أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > المكتبة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10/06/2006   #91
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في قابلية الإنسان جميع الأخلاق

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله- جل ثناؤه- لما أراد أن يجعل في الأرض خليفة له من البشر ليكون العالم السفلي الذي هودون فلك القمر عامراً بكون الناس فيه، مملوءاً من المصنوعات العجيبة على أيديهم، محفوظاً على النظام والترتيب بالسياسات الناموسية والملكوتية والفلسفية والعامية والخاصية جميعاً، ليكون العالم باقياً على أتم حالاته وأكمل غاياته، كما ذكر في السفر الرابع من صحف هرمس وهوإدريس النبي- عليه السلام- وذكرناه في الرسالة الجامعة، وأشرنا إليه في رسائلنا، وكما سنبين في هذه الرسالة، فبدأ أولاً ربنا تعالى فبنى لخليفته هيكلاً من التراب عجيب البنية، ظريف الخلقة، مختلف الأعضاء، كثير القوى، ثم ركبها وصورها في أحسن صورة من سائر الحيوانات، ليكون بها مفضلاً عليها، مالكاً لها، متصرفاً فيها كيف يشاء؛ ثم نفخ فيه من روحه، فقرن ذلك الجسد الترابي بنفس روحانية من أفضل النفوس الحيوانية وأشرفها، ليكون بها متحركاً حساساً دراكاً علاماً فاعلاً ما يشاء؛ ثم أيد نفسه بقوى روحانية سائر الكواكب في الفلك، ليكون متهيئاً له بها، وممكناً له قبول جميع سائر الأخلاق، وتعلم جميع العلوم والآداب والرياضيات والمعارف والسياسات، كما مكنه وهيأ له بأعضاء بدنه المختلفة الأشكال والهيئات تعاطي جميع الصنائع البشرية، والأفعال الإنسانية، والأعمال الملكية.

وذلك أنه قد جمع في بنية هيكله جميع أخلاط الأركان الأربعة، وكل المزاجات التسعة في غاية الاعتدال، ليكون بها متهيئاً وقابلاً لجميع أخلاق الحيوانات، وخواص طباعها؛ كل ذلك كيما يسهل عليه ويتهيأ له إظهار جميع الأفعال، والصنائع العجيبة، والأعمال المتقنة المختلفة، والسياسات المحكمة، إذ كان إظهارها كلها بعضوواحد وأداة واحدة وخلق واحد ومزاج واحد يتعذر على الإنسان، كما بينا في رسالة الصنائع البشرية. والغرض من هذه كلها هوأن يتمكن للإنسان ويتهيأ له التشبه بإلهه وباريه الذي هوخليفته في أرضه، وعامر عالمه، ومالك ما فيه، وسائس حيوانها؛ ومربي نباتها، ومستخرج معادنها، ومتحكم ومتسلط على ما فيها، ليدبرها تدبيرات سياسية، ويسوسها سياسة ربوبية، كما رسم له الوصايا الناموسية والرياضات الفلسفية؛ كل ذلك كيما تصير نفسه بهذه العناية والسياسة والتدبير ملكاً من الملائكة المقربين، فينال بذلك الخلود في النعيم إبد الآبدين ودهر الداهرين، كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى:" يا بن آدم خلقتك للأبد، وأنا حي لا أموت؛ أطعني فيما أمرتك به، وأنته عما نهيتك عنه، أجعلك حياً لا تموت أبداً، يا بن آدم أنا قادر على أن أقول للشيء كن فيكون؛ أطعني فيما أمرتك به، وأنته عما نهيتك عنه، أجعلك قادراً على أن تقول للشيء كن فيكون."وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما المراد من وجود الأخلاق المختلفة في جبلة الإنسان وطبيعته، فنريد أن نذكر العلل والأسباب التي بها ومن أجلها تختلف أخلاق البشر وسجاياهم: كم هي، وما هي، وكيف هي، إذ قد تبين، فيما تقدم، لم هي.
فصل في وجوه اختلاف الأخلاق أعلم يا أخي أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربعة وجوه، أحدها من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة تربة بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأستاذيهم ومن يربيهم ويؤدبهم؛ والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم، ومساقط نطفهم، وهي الأصل وباقيها فروع عليه.
ونحتاج إلى شرح هذا الباب ليتبين صدق ما قلنا، وحقيقة ما وصفنا، ونبدأ أولاً بذكر العلل والأسباب التي تكون من جهة أخلاط الجسد وتغيرات أمزجتها من الاعتدال والزيادة والنقصان، وما يتبعها من الخلاق والسجايا المختلفة المتضادة.
فصل في اختلاف الأخلاق من جهة الخلاط أعلم يا أخي بأن المحروري الطباع من الناس وخاصة مزاج القلب يكونون على الأمر الأكثر شجعان القلوب، أسخياء النفوس، متهورين في الأمور المخوفة، قليلي الثبات والتأني في الأمور، مستعجلي الحركة، شديدي الغضب، سريعي المراجعة، قليلي الحقد، أذكياء النفوس، حادي الخواطر، جيدي التصور؛ والمبرودين في الأمر الأكثر يكونون بليدي الذهن في أكثر الطباع، ثقيلي الأرواح، غير نضيجي الأخلاق؛ والمرطوبين يكونون في أكثر الأمر ذوي طباع بليدة وقلة ثبات في الأمور، ليني الجانب، سمحاء النفوس، طيبي الأخلاق، سهلي القبول، سريعي النسيان، مع كثرة تهور في الأمور الطبيعية؛ واليابسي المزاج يكونون في أكثر الأمور صابرين في الأعمال، ثابتي الرأي، عسري القبول، الغالب عليهم الصبر والحقد والبخل والإمساك والحفظ.

عندما تتأجج نار التحششيش .. تنأى الحشائش بالحشيش الحشحشش ..
وحشيشة التحشيش .. عمر أحشش ..
حش الحشائش في حشيش محشش ..
حشاش يا أخا الحشيش ..
حشش على تحشيش محششنا القديم ..
سوريا الله حاميا
jesus i trust in you
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #92
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في خلق آدم- عليه السلام-

كما وجد في بعض كتب بني إسرائيل

وجد في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل من صفة خلقة آدم وتكوين جسده، أن الله- عز وجل- حين ابتدعه واخترعه قال:" أني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده وذريته تنشأ في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: ركبت جسده من رطب ويابس، وحار وبارد، وذلك أني خلقته من تراب وماء، ثم نفخت فيه نفساً وروحاً، فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من النفس، وبرودته من الروح. ثم جعلت في الجسد بعد هذا أربعة انواع أخر، هن ملاك أمور الجسد، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة منهن إلا بالأخرى، فمنهن المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم، والبلغم، ثم أسكنت بعضها في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، والحرارة في المرة الصفراء، والرطوبة في الدم، والبرودة في البلغم. فأيما جسد اعتدلت فيه ههذه الأربعة الأخلاط التي جعلتها ملاكه وقوامه، وكانت كل واحدة منهن ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته؛ وإن زادت واحدة منهن على إخوانها وقهرتهن ومالت بهن، دخل السقم على الجسد من ناحيتها، بقدر ما زادت؛ وإذا كانت ناقصة ضعفت طاقتها عن مقاومتها فغلبنها ودخل السقم على الجسد من نواحيهن بقدر قلتها عنهن وضعف طاقتها عن مقاومتهن.
" ثم علمته الطب وكيفية الدواء، وكيف يزيد في الناقص، أوينقص في الزائد، حتى يعتدل ويستقيم أمر الجسد؛ فالطبيب الماهر العالم بالداء والدواء هوالذي يعرف من أين دخل السقم على الجسد من الزيادة والنقان، ويعلم الدواء الذي يعالج به، فيزيد في ناقصها، وينقص من زائدها، حتى يستقيم أمر الجسد على فطرته، ويعتدل الشيء بأقرانه.
" ثم صيرت هذه الأخلاط التي ركبت عليها الجسد فطراً وأصولاً عليها تبنى أخلاق بني آدم، وبها توصف، فمن التراب العزم، ومن الماء اللين، ومن الحرارة الحدة، ومن البرودة الأناة. فإن مالت به اليبوسة وأفرطت، كانت عزمته قساوة وفظاظة؛ وإن مالت به الرطوبة، كان لينه توانياً ومهانة؛ وإن مالت به الحرارة، كانت حدته طيشاً وسفاهة؛ وإن مالت به البرودة، كانت أناته ريثاً وبلادة؛ وإن اعتدلت وكن سواءً، اعتدلت أخلاقه واستقام أمره، وكان عازماً في أناته، ليناً في عزمه، هادئاً في لينه، متأنياً في حدته، لا يغلبه خلق من أخلاقه، ولا تميل به طبيعة من أخلاطه عن المقدار المعتدل، من أيها شاء استكثر، ومن أيها شاء قلل، وكيف شاء عدل.
" ثم نفخت فيه من روحي وقرنت بجدسه نفساً وروحاً: فبالنفس يسمع ابن آدم ويبصر ويشم ويذوق ويلمس ويحس ويأكل ويشرب وينام ويقعد ويضحك ويبكي ويفرح ويحزن؛ وبالروح يعقل ويفهم ويدري ويتعلم ويستحي ويحلم ويحذر ويتقدم ويمنع ويتكرم ويقف ويهجم؛ فمن النفس تكون حدته وخفته وشهوته ولعبه ولهوه وضحكه وسفهه وخداعه ومكره وعنفه وخرقه؛ ومن الروح يكون حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وتكرمه وحذقه وصدقه ورفقه وصبره، فإذا خاف ذواللب أن يغلب عليه خلق من أخلاق النفس، قابله بضده من أخلاق الروح، وألزمه إياه فيعدله به ويقومه، فيقابل الحدة بالحلم، والخفة بالوقار، والشهوة بالعفاف، واللعب بالحياء، واللهوبالبهاء، والضحك بالهم، والسفه بالكرم، والخداع بالشجاعة، والكذب بالصدق، والعنف بالرفق، والنزق بالصير، والخرق بالأناة، إذ كل مرض يعالج بضده. ومن التراب تكون قساوته وبخله وفظاظته وشحه ويأسه وقنوطه وعزمه وإصراره؛ ومن الماء يكون لينه وسهولته واسترساله ومعروفه وتكرمه وسماحته وقوته وقربه وقبوله ورجاؤه واستبشاره. فإذا خاف ذواللب أن يغلب عليه خلق من أخلاقه الترابية، قابله بضده من الأخلاق المائية، وألزمه إياه ليعدله ويقومه، فيقابل القسوة باللين، والبخل بالعطاء، والفظاظة بالبشر، والشح بالكرم، واليأس بالرجاء، والقنوط بالاستبشار، والعزم بالقبول، والإصرار بالعدل."

