أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > المكتبة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10/06/2006   #109
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل وأعلم يا أخي- أيدك الله، بأنه- جل ثناؤه-

قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها: كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللاً وأسباباً ليرقيهم فيها وينقلهم بها حالاً بعد حال، إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
وأعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها، ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها، جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هوأشرف وأجل منها. ومن جهل قدر النعمة في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها، كان جزاؤه أن يترك مكانه، ويوقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هوعقوبته. والمثال في ذلك ما تقدم ذكره في أمر المؤمنين المقرين المخلصين الصادقين، والمنافقين المخادعين المرتابين، وقد ذكر الله تعالى علامات المؤمنين المخلصين الموقنين الصادقين وأعمالهم وأخلاقهم في آيات كثيرة من سور القرآن، وذكر أيضاً علامات المنافقين المرتابين المرائين في آيات كثيرة، وخاصة ما في سورة الأنفال، وسورة التوبة، وسورة الأحزاب، بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا.
ويروى في الخبر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- كان يأمر الناس أيام إمارته بقراءة هذه السور، ويأمرهم بحفظها ودرسها، وأن يأخذوا أنفسهم بواجب ما ذكر فيها وبراءة ساحتهم مما وصف فيها من صفات المنافقين المرتابين الشاكين المرائين المخادعين. فينبغي لك يا أخي أن تجعل هذا الذي ذكرنا دليلاً وقياساً لك في كل ما تعامل به ربك طول عمرك وأيام حياتك، إن أردت أن يرقيك برحمته في المراتب، ويرفعك في الدرجات، حتى يبلغك أقصاها وأشرفها في الدنيا والآخرة جميعاً، كما وعد الله تعالى ذلك بقوله:" يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات".

عندما تتأجج نار التحششيش .. تنأى الحشائش بالحشيش الحشحشش ..
وحشيشة التحشيش .. عمر أحشش ..
حش الحشائش في حشيش محشش ..
حشاش يا أخا الحشيش ..
حشش على تحشيش محششنا القديم ..
سوريا الله حاميا
jesus i trust in you
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #110
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في فضل طلب العلم

وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله- جل ثناؤه- قد فرض على المؤمنين أشياء كثيرة يفعلونها، ونهاهم عن أشياء كثيرة يتركونها، كما قلنا آنفاً. ولكن ليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ولا أجل ولا أشرف ولا أنفع لعبد، ولا أقرب له إلى ربه بعد الإقرار به، والتصديق لأنبيائه ورسله فيما جاؤوا به وخبروا عنه، من العلم وطلبه وتعليمه. وبيان ذكر شرف العلم، على ما ذكرناه من فضيلته وجلالته وفضل طلبه وتعلمه، ما روي عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: تعلموا العلم فإن في تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحدة والوحشة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والمقرب عند الغرباء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة يهتدى بهم، وأئمة في الخير تقتفى آثارهم، ويوثق بأعمالهم، وينتهى إلى آرائهم، وترغب الملائكة في خلتهم؛ وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها، لأن العلم حياة القلب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام؛ به يطاع الله، وبه يعبد، وبه يعلم الخير، وبه يتورع، وبه يؤجر، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، وأعلم أن العلم إمام العمل، والعمل تابعة، ويلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #111
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل وأعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن

