كاهل فرس جميلة .. وبين امرأة تفعل نفس الشىء"(3) .


"عوامل السقوط فى قصصى لها مبرراتها ، والإنسان عندما يسقط فالواقع تعمى بصيرته وتجتمع عوامل القدر والظروف والحياة بطبيعتها تحب النقاء والطهارة ، والمرأة فى قصة "الباب الآخر"(4) عندما رأت شابا فى الشباك المجاور وكانت تعرفه من قبل تصور لها فزعها ، ونتيجة الإحساس بالدنس ، أوجد عندها واجسا جعلها تعتقد أنه سيفضحها . وقد يكون الشاب لا يفكر فى هذا إطلاقا وما فكر فيه ، ثم الفزع من الدنس أيضا جعلها تعتقد أنها إذا استجابت لهذا الشاب أسكتته ، وهذا طبعا عبارة عن أعصاب مخلخلة ، أو تصور عصابى ممزق جعلها تتصور هذا ، والغرض الأسمى من كل شىء أن الحياة طاهرة ونقية ، وعندما ندنسها لابد أن ندفع الثمن

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 

".

ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ



- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 

(2) م. الصياد 28/11/1974 .
(3) م. آخر ساعة 21/1/1976 . (4) مجموعة الباب الآخر 1977
ــ الهيئة المصرية العامة للكتاب م. الهلال العدد 4 ــ أبريل 1976 .

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 

(2) ص. الأخبار 2/6/1982 .
(3) م. فصول ــ المجلد الثانى ــ العدد الرابع يوليه وأغسطس وسبتمبر 1982 .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

" ص 93 من كتاب محمود البدوى والقصة القصيرة ـ اعداد على عبد اللطيف ـ وتم نشره بالكامل فى المكتبة الإلكترونية المصرية

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـ
  رد مع اقتباس
قديم 31/08/2008   #36
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


بشكرك ع الرد


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : على عبد اللطيف عرض المشاركة
ا
لأن قصصه كان يستلها من الواقع ،

يمكن فى الجملة دى بتكمن الجدلية ,, ان استاذ محمود البدوى كان من انصار لوكاتش والمنهج الاجتماعى فى الادب اللى بيستلهم من الواقع اكتر من استلهامه حلول مثالية ,,,اسمحلى انا بعتبر هذه المسألة ثغرة فى هذا المنهج
يعنى مثلا الواقع فيه سيئات يتعب منها الحصر لكن فى مرجعية ثقافية للمبدع لطرح منهج تغييرى ولو بفكرة جوه عمل او قصة ضمن مجموعة قصصية ( انا بتكلم ع المرأة ) باقى موضوعات طرحه تقريبا ما عليها غبار

فى كل قصص البدوى المرأة هى الجسد اللى ممكن يوقع الرجل او يوقعه الرجل ...حتى فى قصص الجهاد فى بورسعيد كانت المرأة هى المخدع للرجل الغريب وقت اطفاء الانوار وقت الغارة
بعدها يخرج الرجل للقتال والمراة لالمام ملابسها
مع ان الواقع فى هذا الوقت كان يعرض نماذج عكس ذلك....نماذج المراة المجاهدة وليست الغاوية وحسب

وبمناسبة هذه الجملة (( إنهم يقولون إننى أكتب عن الجنس ، هتفت هاتوا لى قصة جنسية واحدة ، لم أجد من يجيب ــ إننى لا أكتب عن الجنس ــ ولكن فى ذهنى المرأة تتحرك مع الرجل مع صراع الحياة ، فإذا زلت ، فهى تزل من قوة قهرية أكبر منها جعلتها تضطر إلى هذا . المرأة ليس من رغبتها الدعارة، إنما هو الاضطرار))

انا لم اتطرق لمسألة الجنس انما للتوظيف السلبى من كافة كتاب هذه المرحلة ...للمراة

وبرغم اى شئ ....أ\ محمود البدوى من الكتاب القليلين اللى بيملكوا فلسفة قوية اثناء الكتابة
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 02:46 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.62395 seconds with 14 queries