وأعلم يا أخي بأن لكل خلق من الأخلاق أخوات مشاكلات، ولهن أضداد مخالفات، ولهن كلهن أفعال متباينات متضادات تحتاج إلى شرح لتبين وتعرف، لأن هذا الباب من العلوم الشريفة والمعارف اللطيفة، إذ كان من هذا الفن تعرف أخلاق الكرام من بني آدم، وأخلاق الملائكة الذين هم سكان الجنان، كما ذكر الله تعالى فقال:" كراماً كاتبين" و" كرام بررة" ومن هذا الباب تعرف أيضاً أخلاق الشياطين الذين هم أهل النيران كما ذكر الله تعالى بقوله:" كلما دخلت أمة لعنت أختها. وقالوا: لا مرحباً بهم، إنهم صالوالنار" وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من الأسباب المؤدية إلى اختلاف أخلاق الإنسان من جهة مزاج أخلاط جسده، فنريد أيضاً أن نذكر طرفاً من الأسباب التي تكون من جهة اختلاف تربة البلاد، وتغييرات أهويتها المؤدية إلى اختلاف الأخلاق.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #93
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في تأثير طبيعة البلدان في الأخلاق

وأعلم يا أخي بأن ترب البلاد والمدن والقرى تختلف، وأهويتها تتغير من جهات عدة، فمنها كونها في ناحية الجنوب، أوالشمال، أوالشرق، أوالغرب، أوعلى رؤوس الجبال، أوفي بطون الأودية والأغوار، أوعلى سواحل البحار، أوشطوط الأنهار، أوفي البراري والقفار، أوفي الآجام والدحال؛ والأرض ذات الرملة والأرضين السباخ؛ السهلة، أوفي البقاع الصخرية والحجارة والحصى والرمال، أوفي الأرضين السهلة والتربة اللينة بين الأنهار والأشجار والزروع والبساتين والزهر والنور. وأيضاً فإن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها؛ وبحسب مطالع البروج عليها، ومطارح شعاعات الكواكب عليها من أفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط؛ واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضاً، بل تنفرد كل أمة منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها.
مثال ذلك أن الذين يولدون في البلاد الحارة ويتربون هناك، وينشأون على ذلك الهواء، فإن الغالب على باطن أمزجة أبدانهم البرودة؛ وهكذا أيضاً الذين يولدون في البلدان الباردة، ويتربون هناك، وينشأون على ذلك الهواء، يكون الغالب على باطن أمزجة أبدانهم الحرارة، لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا يجتمعان في حال واحدة، في موضع واحد، ولكن إذا ظهر أحدهما، استبطن الآخر واستجن؛ ليكونا موجودين في دائم الأوقات، إذ كانت المكونات لا وجود لها ولا قوام إلا بهما. والدليل على ما قلنا أن مزاج أبدان أهل البلدان الجنوبية من الحبشة والزنج والنزبة وأهل السند وأهل الهند، فإنه لما كان الغالب على أهوية بلادهم الحرارة بمرور الشمس على سمت تلك البلاد في السنة مرتين، سخنت أهويتها، فحمي الجو، فاحترقت ظواهر أبدانهم، واسودت جلودهم، وتجعدت شعورهم لذلك السبب، وبردت بواطن أبدانهم، وأبيضت عظامهم وأسنانهم، واتسعت عيونهم ومناخرهم وأفواههم بذلك السبب. وبالعكس في هذا حال أهل البلدان الشمالية، وعلتها أن الشمس لما بعدت من سمت تلك البلاد، وصارت لا تمر عليها لا شتاءً وصيفاً، غلب على أهويتها البرد، وأبيضت لذلك جلودهم، وترطبت أبدانهم، واحمرت عظامهم واسنانهم، وكثرت الشجاعة والفروسة فيهم، وسبطت شعورهم، وضاقت عيونهم، واستجنت الحرارة في بواطن أبدانهم لذلك السبب. وعلى هذا القياس توجد صفات أهل البلدان المتضادة بالطباع والأهوية، يكونون مختلفين في الطباع والأخلاق في أكثر الأمر وأعم الحالات.
وإذ قد تبين ذكرنا طرف من تغير أخلاق الناس من جهة اختلاف ترب البلاد، وتغير أهويتها، فنريد أن نذكر طرفاً من أسباب موجبات أحكام النجوم فنقول: إن الذين يولدون بالبروج النارية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب النارية مثل المريخ وقلب الأسد وما شاكلهما من الكواكب، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الحرارة وقوة الصفراء؛ والذين يولدون بالبروج المائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب المائية مثل الزهرة والشعرى اليمانية، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم يكون الرطوبة والبلغم، وهكذا الذين يولدون بالبروج الترابية في الأوقات التي يكون المستولي عليها زحل وما شاكله من الكواكب الثابتة، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم اليبوسة والمرة السوداء؛ وهكذا الذين يولدون بالبروج الهوائية في الوقات التي يكون المستولي عليها المشتري وما شاكله من الكواكب الثابتة، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الدم والاعتدال، يعرف حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أهل الصناعات والتجارب.
وإذ قد تبين بما قلنا وذكرنا ما الأسباب والعلل الموجبة لوجود الأخلاق المركوزة في الجبلة، فنريد أن نبين ما الأخلاق المركوزة في الجبلة، وما المكتسبة بالعادة الجارية منها، وما الغرض في ذلك، وما الفرق بينهما، يعني الأخلاق المكتسبة والمركوزة.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #94
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في ماهية الأخلاق

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الأخلاق المركوزة في الجبلة هي تهيؤ ما في كل عضومن أعضاء الجسد يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال، أوعمل من الأعمال، أوصناعة من الصنائع، أوتعلم علم من العلوم، أوأدب من الآداب، أوسياسة من غير فكر ولا روية، مثال ذلك أنه متى كان الإنسان مطوعاً على الشجاعة فإنه يسهل عليه الإقدام على الأمور المخوفة من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان مطبوعاً على السخاء يسهل عليه بذل العطية من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان الإنسان مطبوعاً على العفة، سهل عليه اجتناب المحظورات المحرمات من غير فكر ولا روية؛ وهكذا من كان مطبوعاً على الاعتدال، سهل عليه الحكومة في الخصومات، والعدل والنصفة في المعاملات، وعلى هذا المثال والقياس سائر الأخلاق والسجايا المطبوعة في الجبلة المركوزة فيها، إنما جعلت لكيما يسهل على النفس إظهار أفعالها وعلومها وصنائعها وسياساتها وتدبيرها بلا فكر ولا روية.
وأما من كان مطبوعاً على الضد من ذلك فهو يحتاج عند استعمال هذه الخصال، وإظهار هذه الأفعال، إلى فكر وروية واجتهاد شديد، وكلفة، ولا يفعل الإنسان هذه الأمور إلا بعد أمر ونهي، ووعد ووعيد، ومدح وذم، وترغيب وترهيب. وعلى هذا المثال يكون كل حكم في الطبع خلافه، يحتاج صاحبه إلى أمر ونهي وفكر واجتهاد ورغبة. وبهذه العلة وردت أكثر أوامر الناموس ونواهيه؛ ولهذا السبب كان وعده ووعيده وترغيبه وترهيبه.ولوكان الإنسان الواحد مطبوعاً على جميع الأخلاق، لما كان عليه كلفة في إظهار كل الفعال وجميع الصنائع، ولكن الإنسان المطلق الكلي هوالمطبوع على قبول جميع الأخلاق، وإظهار جميع الصنائع والأعمال، لا الإنسان الجزئي.
وأعلم بأن كل الناس أشخاص لهذا الإنسان المطلق، وهوالذي أشرنا إليه أنه خليفة الله في أرضه منذ يوم خلق آدم أبوالبشر إلى يوم القيامة الكبرى، وهي النفس الكلية الإنسانية الموجودة في كل أشخاص الناس، كما ذكر- جل ثناؤه- بقوله:" ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" كما بينا في رسالة البعث.
وأعلم يا أخي- أيدك الله بروح منه- بأن هذا الإنسان المطلق الذي قلنا هوخليفة الله في أرضه، وهومطبوع على قبول جميع الأخلاق البشرية، وجميع العلوم الإنسانية والصنائع الحكمية، هوموجود في كل وقت وزمان، ومع كل شخص من أشخاص البشر، تظهر منه أفعاله وعلومه وأخلاقه وصنائعه، ولكن من الأشخاص من هوأشد تهيؤاً لقبول علم من العلوم، أوصناعة من الصنائع، أوخلق من الأخلاق، أوعمل من الأعمال؛ والإظهار بحسب ذلك يكون.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #95
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


مطلب في التربية

وأعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها، تقوي الأخلاق المشاكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها، والدرس لها، والمذاكرة فيها، يقوي الحذق بها والرسوخ فيها؛ وهكذا المداومة على استعمال الصنائع، والدؤوب فيها يقوي الحذق والأستاذية فيها؛ وهكذا جميع الأخلاق والسجايا. والمثال في ذلك أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح، وتربوا معهم، تطبعوا بأخلاقهم، وصاروا مثلهم؛ وهكذا أيضاً كثير من الصبيان إذا نشأوا مع النساء والمخانيث والمعيوبين، وتربوا معهم، تطبعوا بأخلاقهم، وصاروا مثلهم، إن لم يكن في كل الخلق ففي بعض. وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي يتطبع عليها الصبيان منذ الصغر، إما بأخلاق الآباء والأمهات، أوالأخوة والأخوات والأتراب والأصدقاء والمعلمين والأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم. وعلى هذا القياس حكم الآراء والمذاهب والديانات جميعاً.

فصل أعلم يا أخي بأن

من الناس من يكون اعتقاده تابعاً لأخلاقه

ومنهم من تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده، وذلك أن من يكون مطبوعاً على طبيعة مريخية فإنه تميل نفسه إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها التعصب والجدال والخصومات أكثر، وهكذا أيضاً من يكون مطبوعاً طبيعة مشترية، فإنه تكون نفسه مائلة إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها الزهد والورع واللين أكثر. وعلى هذا القياس توجد آراء الناس ومذاهبهم تابعة لأخلاقهم، وأما الذي تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده فهو الذي إذا اعتقد رأياً أومذهباً وتصوره وتحقق به، صارت أخلاقه وسجاياه مشاكلة لمذهبه واعتقاده، لأنه يصرف أكثر همه وعنايته إلى نصرة مذهبه، وتحقيق اعتقاده في جميع متصرفاته، فيصير ذلك خلقاً له وسجية وعادة يصعب إقلاعه عنها وتركه لها.
وعلى هذا الجنس من الأخلاق تقع المجازاة من المدح والذم والثواب والعقاب والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، لأنه اكتساب من صاحبه وفعل له، والمثال في ذلك ما جاء في الخبر أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكباً على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفهاً، واليهودي كان ماشياً ليس معه زاد ولا نفقة. فبينما هما يتحدثان، إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك واعتقادك، يا خوشاك، قال اليهودي: اعتقادي أن هذه السماء إلهاً هوإله بني إسرائيل وأنا أعبده. وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق، وطول العمر، وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصرة على الأعداء؛ أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته اونصيحته أومعاونته اوالرحمة أوالشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني، يا مغا، أنت ايضاً عن مذهبك واعتقادك. قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم؛ ولا أريد لأحد من الخلق سوءاً، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك، قال: نعم، لأني أعلم أن في هذه السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عادلاً حكيماً عليماً لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهويجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين على اساءتهم. فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي: وكيف ذلك، قال: لأني من أبناس جنسك، وأنت تراني أمشي متعوباً جائعاً، وأنت راكب شبعان مترفه. قال: صدقت، وماذا تريد، قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت. فنزل المجوسي عن بغلته، وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان. فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت. فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وخبرتني عن مذهبك، ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضاً أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي؛ وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول: ويحك، يا خوشاك، قف لي قليلاً واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وارحمني كما رحمتك. وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه، ولا يلوي عليه، حتى مضى وغاب عن بصره.
فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك، تذكر تمام اعتقاده، وما وصف له بأن في السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي، قد علمت إني قد اعتقدت مذهباً ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت. فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها. فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت. فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تعقل ما وصفت لك. فقال اليهودي: وكيف ذلك، فقال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك أن في هذه السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه خافية، وهويجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت. فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك، فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة، يصعب علي تركها والإقلاع عنها. فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسوراً. وحدث الناس بقصته وحديثه معه، فجعلوا يتعجبون. فقال بعض الناس للمجوسي: كيف حملته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه، قال المجوسي: اعتذر إلى وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدؤوب فيه وجريان العادة به، يصعب الإقلاع عنها والترك لها، وأنا أيضاً قد اعتقدت رأياً وسلكت مذهباً صار لي عادة وجبلة، فيصعب الإقلاع عنها والترك لها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن العلل الموجبة لاختلاف أخلاق النفوس، والأسباب المؤدية إليها أربعة أنواع حسب، كما قلنا في أول الرسالة، فنقول الآن إن الأخلاق كلها نوعان، إما مطبوعة في جبلة النفوس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة الاستعمال؛ ومن وجه آخر أيضاً إن الأخلاق نوعان، منها ما هي أصول وقوانين، ومنها ما هي فروع وتابعة لها، فنحتاج ان نبينها ونفصلها ليعرف بعضها من بعض، إذ كان هذا الفن من المعرفة من العلوم الشريفة النافعة جداً، وخاصة لمن له عناية برياضة النفس وتهذيبها وإصلاح أخلاقها، إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأسباب المنجية لها من الهلكة، المفصلة بعضها من بعض، كما بينا في رسالة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #96
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في مراتب الأنفس

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الباري- جل ثناؤه- لما أبدع النفوس واخترعها وأبرز المستكن والمستجن من الكائنات، رتبها ونظمها كمراتب الأعداد المفردات، كما ذكر تعالى بقوله حكاية عن الملائكة قولهم:" وما منا إلا له مقام معلوم، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون".
وأعلم يا أخي بأن أعداد النفوس كثيرة لا يحصيها إلا الله- جل ثناؤه- كما قال:" وما يعلم جنود ربك إلا هو" ولكن نحتاج أن نذكر طرفاً من مراتبها ومقاماتها الجنسية، إذ كانت الأنواع والأشخاص لا يمكن تعديدها ولا يعلمها إلا هو.
وأعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها؛ فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضاً، وجملتها خمس عشرة مرتبة. والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها، خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية، ويعلم صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، الناظرون في علم النفس من الحكماء والفلاسفة وكثير من الأطباء.
وأما الرتبتان اللتان فوق رتبة الإنسانية فهي مرتبة الحكمة وفوقها الناموسية؛ وأما مرتبة الإنسانية فهي التي ذكرها الله تعالى بقوله:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" وأما التي فوق هذه فما أشار إليه بقوله:" ولما بلغ أشده واستوى" يعني الإنسان" آتيناه حكماً وعلماً؛" وقال أيضاً: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" يعني الإنسان احيينا نفسه بنور الهداية، وهذه هي مرتبة نفوس المؤمنين العارفين والعلماء الراسخين.
فأما التي فوقها فمرتبة النفوس النبوية الواضعين النواميس الإلهية، وإليها أشار بقوله- جل ثناؤه-:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وهذه المرتبة تلي مرتبة القدسية الملكية. فقد تبين بما ذكرنا، المراتب الخمس التي يمكن الإنسان أن يعلمها ويحس بها. فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما أردنا أن نقدمه فنقول الآن ونخبر بكل ما يخص كل نوع من هذه النفوس الخمس من المعونة والتأييد.
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الله- جل ثناؤه- لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها في رسالة" الإنسان عالم صغير" أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات: كل ذلك جود منه ولطف بها، وأنعام منه عليها، وإفضال وإحسان غليها، وإكرام لها، وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبة ما، أمدها بزيادة فضلاً منه وجوداً، أونقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم: كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها، وإذ تبين بما ذكرنا، مراتب النفوس الخمس، وما الفائدة والحكمة في رباطها بالأجسام، فنريد أن نذكر ما يخص كل نوع منها من المعاونة والتأييد، وهي القوى الطبيعية، والأخلاق المركوزة، والهياكل الجسمانية، والأدوات الجسدانية، والشعورات الحسية، والأوهام الفكرية، والحركات المكانية، والأفعال الإرادية، والأعمال الاختيارية، والصنائع الحكمية، والأوضاع الناموسية، والسياسات الملكوتية؛ ونبدأ بذكر الشهوات المركوزة في الجبلة والقوى الطبيعية المعينة لها، إذ كانت هي الأصل والقانون في جميع القوى والأخلاق والخصال والأفعال والحركات والحس والشعور بها ومن أجلها، كما سنبين بعد.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #97
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل

وأعلم يا أخي بأن من الأخلاق والقوى

ما هي منسوبة إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنها ما هي منسوبة إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الناموسية الملكية.
فأما المنسوبة إلى النفس الشهوانية من الخصال والقوى التي تخصها، فأولها شهوة الغذاء، وهي النزوع والشوق نحوالمأكولات والمشروبات والمشتهيات، والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال المشقة والذل من أجلها، والفرح والسرور بوجدانها، والراحة واللذة في تناولها، والملل والشبع عند الاستكفاء منها، والنفور من الضار منها والبغض له، ومن القوى المختصة بها أيضاً القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة؛ومن الشعور والتمييز معرفة الجهات الست، ومن الأفعال إرسال العروق نحوالجهات الندية والتراب اللين، وتوجيه الفروع والقضبان إلى الجهات المتسعة، والميل والانحراف عن الأمكنة الضيقة والأجسام المؤذية.
كل هذه الخصال مركوزة في الجبلة من غير فكر ولا روية، وكل ذلك معاونة من الطبيعة لنفوسها وتأييد لها بإذن باريها- جل ثناؤه- على طلب مشتهياتها والوصول إلى منافعها، والفرار من المضرة، إذ كانت تلك المشتهيات هي غذاء لأجسامها، ومادة لقوامها وسبباً لبقائها كلها، إذ كان في بقائها كلها تتميم لمعارفها وتكميل لفضائلها؛ وفي تتميم معارفها وتكميل فضائلها ترق لها إلى أفضل حالاتها وأشرف نهاياتها.
وأما المنسوبة إلى النفس الحيوانة المختصة بها من الخصال المركوزة في الجبلة زيادة على ما تقدم فهي شهوة الجماع، وشهوة الانتقام، وشهوة الرياسة، ولها أيضاً الهياكل اللحمية، والأعضاء المختلفة للأغراض العجيبة، والمفاصل اللينة للحركات المكانية والتنقل في الجهات الست لمآرب ومنافع كثيرة؛ ولها الشعور بالحواس المخصوصة والأصوات المختلفة لدلالات متبانية، ولها أيضاً الوهم والتخيل للمطالب والمنافع، والحفظ والذكر لعرفان أبناء الجنس والمخالف، وإمكان الاحتراس من المضار، والنفور والفرار من العدو: كل هذه مركوزة في جبلة الحيوانات القريبة النسبة إلى الإنسان. فأما علة شهوة الجماع المركوزة في جبلتها فهي من أجل التناسل، والتناسل هومن أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة، إذ كانت الهيولى دائمة في السيلان لا تقف طرفة عين. وأما علة شهوة الانتقام المركوزة في جبلتها فهي من أجل دفع المضرات المفسدات لهياكلها المتشخصة وأعلم يا أخي بأن دفع المضار تارة يكون بالقهر والغلبة، وتارة يكون بالهرب والفرار، وتارة بالتحرز والتحصن، وتارة بالمكر والحيلة، كما قد شرحنا ذلك في رسالة الحيوانات. وأما شهوة الرياسة المركوزة في جبلتها فهي من أجل تأكيد السياسة، إذ كانت السياسة لا تتم إلا بعد وجدان الرياسة.
وأعلم يا أخي بأن المراد من السياسة هوصلاح الموجودات وبقاؤها على أفضل الحالات وأتم الغايات كما سنبين في فصل آخر.
وأما المنسوبة إلى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره، فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها، وشهوة الصنائع والأعمال والحذق فيها والافتخار بها، وشهوة العز والرفعة والترقي في غايات نهاياتها، والشوق إليها والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال الذل والمشقة من أجلها، والفرح والسرور من وجدانها، واللذة والراحة عند الوصول إليها، والغم والحزن من فقدانها.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #98
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في اختلاف مناهج النفوس

وأعلم يا أخي بأن هذه الخصال مركوزة في جبلة الإنسان، ولكن تختلف اختيارات كل واحد لها حسب ما تيسر له وتتأكد أسبابه، وذلك أن من الناس من تيسر له أسباب الصنائع والحرف، وآخر أسباب العلوم والآداب، وآخر تيسر ه أسباب العمل والتصرف، وآخر أسباب التجارات والبيع والشراء، وآخر أسباب الملك والسلطان، وآخر أسباب البطالة والفراغ، وآخر أسباب الحكم والمعارف كما سنبينه بعد هذا الفصل. ومما أعطيت النفس الناطقة من نعم الله تعالى وخصت به من إحسانه، من بين نفوس سائر الحيوانات، وأعينت به على البلوغ إلى أقصى مدى غاياتها، وأيدت للوصول إلى تمام نهاياتها، وهذا الهيكل العجيب البنية، المحكم الصورة، المتقن الصنعة الذي قد عجزت الحكماء عن كنه معرفته، وتركيب بنيته من غرائب الصنعة مما قد وصف طرف منه في كتاب منافع الأعضاء وكتاب التشريح من كيفية انتصاب قامته من بين سائر الحيوانات، وما خص به أيضاً من فصاحة لسانه وغرائب لغاته وفنون أقاويله وحسن بيانه من بين سائرها، وما خص به أيضاً من طريف شكل يديه، وما يتأتى له بهما من الصنائع المحكمة والأعمال المتقنة من بين سائرها، وما خص به أيضاً من طرائف أدوات حواسه وغرائب طرقات إدراكها للمحسوسات، كما وصفنا في رسالة الحاس والمحسوس.
ومما خصت به أيضاً النفس الناطقة الإنسانية من نعم الله تعالى وإحسانه العقل الغريزي وكثرة أعوانه وجنوده وخصاله المحمودة، كما سنبين بعد، وأما التي تنسب من الخصال المحمودة إلى النفس الحكمية فشهوة العلوم والمعارف وما أعينت به على طلبها وإدراكها والوصول إليها من الخصال المركوزة والقوى المجبولة: كالذهن الصافي والفهم الجيد وذكاء النفس، وصفاء القلب وحدة الفؤاد، وسرعة الخاطر، وقوة التخيل وجودة التصور، والفكر والروية والتأمل والاعتبار، والنظر والاستبصار، والحفظ والتذكار، ومعرفة الروايات والأخبار، ووضع القياسات واستخراج النتائج بالمقدمات، والتكهن والقيافة والفراسة، وقبول الوحي والإلهام، ورؤية المنامات والإنذار بالكائنات بعلم النجوم والزجر: كل ذلك معاونة لها وتأييد إلى البلوغ إلى الغاية والوصول إليها. وأما التي تنسب إلى النفس الملكية القدسية فهي شهوة القرب إلى ربها والزلفى لديه، وقبول الفيض منه، وإفاضة الجود على من دونها من أبناء جنسها، كما ذكر الله تعالى بقوله:" يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب"، وقوله سبحانه:" يستغفرون لمن في الأرض"، وقوله:" فأغفر للذين تابوا"، وقال:" كراماً كاتبين" الآية. فهذا تفصيل جملة ما ينسب إلى كل جنس من النفوس، والمخصوص بها من الشهوات المركوزة فيها، فأما التي تعمها كلها فشهوة البقاء على أتم الحالات وأكمل الغايات وكراهية الفناء والنقص عن الحال الأفضل والكمل.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #99
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل

وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-

بأنك أن أنعمت النظر فيما وصفنا، وتأملت ما ذكرنا، وجودت البحث عن مبادئ الكائنات وعلة الموجودات، علمت وتيقنت أن هاتين الحالتين، أعني شهوة البقاء وكراهية الفناء، أصل وقانون لجميع شهوات النفوس المركوزة في جبلتها وإن تلك الشهوات المركوزة في جبلتها أصول وقوانين لجميع أخلاقها وسجاياها، وتلك الأخلاق أصول وقوانين لجميع أفعالها وصنائعها ومعارفها ومتصرفاتها كما سنبين في هذه الفصول.
وإنما صارت هاتان الحالتان مركوزتين في جبلة كل الموجودات، وجميع الكائنات، من أجل أن الباري- جل ثناؤه- لما كان هوعلى الموجودات وسبب الكائنات ومبدعها ومخترعها وموجدها ومبقيها ومتممها ومكملها ومبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وأفضا حالاتها، وكان- جل ثناؤه- دائم البقاء لا يعرض له شيء من الفناء، صار من أجل هذا في جبلة الموجودات محبة البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه، لأن في جبلة المعلول يوجد بعض صفات العلة دلالة دائمة عليها، وإنما لا يعرض للباري- جل ثناؤه- شيء من النقص والفناء، من أجل إنه علة الوجود لذاته، وبقاؤه من نفسه. وأما سائر الموجودات وجميع الكائنات فلوجودها أسباب وعلل، ومتى عدم منها شيء أونقص، عرض لها الفناء والنقص والقصور عن البلوغ إلى الحال الأفضل والوجود الأكمل، والمثال في ذلك النبات والحيوان، فإنه متى عدم الغذاء الذي هوهيولى الأجساد، ومادة بقائها، هلك وانفسد وتغير واضمحل.
وهكذا حكم نفوسها متى بطلت هياكلها بطل شعورها وإحساسها، ولم يمكنها إظهار أفعالها وتأثيراتها، فتكون بتلك الحال النفوس موجودة ولكن على حال النقص، كما أن تراب أجسادها يكون موجوداً لكن على حال النقص. وقد يعلم بأوائل العقول بأن الوجود على الحال الأفضل ألذ وأشرف وأفضل من الوجود على النقص. وقد قالت الحكماء والفلاسفة بأن كل شيء يراد فهو من أجل الخير، والخير يراد من أجل ذاته، والخير المحض السعادة، والسعادة تراد لنفسها لا لشيء آخر. وقد قلنا وبينا في رسالة الإيمان بأن السعادة نوعان دنيوية وأخروية. فالسعادة الدنيوية هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته. والسعادة الأخروية أن تبقى كل نفس إلى أبد الآبدين على أفضل حالاتها وأتم غاياتها.
وأعلم يا اخي بأن النفوس الجزئية إنما ربطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية كيما تكمل فضائلها، وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات. ولم يمكن ذلك إلا بارتياطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها، كما أن الباري- جل ثناؤه- لم يكن إظهار جوده وفيض إحسانه وأفضاله وإنعامه إلا بايجاد هذا الهيكل العظيم المبني بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الكائنات، وتدبيره لها وسياسته إياها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما الفائدة من الشهوات المركوزة في الجبلة، وما يتبعها من الأخلاق والخصال، وهي أن تدعوتلك الشهوات النفوس إلى طلب المنفعة لأجسادها ودفع المكروه والمضرة عنها، وتعينها تلك الأخلاق والخصال عليها، فنريد أن نبين الآن ما الخير منها وما الشر وما المذموم منها وما المحمود، ومتى يكون الإنسان مثاباً بها أومعاقباً.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #100
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في ترتب الأخلاق على بعضها

وكونها فضيلة أورذيلة

وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الإنسان لما كانجسده مركباً من الخلاط الأربعة، وكان مزاجه من الطبائع الأربعة، جعل الباري- جل ثناؤه- بواجب الحكمة، أكثر أموره وتصاريف أحواله مربعات مشاكلات مطابقات بعضها لبعض، ليكون أعون له على ما يراد منه وأدل: من ذلك أنك تجد أخلاقه وأفعاله بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة، كما ذكرنا طرفاً من ذلك، وبعضها عقلية فكرية، وبعضها ناموسية سياسية.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الطبيعة هي خادمة للنفس ومقدمة لها،
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #101
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


وأن النفس خادمة للعقل ومقدمة له، وأن العقل خادم للناموس ومقدمة له، وذلك أن الطبيعة إذا أصلت خلقاً وركزته في الجبلة، جاءت النفس الاختيار فأظهرته وبينته، ثم جاء العقل بالفكر والروية فتممه وكمله، ثم جاء الناموس بالأمر والنهي فسواه وقومه وعدله، وذلك أنه متى ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركوزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، من أجل ما ينبغي، سميت خيراً؛ ومتى كانت بخلافه سميت شراً؛ ومتى فعل ذلك باختياره وإرادته، على ما ينبغي، بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، كان صاحبه محموداً؛ ومتى كان بخلافه كان مذموماً؛ ومتى كان اختياره وإرادته بفكر وروية، على ما وصفنا، كان صاحبه حكيماً فيلسوفاً فاضلاً؛ ومتى كان بخلافه سمي سفيهاً جاهلاً رذلاً؛ ومتى كان فعله وإرادته واختياره وفكره ورويته مأموراً بها ومنهياً عنها، وفعل ما ينبغي كما ينبغي، على ما ينبغي، كان صاحبه مثاباً بها ومجازى عليها؛ ومتى كان بخلاف ما ذكرناه كان مأخوذاً بها ومعاقباً عليها. فقد تبين بما ذكرنا أن الشهوات المركوزة في الجبلة، والأخلاق المنتشئة منها، والأفعال التابعة لها، وجميع المتصرفات من أجلها، هي لأن تبقى النفوس على أفضل حالاتها، ويبلغ كل نوع منها إلى أقصى مدى غاياتها.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الباري- جل ثناؤه- لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات، على ما اقتضت حكمته، جعل أولها متصلاً بآخرها، وآخرها متصلاً بأولها، بوسائطها المرتبة بينهما، لترتقي بها ما دونها إلى المرتبة التي فوقها، ليبلغها إلى مدى غاياتها، وتمام نهاياتها، وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها، ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت العاقلة الحكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها؛ فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياستها، نقلت إلى مرتبة رئيسها، وصارت مثلها في الفعل، والمثال في ذلك من المشاهد أن أي تلميذ أومتعلم في علم أوصناعة امتثل أمر أستاذه وانقاد لمعلمه ودام عليه، فإنه سيصير يوماً ما إلى مرتبة أستاذه، ويصير مثل معلمه؛ لا يخفى هذا على كل عاقل متأمل مثل ما وصفنا، فعلى هذا المثال يكون تنقل النفوس في مراتبها.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنقل إلى رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته. وخاصة المذبوحة منها في القرابين. وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية، فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه، كما سنبين بعد هذا الفصل.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الناس أصناف وطبقات في متصرفاهم في أمور الدنيا لا يحصي عددها إلا الله- جل ثناؤه- كما ذكر بقوله تعالى:" وقد خلقكم أطواراً" ولكن يجمعهم كلهم هذه السبعة الأقسام، وذلك أن منهم أرباب الصنائع والحرف والأعمال، ومنهم أرباب التجارات والمعاملات والأموال، ومنهم أرباب البنايات والعمارات والأملاك، ومنهم الملوك والسلاطين والأجناد وأرباب السياسات، ومنهم المتصرفون والخدامون والمتعيشون يوماً بيوم، ومنهم الزمنى؛ والعطل وأهل البطالة والفراغ؛ ومنهم أهل العلم والدين والمستخدمون في الناموس، وكل طائفة من هذه السبعة تنقسم إلى أصناف كثيرة، ولكل صنف منها أخلاق وطباع وسجايا ومآرب أكسبتهم إياها أعمالهم، وأوجبتها لهم متصرفاتهم، لا يشبه بعضها بعضاً، ولا يحصي عددها إلا الله عز وجل.
ولكن نريد أن نذكر منها ما يحتاج إليه، من الأخلاق والسجايا والخصال والأعمال والآداب والعلوم، أهل الدين المتمسكون بأحكام الناموس الحافظون أركانه الذين يرجى لهم النجاة بها والفوز باستعمالها، كما ذكر الله- جل ثناؤه:" قل هذه سبيلي أدعوإلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" وقوله:" ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم" وقال تعالى:" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" إلى آخر الآية، وآيات كثيرة من القرآن في مثل هذه المعاني.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #102
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في مراتب الناس في الأخلاق حسب الأعمال

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الناس إذا اعتبرت أحوالهم وتبينت أمورهم وجدتهم كلهم كالآلات والأدوات لواضعي النواميس الإلهية في تأسيسهم بنيانها، وتتميمهم أحكامها، وتكميلهم شرائطها، وحفظهم أركانها؛ ثم تجدهم خدماً وخولاً للملوك الذين هم خلفاء الأنبياء من بعدهم في حفظها وحراستها على نظامها وترتيبها، كما رتبها واضعوالنواميس وأمروا بمراعاتها، وهم في ذلك أصناف وطبقات ومراتب مرتبات كترتيب الأعداد المفردات، وذلك أن واضع الناموس في مبدئه كالواحد في العدد، وأصحابه وانصاره الذين اتبعوه كالآحاد، ومن تبعهم على مناهجهم كالعشرات، ومن جاء من بعدهم كالمئات، ومن بعدهم كالألوف، ومن جاء من بعدهم كعشرات الألوف ومئات الألوف بالغاً ما بلغ، إلى يوم القيامة، ثم يصيرون بذلك كلهم جملة واحدة، كما ذكر الله- جل ثناؤه- بقوله وأشار إلى هذا المعنى:" يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون" وقال:" وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً، وعرضوا على ربك صفاً".
وأعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه-بأنك إذا أنعمت النظر في الأمور المعقولة، وجودت التأمل لأحكام الناموس وحدوده، واعتبرت أحوال صاحب الناموس ونفاذ أمره ونهيه في نفوس اتباعه وأنصاره، وامتثالهم أمره ونهيه، وطاعتهم له، تبينت وعرفت بأن الناموس مملكة روحانية، وإن وجوده وقوامه في حفظ أركانه الثمانية، وتبينت بأن أركانه الذين هم أتباع صاحب الناموس وأنصاره، وهم ثمانية أصناف، كل صنف منهم كأنهم صف قيام، حاملون ركناً من أركان الناموس.
فأول الأصناف هم قراء تنزيله وكتبه، وحفاظ ألفاظه على رسومها، ومعلموها لمن بعدهم من ذراريهم، ليؤدوا إلى من بعدهم من أتباعهم ما أخذوا عمن قبلهم؛ كل ذلك لكيلا يجهلها من يجيء من بعدهم وتنسى فتندرس معالم الدين، وتضمحل وتبطل أحكام الناموس.
والصنف الثاني هم رواة أخباره، وناقلوأحاديثه، وحافظوسيره، ومؤدوها إلى من بعدهم، ليبلغوها إلى آخرهم كيلا يجهل وينسى فتندرس آثاره، ويموت أخباره فلا تعرف.
والصنف الثالث هم فقهاء أحكام الناموس، وعلماء سننه، وحفاظ حدوده، كيلا تجهل فلا تستعمل، أوتنسى فتندرس معالم الدين، وتضمحل ويبطل الناموس.
والصنف الرابع هم المفسرون ألفاظ تنزيله الظاهرة، وأقاويله المروية والمعبرون عن وجوه معانيه المختلفة، لمن قصر فهمه عنها، وقلت معرفته بها: كل ذلك كيلا يجهلها من يجيء من بعدهم من ذراريهم وأتباعهم في أحكام الناموس، أوتنسى فتندرس معالم الدين، وتضمحل وتبطل أحكام الناموس.
والصنف الخامس هم أنصاره المجاهدون، وغزاة أعدئه، الحافظون ثغور بلاد أتباع صاحب الناموس وأنصاره، كيلا يغلب عليها أعداؤهم ويفسد أمر دينهم عليهم، كما فعل بخت نصر بإيلياء في هيكل بني إسرائيل، وهوببيت المقدس، وكما فعلت الروم بثغور المسلمين.
والصنف السادس هم خلفاء صاحب الناموس في أمته، ورؤساء الجماعات، والحارسون شريعته على أمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المانعون لهم أن يسيروا بغير سيرة الناموس، الحافظون أطراف المملكة، كيلا يخرج خارجي سراً أوعلانية، فيفسد أحكام الناموس بتمويهه وزروه على قلوب العامة والجهال، كما فعل مزدك الخرمي في مملكة قباذ ملك الفرس.
والصنف السابع هم الزهاد والعباد في المساجد، والرهبان والقوام في الهياكل، والخطباء على المنابر الواعظون الناس المحذورون لهم من ترك استعمال أحكام الناموس، الذامون أمور الدنيا، المحذرون لهم من الاغترار بامانيها، المزهدون للمنهمكين في الشهوات، المذكرون أمر المعاد وأحوال القيامة للغافلين عنها، المشوقون إلى نعيم الآخرة، المقرون بها: كل ذلك كيلا يجهل أمر المعاد، ولا ينسى ذكر الآخرة، والاستعداد للرحلة إليها، والتزود من الدنيا التقوى الذي هوخير الزاد، إذ كان هذا هوالغرض الأقصى في وضع الناموس الإلهي، والغاية والمطلب من الرياضيات الفلسفية.
والصنف الثامن هم علماء تأويل تنزيله، والراسخون في العلوم الإلهية والمعارف الربانية، العارفون خفيات أسرار الناموس، الذين هم الأئمة المهديون، والخلفاء الراشدون الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #103
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل

وأعلم يا أخي بأنك إذا تأملت ونظرت إلى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية


واعتبرت أحوالهم وما هم عليه ومتعلقون به، من حفظ هذه الأمور الثمانية، وحرصهم على مراعاتهم بشرائطها كما وصفنا، ثم نظرت بعين قلبك ونور بصيرتك وصفاء جوهرك إلى جملتهم، وتخيلتها في وهمك، وفكرت، رأيت الناموس مملكة روحانية، ورأيت أتباع صاحب الناموس وأنصاره يسعون فيه ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل؛ ورأيت واضع الناموس قد استوى على عرشه نافذاً فيهم أمره ونهيه، وهم حاملون عرشه يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون لمن في الأرض، وهم من بعدهم من أتباعهم، لأنهم كالسماء لمن بعدهم، ومن بعدهم كالأرض لهم، ولمن قبلهم من أسلافهم.
وأعلم يا أخي بأن كل طائفة من هذه الأصناف الثمانية تحتاج، في حفظها ركناً من أركان الناموس، إلى شرائط معلومة، وخصال محمودة، وأخلاق جميلة نحتاج أن نشرحها ونصفها: أما التي يحتاج إليها القراء والحفظة من الأخلاق الجميلة والخصال المحمودة والشرائط المعلومة، فأولها فصاحة الألفاظ، وتقويم اللسان، وطيب النغمة، وجودة العبارة، وسرعة الحفظ، وجودة الفهم، ودوام الدرس والنشاط في القراءة، والتواضع لمن يتعلم منه، والتعظيم له، ومعرفة حقه وحرمته، والرفق بمن يعلمه، والشفقة عليه، وقلة الضجر من إبطاء فهمه وحفظه، وترك ضيق الصدر من تلقينه، وقلة الطمع في أخذ العوض منه، وقلة المنة عليه بما يعلمه.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق أصحاب الأخبار وحملة الأحاديث، فأولها جودة الاستماع، واستيفاء الكلام، وضبط الألفاظ على رسمها، وتقييدها بالكتابة، والتحرز والتحرج والحذر من الزيادة فيها والنقصان عن تمامها، والصدق وحسن الأداء وتجنب الكذب، ثم الحكاية عنها بهيأتها، وبذلها ونشرها لمن سأل عنها، اويصلح له الإخبار عنها؛ وطيها وصونها عمن لا تصلح له ولا تليق به: كل ذلك نصيحة للإخوان، ونصرة للدين ولواضع الناموس، وابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه في الآخرة.
وأما التي يحتاج إليها الفقهاء والقضاة والمفتون، من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المحمودة فيها، والقيام منها بما هم بسبيله، فأولها معرفة الرتب التي رتبها واضع الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والحكام؛ ثم معرفة القياس وكيفية استخراج الفروع من الأصول في الفتاوى والمسائل الواردة التي ليس لها ذكر في الأصول، والتثبت والتأني في الفتيا، والاستقصاء في استفهام السؤال بجميع شرائطه، ثم قلة الترخيص في الشبهات من المحذورات، وترك التحريج في المشكلات، ودرء الحدود بالشبهات؛ وقلة الخلاف مع أبناء الجنس، وترك الحسد للأقران، وبذل النصيحة للإخوان، والشفقة والتحنن على الجهال، وترك الافتخار في الإصابة في الأحكام، وقلة الشنعة على العلماء بزلاتهم، والاحتمال لأذية الجيران، وقلة الرغبة في حطام الدنيا، وعفة الفرج، وترك الطمع، والقيام بواجب أحكام الناموس، وإن لا يكون قوله مخالفاً لعمله.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المفسرون لألفاظ التنزيل، فأولها معرفة غرض صاحب الناموس في إيراده التنزيل، واستعماله الألفاظ المشتركة المعاني، ثم أن يكون له اتساع في معرفة تصاريف الكلام والأقاويل، وما يحتملها من المعاني مما يؤكد غرض واضع الناموس؛ ويكون له جودة بحث وبعد غور في استخراج المعاني ولطف العبارة عنها، بحسب ما تحتمل عقول المستمعين، ويقرب من فهم المتعلمين، ويكون له من يقظة القلب ما لا يناقض أقاويله وعباراته ولا في المعاني التي يشير إليها في تفسيره لألفاظ تنزيل واضع الناموس وأقاويله وكلامه وبيانه. وأعلم يا أخي بأنه متى لم يكن المفسر عارفاً بغرض واضع الناموس في إيراده الألفاظ المشتركة المعاني في تنزيله وأقاويله وعباراته وبيانه، تخيل له من تلك الألفاظ من المعاني غير ما أشار إليه واضع الناموس، وتوهم سوى ما أراد فيها، فأفهم المستمعينمن تفسيره ما تخيل هو، وعلم المتعلمين ما علم به، فصار له ذلك ديناً ومذهباً غير دين واضع الناموس وطريقته، وكان مخالفاً له في اعتقاده في الشريعة وهولا يشعر؛ ويكون بذلك مفسداً في أحكام الناموس، وهويظن أنه من المصلحين، ولا يدري. فاحذر يا أخي من هذا الباب، فإن فساد ديانات واضعي الناموس وأحكام شرائعهم أكثرها من هذا الباب يكون.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط أنصار واضع الناموس، وغزاة أعدائه، والحافظون ثغور بلاد أتباعه وأنصاره، أن يكون لهم تعصب للدين وغيرة على حرمة الناموس، وحمية من اجل فساد يدخل عليه، وحنق على العداء المجاهرين بالعداوة لواضع الناموس ودينه، المريدين فساد أحكامه؛ وقلة الهيبة منهم، وشجاعة النفس عند البراز، وخفة الحركة عند الجولان، وتيقظ القلب من غدر العدو، وأخذ الحذر في أوقات الغفلة، وقلة الاغترار بقلتهم، وطلب الحيلة للظفر ما استوى من غير قتال، ومخادعة في الحروب، ومبادرة في البراز إلى الأقران والأكفاء، وصبر عند اللقاء، وكثرة الذكر لله عز وجل، والاستعانة به، والأنفة من الفرار وما يكون فيه من العار، وقلة الرغبة في النهب، والتقية من هتك الحريم عند الظفر، وكثرة الشكر لله، وترك الإفساد عند الهزيمة، ورحمة الأسير، وقبول الصلح عند الهدنة، والوفاء بالعهد، وترك الإعجاب عند كثرة عدد الأعوان والأنصار.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط الزهاد والعباد والمذكرون للناس أمر الآخرة وذكر المعاد، فأولها التي هي أساس الدين وملاك الأمر القناعة باليسير من حطام الدنيا، والرضى بالقليل من متاعها ولذاتها، وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذاتها، وترك طلب المنزلة والجلالة والكرامة، وقلة الحرص في طلب الحاجات فيها، والاشتغال بطلب العلم، والعبادة بالصوم والصلاة مع أبناء الجنس، وترك الخلطة في الراغبين فيها من أبنائها، والتفرد في الخلوات، وكثرة ذكر الموت وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها، والنظر إلى آثار القرون الماضية، والاعتبار بها، والدور الخربة والمنازل الدارسة العافية للأمم الخالية، والنظر في كتب الحكماء وأخبار سير الملوك الماضية، والتفكر في الأمثال المضروبة على ألسنة الحكماء ذوي التجربة في وصفهم الدنيا واعتبارهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، والتيقن بأمر المعاد، وشدة الاشتياق إلى نعيم الآخرة دار القرار مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،" وحسن أولئك رفيقاً".
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط خلفاء واضع الناموس، وهم طائفتان، إحداهما خلفاؤه في الملك والرياسة في أمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس على أهلم، فقد أفردنا له رسالة، إذ كان هذا الباب يحتاج إلى خطب طويل وشرح كثير. وأما خلفاؤه في أسرار أحكام الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون فقد بينا أخلاقهم وخصالهم وشرائطهم وعلومهم ومعارفهم وطرائقهم في إحدى وخمسين رسالة عملناها ودوناها، وهذه الرسالة واحدة منها؛ فقم أيها الأخ البار الرحيم- أيدك الله وإيانا بروح منه- بالعمل بواجبها، والقيام بحقها، وأخبر جميع إخواننا حيث كانوا في البلاد بما في هذه الرسالة والرسائل الأخر، إذ الدال على الخير كفاعله.
وقد بينا بما ذكرنا طرفاً من خصال صاحب الناموس وحكم أتباعه معه في حفظهم أركان الناموس، وتصاريف أحوالهم في الدنيا، فنريد أن نذكر طرفاً من كيفية أحوالهم في الآخرة وتصاريف أحكامها، إذ كان هذا هوالغرض الأقصى في وضع النواميس الإلهية وسنن الديانات النبوية.
فأعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً، وظواهر الأمور قشور وعظام، وبواطنها لب ومخ، وإن الناموس هوأحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس، وله أحكام وحدود ظاهرة بينة يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم والراسخون في العلم.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #104
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


وأعلم يا اخي بأن الناموس وضع لصلاح الدين والدنيا جميعاً، وأن الدنيا والآخرة هما داران متقابلتان، واسماهما مضادتان، ومعناهما وحقيقتهما وصفتهما مختلفات متضادات، إحداهما كالقشرة وهي الدنيا، والأخرى كاللب وهي الآخرة، ولهما أهل وبنون، ولأهلهما وبنيهما صفات وأخلاق وسجايا وأعمال متخالفات متضادات، نحتاج أن نشرحها ونفصلها ونذكر الفرق بينها وبين حقيقتها، ونميز بين أهلها، ليعلمها ويعرفها كل من أراد أن يفهمه، ويريد هذا العلم، إذ كان هومن أشرف العلوم وأجل المعارف التي يتعاطاها الناس من سائر العلوم، فنقول: أما الدنيا فاسمها مشتق من الدنووالقرب، والآخرة من التأخر؛ وأما حقيقتهما، فالدنيا هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم ولادة الجسد إلى يوم الممات الذي هوولادة النفس ومفارقتها إياه، والآخرة هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم الممات ومفارقة النفس الجسد إلى ما بعدها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
وأعلم يا أخي بأن الله- جل ثناؤه- سمى الحياة الدنيا عرضاً ومتعاً إلى حين، لأن كون الإنسان في الدنيا عارض عرض في طريق الآخرة، ولم يكن القصد والغرض المقام فيها، كما أن الغرض في الكون في الرحم لم يكن الغرض والقصد طول المكث والمقام هناك، ولكن طريقاً وجوازاً إلى الدنيا، فكذلك كون النفس في هذا الجسد هوسفينة ومركوب ومعبر إلى الدار الآخرة، وذلك إنه لم يكن الورود إلى الدنيا دون الكون هنالك زماناً لتتميم بنية الجسد، وتكميل صورته كما بينا في رسالة مسقط النطفة، فهكذا ايضاً حكم المكث في الدنيا والكون فيها زماناً هوطريق وجواز إلى ما بعدها، وذلك إنه لم يكن الورود إلى الدار الآخرة دون الجواز على الدنيا والكون فيها زماناً ما لكيما تتم أحوال النفس وتكمل فضائلها، كما بينا في رسالة الإنسان عالم صغير، ورسالة حكمة الموت.
ولهذا المعنى الذي ذكرناه ووصفناه قيل في الخطب على المنابر في الأعياد والجمعات: أعلموا أيها الناس إنكم إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون، ومن الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ؛ ومن البرزخ إلى الجنة أوإلى النار، كما ذكر الله- عز وجل- بقوله:" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم إلينا لا ترجعون". وقوله:ط يريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة". وقوله:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، مثل قوله تعالى:" وإن الدار الآخرة لهي الحيوان؛ لوكانوا يعلمون" يعني أبناء الدنيا لرغبوا فيها أكثر وحرصوا في طلبها أشد، ولكنهم عنها غافلون ساهون جاهلون، لا يدرون ما هناك من النعيم واللذات والسرور والفرح والراحة، كما ذكر الله- عز وجل- واختصر بقوله:" فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنت فيها خالدون" فلما جهل أبناء الدنيا أمور الآخرة، وغفلوا عنها، اشتغلوا عند ذلك بطلب الدنيا ونعيمها ولذاتها وشهواتها، وتمنوا الخلود فيها، لأنها محسوسة لهم، يشهدونها، وتلك غائبة عن إدراك الحواس، فتركوا البحث عنها، والرغبة فيها، والطلب لها، وإليهم أشار بقوله- جل ثناؤه:" ورضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون".
وأعلم يا أخي بأن الله- جل ثناؤه- سمى الدار الآخرة الحيوان، لأنها عالم الأرواح ومعدن النفوس، والدنيا عالم الأجسام، وجواهر الأجسام موات بطبائعها، وإنما تكسبها الحياة النفوس والأرواح بكونها فيها ومعها، كما تكسب الشمس الهواء النور والضياء بإشراقها عليه، وفيه الدليل على ان النفوس هي التي تكسب الأجساد الحياة بكونها معها، وما يرى من حال الأجساد قبل الموت من الحس والحركة والشعور والأصوات والتصاريف وكيفية فقدانها ذلك عند الموت الذي ليس هوشيئاً سوى مفارقة النفس الجسد، مما لا خفاء به عند كل عاقل منصف بعقله في موجبات أحكامه.
وأعلم يا أخي بأن أكثر الناس من أتباع واضعي الناموس وأنصارهم مقرون بالآخرة مؤمنون بها، ولكنهم لا يعرفون ماهيتها، ولا يدرون ما حقيقتها ولا كيفيتها ولا أبنيتها، ولا متى وقت الوصول إليها؛ وهكذا أيضاً كثير من المتفلسفين مقرون بعالم الأرواح وجواهر النفوس، ولكن أكثرهم أيضاً لا يدرون كيف الطريق نحوها، ولا كيف الوصول. وقد بينا نحن في رسائلنا الناموسية والعقلية ما يحتاج إليه كلا الفريقين جميعاً في هذا المعنى. وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الدنيا وما الآخرة فنقول الان إن الناس كلهم أبناء الآخرة وأهلها، كما هم أبناء الدنيا وأهلها، ولكنهم ينقسمون في الآخرة قسمين اثنين، كما هم في الدنيا قسمان اثنان: سعداء وأشقياء، فأما سعداء بني الدنيا وأشقياؤهم فهم معروفون ولسنا نحتاج إلى ذكرهم، إذ كان هذا هومشاهد، ولكن الذي نحتاج أن نذكره علامات سعداء أبناء الآخرة وأخلاقهم وأعمالهم، إذ كان هذا أمراً خفياً لا يعلم إلا بعد الوصف والشرح والدليل والعلامات.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #105
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في انقسام الناس في السعادة أربعة أقسام

أعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائها أربعة أقسام: فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعاً، ومنهم أشقياء فيهما جميعاً، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة.
فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعاً فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة، ومكنوا فيها، فاقتصروا منها على البلغة ورضوا بالقليل، وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله:" وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" وقال الله سبحانه:" ووجدوا ما عملوا حاضراً" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
وأما سعداء أبناء الدنيا وأشقياء أبناء الآخرة فهم الذين وفر حظهم من متاعها ومكنوا منها وارتقوا فيها، فتمتعوا وتلذذوا وتفاخروا وتكاثروا، ولم يتعظوا بزواجر الناموس، ولم ينقادوا له، ولم ياتمروا لأمره، وتعدوا حدوده، وتجاوزوا المقدار، وطغوا وبغوا وأسرفوا، والله لا يحب المسرفين، وهم الذين أشار إليهم بقوله- جل ثناؤه:" أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتمم بها" إلى آخر الآية. وقال:" من كان يريد الحياة الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب." وآيات كثيرة في القرآن في وصف هؤلاء.
وأما أشقياء الدنيا وسعداء الآخرة فهم الذين طالت أعمارهم فيها، وكثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، واشتدت عنايتهم في طلبها، وفنيت أبدانهم في خدمة أهلها، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيء من نعيمها ولذاتها، وائتمروا بأوامر الناموس، ولم يتعدوا حدوده، وقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن:" إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب".
وأما أشقياء الدنيا والآخرة فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا ولم يمكنوا منها وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيراً، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده، ولم يتعظوا بزواجره، ولم يعملوا في عمارة بنيانه ولا في حفظ أركانه، فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعاً، ذلك هوالخسران المبين.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #106
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل

وإذ قد تبين بما ذكرنا بأقسام عقلية أنه لا يخلوأحد من الناس

من أن يكون داخلاً في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الاخرة وسجاياهم، ليعرف الفرق بينهم.
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أخلاق بني الدنيا هي التي ركزتها الطبيعة في الجبلة من غير كسب منهم ولا اختيار ولا فكرة ولا روية ولا اجتهاد ولا كلفة، فهم يسعون فيها ويعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع الأجساد ودفع المضرة عنها، كما قال الله تعالى ذكره:" يأكلون كما تأكل النعام، والنار مثوى لهم." وأما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب العقل والفكر والروية، وإما باتباع أوامر الناموس وتأديبه، كما سنبين، وتصير عند ذلك عادة لهم بطول الدؤوب فيها وكثرة الاستعمال لها، وعليها يجازون ويثابون، كما ذكر الله تعالى بقوله:" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى".
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدودهه وترغيبه وترهيبه ووعده وعيده وزجره وتهديده، عرفت وتبينت أن أكثر اوامره هي بخلاف ما في طباع الناس، ونواهيه عما هو في الجبلة مركوزة من تركب الشهوات، أوطلب الراحة والنعيم والتلذذ، وما هومركوز في الجبلة، وذلك أنه أمر بالصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفوعند المقدرة، وبالعدل عند الحكومة؛ وبالصبر عند الشدائد، وبالرضى عند مر المقادير، وبحسن العزاء عند المصائب، وبالاجتهاد والتشمير عند الكسل، وبصدق القول عند شدة الخوف منه، وبالسخاء عند شدة الفقر، وبوفاء العهد عند المغيب، وبالزهد في الدنيا عند التمكن منها، وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها، وفي الطباع مركوز غيرها، ويروى في الخبر إنه سئل رسول الله- صلى الله عليه وآله- عن معنى قول الله عز وجل:" خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين" فقال: جمع في هذه الآية مكارم الأخلاق، وهي سبعة: عفوك عمن ظلمك، وإعطاؤك من حرمك، وصلتك لمن قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، ونصيحتك لمن غشك، واستغفارك لمن اغتابك، وحلمك عمن أغضبك.
وأعلم يا أخي بأن هذه هي أمهات أخلاق الكرام من أولياء الله الذين أشار إليهم بقوله: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً؛" إلى آخر الآية، وقوله:" رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً" وهي أخلاق الملائكة الذين أشار إليهم بقوله جل ثناؤه:" الذين يحملون العرش، ومن حوله" الآية.
انظر الآن يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- إلى ما ذكرناه من أخلاق الكرام، وتفكر فيها إن كنت تريد أن تكون من أولياء الله وأهل جنته، ومن حزب ملائكته الكرام البررة؛ فاقتد بهم وتخلق بأخلاقهم باجتهاد منك وروية، وعناية شديدة، وكثرة استعمال لها، وطول دربة بها، لتصير لك عادة وطبيعة وجبلة مركوزة، وتبقى في نفسك مصورة عند المفارقة، ودع أخلاق إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، وأعلم علماً يقيناً بأن ليس يصحب الإنسان بعد الموت عند مفارقة النفس الجسد، ويبقى معه من كل ما يملك في الدنيا من المال والأهل والمتاع، إلا ما كسبت يداه من هذه الأخلاق والأعمال المشاكلة لها، والعلوم والمعارف والآراء التي اعتقدها وأضمرها كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إنما هي أعمالكم ترد إليكم. وقال الله- جل ثناؤه-: " ووجدوا ما عملوا حاضراً".
وأعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جعلت طبيعة مركوزة في الجبلة، لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها، فأزيحت عللهم في ذلك. فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة، لأنهم أزيحت عللهم قبل ورودهم إلى الآخرة، بما أعلموا بها وأخبروا عنها وبشروا بها وأنذورا منها وجدوا في طلبها، وأوضح لهم طريقها وأزيحت عللهم فيما يحتاجون إليه من البيان والاستطاعة والقدرة والهداية والأمر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب وما شاكل ذلك مما هوبين واضح في أحكام النواميس وحدودها، وفي موجبات العقول وقضاياها، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والعقول المركوزة. وإذ قد تبين بما ذكرنا ما العلة وما السبب في كون أخلاق أبناء الدنيا مركوزة في الجبلة، وأخلاق أبناء الآخرة مكتسبة معتادة، فنريد أن نبين أن من الأخلاق المكتسبة ما هي مذمومة وما هي محمودة، وإن المحمودة منها ما هي بمموجب العقل وقضاياه، ومنها ما هي بموجب أحكام الناموس وأوامره، وهكذا حكم المذمومة منها.
وأعلم يا أخي بأن كل عاقل ذكي القلب إذا نظر بعقله وتفكر برويته في أحوال الناس، وميز بين طبقاتهم، واعتبر تصاريف أمورهم في دنياهم، عرف وتبين له بأن منهم خاصاً وعاماً وملوكاً وسوقة، ويعلم ويتبين له بأن أخلاق الملوك وسجاياهم وآداب أتباعهم ومن يصحبهم وينادمهم خلاف أخلاق العامة والسوقة؛ ويعلم بأنه لا يترك أحد من العامة والسوقة أن يدخل إلى مجالس الملوك إلا بعد أدب وعلم وسكون ووقار وهيبة وجلالة، فيكون في هذا دلالة له، فيعلم إنه لا يمكن أحداً من الناس ولا يليق به ولا يثق أن يصعد إلى ملكوت السموات وسعة الأفلاك والدخول في زمرة الملائكة إلا بعد عناية شديدة في تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه وصحة اعتقاده وحقيقة معلوماته، فيجتهد عند ذلك في إصلاح ما هوفاسد منها، ويتجنب ما هومذموم بحسب ما توجبه قضية عقله، ويؤدي إليه اجتهاده كما هومذكور في كتب السياسة الفلسفية.
وأعلم يا أخي إنه لما لم يكن في مكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا، إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة وبحث دقيق ونظر قوي، خفف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيدين مع الوصايا المرضية، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمروهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة ولبس الزينة بسكينة ووقار وأدب وورع وخشوع وتسبيح واستغفار، وترك أشياء كانت مباحة لهم، وجائزاً أن يفعلوا في بيوتهم وأسواقهم ومجالسهم وطرقاتهم: كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهم إنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة ويعرج بروحه إلى ملكوت السموات، طول عمره وأيام حياته كلها، لتصير عادة له وجبلة وطبيعة ثابتة، فيستحق ويستاهل أن يعرج بروحه إلى هناك كما ذكر الله تعالى بقوله:" إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه" يعني روح المؤمن. فإذا تفكر كل عاقل فيما يسمع من الخطب على المنابر في كل الديانات والملل في الأعياد والجمعات، تبين له حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.
وأعلم يا أخي أن لواضعي النواميس وصايا كثيرة مفننة، لأن دعوتهم عموم للخاص والعام جميعاً، أعني أتباعهم، مختلفوالأحوال، فبينوا لكل طبقة ما ينبغي ويصلح لها، ولكن الذي عمهم كلهم هي الدعوة إلى الإقرار بما جاؤوا به والتصديق لهم بما خبروا عنه من الأمور الغائبة، علم ذلك أتباعهم أولم يعلموا، هذا هوالإيمان كما قال تعالى:" يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" فآمنوا بالله ورسوله. ثم أمرهم بعد هذا بأشياء، ونهاهم عن أشياء كثيرة هي معروفة معلومة عند علماء أهل الشريعة وفقهائهم، ولكن آخر ما ختمها به قوله:" واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" ويروى في الخبر أن هذا آخر ما نزل من القرآن.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أوامر الله تعالى لعباده مماثلة لأوامر الملوك، وذلك أن من سنة الملوك والخلفاء وكثير من الرؤساء، ومن آدابهم إنهم إذا تفرس أحدهم في أحد أولاده اوعبيده النجابة والفلاح، عني به أفضل عناية، في تعليمه وتأديبه ورياضته، وحماه من اللعب واللهو والانهماك في الشهوات، ونهاه عن ترك الآداب، وسوء الأخلاق وما لا يليق بأخلاق الرؤساء والعقلاء والأخيار: كل ذلك ليتخرج ويكون مهذباً متهيئاً لقبول ما يراد منه أن يكون خليفة لمولاه ومكان أبيه في الرياسة والملك، وهكذا كان تأديب الله تعالى لأنبيائه ورسله وأوليائه من المؤمنين فيما أمرهم به من أتباع رضوانه، ونهاهم عنه من أتباع هوى أنفسهم كما قال تعالى:" وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى" وهكذا أيضاً إن كثيراً من أولاد الملوك وعبيدهم إذا احس من أبيه أومولاه ما ذكرنا، أخذ نفسه بامتثال أمره ونهيه وترك شهواته وأتباع هواه: كل ذلك لما يرجومن المر الجليل والخطب العظيم، فهكذا حكم أولياء الله من المؤمنين الذين يرجون لقاء الله.
وأما المتخلفون والمدابير؛ من أولاد الملوك والرؤساء وعبيدهم الأشقياء الذين لا يرجون ما يوعدون، فهم لا يقبلون ما يؤمرون ولا يسمعون ما يقال لهم، ولا يفكرون فيما يقال من الترغيب والترهيب، بل يسعون ليلهم ونهارهم في طلب شهواتهم وارتكاب هوى أنفسهم، فلا جرم أنهم يحرمون ما ينال إخوانهم من الرياسة والأمر والنهي والسلطان والعز والكرامات. فأما هؤلاء المدابير من أولاد الملوك فلا يصلحون لشيء غير أن يكونوا رهائن عند أعدائهم أومعتقلين عند إخوانهم، فهكذا يا أخي حكم الكافرين والمنافقين والفاسقين في الآخرة، يحرمون ما ينال المؤمنين من الكرامات والقرب والمراتب والدرجات والسرور واللذات، عقوبة لهم لما تركوا من وصية ربهم، وارتكبوا هوى أنفسهم، وضلوا عن الهدى، وحرموا الثواب والجزاء كما قال الله تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة" الآية.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن تأديب الله للمؤمنين مماثل لتأديب الملوك لأولادهم، فنقول: أعلم يا أخي أن وعده ووعيده وعذابه للكافرين والمنافقين والفاسقين مماثل لوعيد الطبيب المشفق الحكيم لولده الجاهل العليل، كما بينا في رسالة الآلام واللذات. وقد ذكر الله وعده للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين في القرآن في نحومن ألف آية مثل قوله تعالى:" وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية. وإنما جعل الله- جل ثناؤه- ثواب المؤمنين الجنان ونعيم الآخرة، لأن الإيمان خصلة تجمع فضائل كثيرة ملكية، وشرائط كثيرة عقلية، فللمؤمنين علامات يعرفون بها ويتميزون على الكافرين والمنافقين. وقد بينا طرفاً من هذا العلم في رسالة الإيمان وخصال المؤمنين، ولكن نحتاج أن نذكر في هذه الرسالة طرفاً منها ليكون تذكاراً وموعظة للغافلين، كما أمر الله تعالى بقوله:" وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #107
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-

أن خواص عباده المؤمنين العارفين المستبصرين يعاملون الله- جل ثناؤه- بالصدق واليقين، ويحاسبون أنفسهم في ساعات الليل والنهار فيما يعملون، كأنهم يشاهدون الله ويرونه، فيجدون ثواب أعمالهم ساعةً ساعةً لا يتأخر عنهم لحظة واحدة، وهي البشرى في الحياة الدنيا، قبل بلوغهم إلى الآخرة، ويرون جزاء سيئاتهم أيضاً يعقب أفعالهم، لا يخفى عليهم إلا قليل، وإليهم أشار بقوله- جل ثناؤه-" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، فإذا هم مبصرون" وبقوله تعالى:" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وقال: " إلا عبادك منهم المخلصين." وآيات كثيرة ذكرها بمدحهم وحسن الثناء عليهم، وهم أعرف الناس بالله وأحسنهم معاملة معه.
وذكروا أن واحداً منهم اجتاز يوماً في بعض سياحته براهب في صومعة له على رأس تل، فوقف بإزائه، فناداه: يا راهب، فأخرج رأسه إليه من صومعته وقال: من هذا، قال: رجل من أبناء جنسك الآدميين. قال: فما تريد، قال: كيف الطريق إلى الله، قال الراهب: في خلاف الهوى. قال له: فما خير الزاد، قال: التقوى. قال: لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة، قال: مخافة على قلبي من فتنتهم وحذراً على عقلي الحيرة من سوء عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم.
قال: فأخبرني كيف وجدتهم، قال: أسوأ قوم وأشر أصحاب، ففارقتهم. قال: فكيف وجدتم، يا معشر أتباع المسيح، معاملتكم مع ربكم، فاصدقني القول ودع عنك تزويق الكلام وزخارف الألفاظ. فسكت الراهب متفكراً ثم قال: أسوأ معاملة تكون. قال له: وكيف ذلك، قال: لأنه أمرنا بكد الأبدان، وجهد النفوس، وصيام النهار، وقيام الليل، وترك الشهوات المركوزة في الجبلة، ومخالفة الهوى الغالب، ومجاهدة العدوالمتسلط، والرضى بخشونة العيش، والصبر على الشدائد والبلوى، ومع هذه كلها جعل الأجر نسيئه؛ في الآخرة بعد الموت، مع بعد الطريق وكثرة الشكوك والحيرة، فهذه حالتنا في معاملتنا مع ربنا؛ فخبرني عنكم، يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم، قال: خير معاملة تكون وأحسنها.
قال الراهب: صفها لي. قال له: إنه أعطانا سلفاً؛ كثيرة ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم واإحسان والأفضال، فنحن، ليلنا ونهارنا، نتقلب في أنواع من نعمه وفنون من آلائه ما بين سالف معتاد، وآنف؛ مستفاد، وخالف منقاد. قال الراهب: كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد، قال: أما النعمة والإحسان والإفضال فعموم للجميع، قد عمتنا كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس، وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب، ومرعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة بساعة.
قال الرهب: زدني في البيان. قال: نعم، اسمع ما أقوله، وافهمه، واعقل ما تفهم، إن الله- جل ثناؤه- لما خلق الإنسان من طين ولم يكن شيئاً مذكوراً، وجعل من سلالة ماء مهين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم قلبه حالاً بعد حال تسعة أشهر، إلى أن أخرجه من هناك، خلق سوياً بنية صحيحة، وصورة تامة، وقامة منتصبة، وحواس سالمة. ثم زوده من هناك لبناً لذيذاً خالصاً سائغاً لذة للشاربين حولين كاملين، ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته، إلى أن بلغه أشده واستوى، ثم آتاه حكماً وعلماً، وقلباً ذكياً، وسمعاً دقيقاً، وبصراً حاداً، وذوقاً لذيذاً، وشماً طيباً، ولمساً ليناً، ولساناً ناطقاً، وعقلاً صحيحاً، وفهماً جيداً، وذهناً صافياً، وتمييزاً وفكراً وروية ومشيئة واختياراً، وجوارح طائعة، ويدين صانعتين، ورجلين ساعيتين؛ ثم علمه الفصاحة والبيان والخط بالقلم، والصنائع والحرف والزراعة والبيع والتجارة والتصرف في المعاش وطلب وجوه المنافع، واتخاذ البنيان، وطلب العز والسلطان والأمر والرياسة، والتدبير والسياسة؛ وسخر له ما في الأرض جميعاً من الحيوان والنبات والمعادن، فغدا متحكماً عليها تحكم الأرباب، ومتصرفاً فيها تصرف الملاك، متمتعاً بها إلى حين. ثم أراد الله أن يزيده من إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئاً آخر أشرف وأجل مما عددنا وذكرنا، وهوما أكرم الله به ملائكته، وخالص عباده، واهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيض، إذ كان نعيم الدنيا مشوباً بالبؤس، ولذاتها بالآلام، وسرورها بالحزن، وراحتها بالنصب، وعزتها بالذل، وصفوها بالكدر، وغناها بالفقر، وصحتها بالسقم؛ وأهلها فيها معذبون في صورة المنعمين، مغتمون في صورة المغبوطين، مغرورون في صورة الواثقين، مهانون في صورة المكرمين، وجلون غير مطمئنين، خائفون غير آمنين، مترددون بين الأضداد، من نور وظلمة، وليل ونهار، وشتاء وصيف، وحر وبرد، ورطب ويابس، ونوم ويقظة، وجوع وشبع، وعطش وروي، وراحة وتعب، وشباب وهرم، وقوة وصعف، وحياة وموت، وما شاكل ذلك من الأمور التي أهل الدنيا وأبناؤها مترددون بينها، متحيرون فيها، مدفوعون إليها. فأراد ربك أن يخلصهم من هذه الآلام المشوبة باللذات، وينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه، ولذة لا يشوبها ألم، وسرور بلا حزن، وفرح بلا غم، وعز بلا ذل، وكرامة بلا هوان، وراحة بلا تعب، وصفولا يخالطه كدر، وأمن بلا خوف، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وحياة بلا موت، وشباب بلا هرم، ومودة لازمة، ونور لا يشوبه ظلام، ويقظة بلا نوم، وذكر بلا غفلة، وعلم بلا جهالة، وصداقة بلا عداوة بين أهلها، ولا حسد ولا غيبة، إخواناً على سرر متقابلين، آمنين مطمئنين أبد الآبدين ودهر الداهرين.
ولما لم يمكن أن يكون الإنسان هناك بهذا الجسد الفاني والجسم الثقيل المستحيل الطويل العريض العميق المظلم المركب من أجزاء الأركان المتضادة، المؤلفة من الأخلاط الأربعة، إذ كان لا يليق بمن هذه سبيله من تلك الأوصاف الصافية والأحوال الباقية، اقتضت العناية بواجب حكمة الباري- جل ثناؤه- أن ينشأ نشوءاً آخر، كما ذكر الله- جل ثناؤه- بقوله:" ولقد علمتم النشأة الأولى، فلولا تذكرون" يعني النشأة الأخرى. وقال:" وننشئكم فيما لا تعلمون" وقال:" ثم الله ينشئ النشأة الآخرة." فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم فيها، ويدلونهم على طريقها كيما يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما ألفوا من الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخفف عليهم شدائد الدنيا ومصائبها، إذ كانوا يرجون بعدها ما يغمرها ويمحوما قبلها من نعيم الدنيا وبؤسها، ويحذرونهم أيضاً التواني في طلبها كي لا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا والآخرة جميعاً، وضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً. فهذا رأينان واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا وسهل علينا الزهد فيها وترك شهواتها، واشتدت رغبتنا في الآخرة، وزاد حرصنا في طلبها، وخف علينا كد العبادة، فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف، إذ جعلنا أهلاً أن نذكره، وإذ هدى قلوبنا وشرح صدورنا ونور أبصارنا لما عرفنا من كثرة إنعامه وفنون ألطافه وإحسانه.
قال الراهب: جزاك الله خيراً من واعظ ما أبلغه، ومن ذاكر إنعاماً ما أحسنه، ومن هاد رشيد ما أبصره، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ ناصح ما أشفقه.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #108
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-

بأن الأمور الطبيعية محيطة بنا ومحتوية على نفوسنا كإحاطة الرحم بالجنين، وكإحاطة قشرة البيضة بمحها؛ كل ذلك حرص من الطبيعة على تتميمها وتكميلها وصيانتها من الآفات العارضة، إلى أجل معلوم، فإذا جاء وقت الخروج من هناك بعد تتميم البنية وتكميل الصورة، فالجنين حينئذ هوالذي يحرك أعضاءه، ويركض؛ برجليه، ويضرب بيديه، حتى يخرق المشيمة؛ وتتقطع تلك الأوتار والرباطات التي كانت تمسكه هناك، ويمكنه الخروج من الرحم، وكذلك أفعال الفرخ بالبيضة. فهذا قياس ودليل لكل نفس تريد فراق الدنيا والخروج من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، وتنبيه لها على أنه ينبغي لنا أن نتحرك ونجتهد، حتى ندفع عن أنفسنا الأخلاق الطبيعية المركوزة في الجبلة المذمومة منها، المانعة للنفوس عن النهوض والخروج من عالم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك، وسعة السموات، ومعدن الأرواح، ومقر النفوس. فلما كان هذا كما ذكرناه، ولم يكن في منة؛ إنسان أن يعقل هذا الأمر الجليل، ويفهم هذا الخطب الخطير، كان من فضل الله وإحسانه وإكرامه لعباده أن بعث إليهم النبيين والمرسلين مؤيدين، ليعلموا الناس هذه الأمور، ويعرفوهم هذا الخطب، وينبهوهم عليه، ويدعوهم إليه، ويرغبوهم فيه، ويحثوهم على طلبه، ويكلفوهم الاجتهاد في نيله طوعاً أوكرهاً. وهذه من جسيم نعم الله- سبحانه- على عباده، وعظيم إحسانه إليهم الذي عمهم كلهم، ولم يخص أحدهم دون الآخر. وإذ قد تبين بما ذكرنا أن بعض نعم الله تعالى وإحسانه ما هي عموم لجميع خلقه لا يخص واحداً دون الآخر، فنريد أن نذكر ما يخص منها ونبين كيف يكون ذلك، ومن يستحقها ويستأهلها.
فأعلم يا أخي أن من نعم الله وإحسانه وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم ويحرمه قوماً آخرين، عقوبة لهم، إذ كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه، إذ كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلاً عليهم، تعمهم كلهم والتي يستحقونها بحسب سعيهم ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها، إذ لم يكونوا متساوين في العمل.
وأعلم يا أخي بأن الله- جل ثناؤه- لما بعث أنبياءه ورسله إلى الأمم الجاهلة الغافلة عن هذا الأمر الجليل الخطير، لم يأمرهم ولا كلفهم شيئاً شاقاً سوى ما في وسع طاقتهم من القول والعمل والنية والإضمار؛ فأول شيء أمرهم الأنبياء وطالبوهم به هوالإيمان الذي هوإقرار اللسان لهم بما جاؤوا به من الأنباء والخبار عن أمور غائبة عن حواسهم، وترك الجحود والإنكار لها، كما ذكر بقوله جل ثناؤه:" قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله." فمن أعطاه الإقرار باللسان وثبت ولم يرجع، كان جزاؤه ومكافأته لإقراره في الدنيا عاجلاً، أن يهدي الله قلبه بنور اليقين ويشرح صدره للتصديق بما أخبر به عن الغيب، وينجي قلبه من ألم الكرب والتكذيب، ويخلص نفسه من عذاب الشك والريبة والحيرة، كما وعد- جل ثناؤه-بقوله:" ومن يؤمن بالله يهد قلبه" يعني من يقر بلسانه يهد قلبه للتصديق واليقين والإخلاص. وقال:" والذين اهتدوا" يعني أقروا" زادهم هدى" يعني يقيناً واستبصاراً، " وآتاهم تقواهم" يعني أزال عنهم الشك والارتياب.
وأعلم يا أخي بأن المقر بلسانه والمنكر بقلبه يكون شاكاً مرتاباً متحيراً دهشاً، وهذه كلها آلام للقلوب وعذاب للنفوس، فأراد الله- جل ثناؤه- أن يخلص عباده المقرين لأنبيائه بما جاؤوا به، من هذه الآلام والعذاب، فأمر المقرين بأشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها: كل ذلك ليبلوهم، فمن قبل وصاياه وعمل بها وثبت عليها، كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلاً قبل وصوله إلى الآخرة، أن هدى قلوبهم بنور اليقين، وشرح صدورهم من ضيق الشك والريبة والإنكار والحيرة والدهشة والنفاق، وخلصهم من عذابها. وأما من ترك الوصية ولم يعمل بها، بل خادع ومكر، وأضمر خلاف ما أظهر، وأسر غير ما أعلن، وأخلف الوعد، وأقام على هذه المساوئ والمخازي، كان جزاؤه وعقوبته أن يترك في ريبة متردداً في دينه، متحيراً شاكاً مذبذباً معذباً قلبه، متألمة نفسه، كما ذكر الله تعالى بقوله:" فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوا، وبما كانوا يكذبون" وقوله تعالى:" ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون؛" وقال لنبيه- صلى الله عليهم وسلم:" هم العدوفاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون؛" فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بإفضاله وإنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا، قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قوماً آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا من وصاياه ولم يعملوا بها.
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 14:53 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.30851 seconds with 12 queries