طالب العلم يحتاج إلى سبع خصال أولها السؤال والصمت، ثم الاستماع، ثم التفكر، ثم العمل به، ثم طلب الصدق من نفسه، ثم كثرة الذكر أنه من نعم الله، ثم ترك الإعجاب بما يحسنه. والعلم يكسب صاحبه عشر خصال محمودة، أولها الشرف وإن كان دنياً، والعز وإن كان مهيناً، والغنى وإن كان فقيراً، والقوة وإن كان ضعيفاً، وانبل وإن كان حقيراً، والقرب وإن كان بعيداً، والقدر وإن كان ناقصاً، والجمود وإن كان بخيلاً، والحياء وإن كان صلفاً، والمهابة وإن كان وضيعاً، والسلامة وإن كان سقيماً. وقال الله- جل ذكره:" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوالألباب" وقال سبحانه:" إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال:" ومن يؤت الحمة فقد أوتي خيراً كثيراً" وآيات كثيرة في القرآن في مدح العلماء وفضائلهم، وحسن الثناء عليهم في مثل ذلك.
وأعلم يا أخي بأن للعلماء، مع كثرة فضائل العلم، آفات وعيوباً وأخلاقاً ردية تحتاج أن تتجنبها وتتحذرها، فمنها الكبر والعجب والافتخار. وقد روي عن رسول الله أنه قال: من ازداد علماً ولم يزدد لله تواضعاً، وللجهال رحمة، وللعلماء مودة، لم يزدد من الله إلى بعداً. ومنها كثرة الخلاف والمنازعة فيه، وطلب الرياسة به، والتعصب والعداوة والبغضاء فيما بينهم. وقال لقمان الحكيم لبنه: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم، كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر؛ وإياك ومنازعة العلماء، فإن الحكمة نزلت من السماء صافية، فلما تعلمها الرجال صرفوها إلى أهواء أنفسهم. ومن آفات العلماء الخوض في المشكلات، والترخيص؛ في الشبهات، وترك العمل بموجبات العلم. ومن آفات العلماء أيضاً كثرة الرغبة في الدنيا وشدة الحرص في طلبها. وقد قيل في المثل: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والحرص في طلبها مرض للنفوس وسقام لها؛ وعلماء أحكام الناموس هم أطباء النفوس ومداووها، فمثل العالم الراغب في الدنيا، الحريص على طلب شهواتها، كمثل الطبيب المداوي غيره وهومريض لا يرجى صلاحه، فكيف يشفي المرريض بعلاجه، وقد قيل إن عالماً زاهداً في الدنيا، يكون عالماً بدين الله، وبصيراً بطريق الآخرة، خير من ألف عالم راغب فيها. وقال المسيح- عليه السلام-: أيها العلماء والفقهاء فعدتم على طريق الآخرة، فلا أنتم تسيرون إليها فتدخلون الجنة، ولا تتركون أحداً يجوزكم فيصل إليها، وإن الجاهل أعذر من العالم، وليس لواحد منهما عذر.
وأعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة، ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة، وذلك أن الملوك والجبابرة والفراعنة والقرون الماضية كانت لهم عقول رضية، وآداب بارعة، وسياسة وحكمة وصنائع عجيبة، وهكذا من كان يعاشرهم وينادمهم ويقرب إليهم، من وزرائهم وكتابهم وعمالهم وقوادهم وعلمائهم وأدبائهم، ولكن هلكوا من أجل إنهم صرفوا تلك القوى والعقول والأفهام وأكثر أفكارهم وتمييزهم ورويتهم في طلب شهوات الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها، بالرغبة الشديدة والحرص والتمني للخلود فيها، وجعلوا أكثر كدهم وسعيهم في صلاح أمور الدنيا، حتى عمروها وأهملوا الآخرة وذكر المعاد، ولم يستعدوا له، وذكروا الدنيا وغفلوا عن الآخرة ولم يتزودوا من الدنيا، وتركوها لغيرهم، ورحلوا عنها كارهين، فصارت تلك النعم وبالاً عليهم، إذ لم ينالوا بها الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هوالخسران المبين.
وإنما أكثر الله سبحانه في القرآن ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم، لكيما يعتبر بهم المعتبرون ممن يجيء بعدهم، ويتعظوا بحالهم، ولا يغتروا بالدنيا كاغترارهم، كما قال الله- جل ذكره:" فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور" وقال:" إنما الحياة الدنيا لعب ولهووزينة" إلى آخر الآية. وقال تعالى ذكره:" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة" الآية.
وقال:" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوباً وخير أملا" وآيات كثيرة في القرآن في ذم الراغبين في الدنيا، والتحذير منها ومن غرورها وأمانيها، كل ذلك نصح من الله-سبحانه- لعباده المؤمنين، ولطف بهم ونظر ورحمة، لئلا تفوتهم الآخرة كما فاتت أولئك، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من يحيا عن بينة، قال الله تعالى:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين".
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #112
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-

بأن من الأخلاق المكتسبة ما هي محمودة منسوبة إلى الملائكة، كما سنبينها بعد، ومنها ما هي مذمومة منسوبة إلى الشيطان، وهي كثيرة نحتاج أن نبينها ونشرحها، ليظهر الفرق بينهما، ويعرفها إخواننا الكرام، فيجتنبوا أخلاق الشياطين ويتركوها، ويتخلقوا بأخلاق الملائكة الكرام ويؤثروها، ويجتهدوا في اكتسابها، إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأربعة الأشياء التي لا تفارق النفس بعد مفارقتها الجسد، وعليها أيضاً تجازى النفوس إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً. وهذه الأربعة الأشياء التي ذكرنا أن النفس تجازى عليها بعد الفراق، أولها الأخلاق المكتسبة المعتادة، والثاني العلوم التعليمية، والثالث الآراء المعتقدة، والرابع الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة. فمن أخلاق الشياطين أولها كبر إبليس، وحرص آدم، وحسد قابيل؛ وأعلم يا أخي بأن هذه الخصال الثلاث هي أمهات المعاصي وأصول الشرور، ولها أخوات مشاكلات لها، وفروع وأغصان متفننات منها نحتاج أن نذكر طرفاً منها ليعلم صحة ما قلنا، ويعرف حقيقة ما وصفنا، فمن أخوات الكبر وأشكاله عجب المرء برأي نفسه، والأنفة عن قبول الحق، وترك الإقرار به، والانقياد لأمر الآمر والناهي الواجب الطاعة، والتعدي والخروج عن الحد الواجب والحق اللازم، والظلم والجور عند القدرة في الحكومات، وترك الإنصاف في المعاملة، والتهاون في الواجبات، والإعراض عن اللوازم من الحقوق، والقحة والصلابة في الوجه في دفع الحق والعيان والضرورات والفحش والسفاهة في الخطاب، والجال، واللجاج في الخصومات، والخرق؛ والنزق في العشرة، والحدة والطيش في التصرف، والغش والمكر في المعاملة، والاستصغار والاحتقار لأبناء الجنس، والاستطالة عليهم والافتخار في الأمور بما خص من المواهب، والإنكار لفضل من فضل عليه، والبغي والعدوان وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأفعال السيئة والأعمال القبيحة.
ومن أخوات الحرص وأشكاله الطمع الكاذب، وشدة الرغبة، والطلب الحثيث، والعجلة في السعي، وتعب البدن، وعناء النفس، وكد الروح في الجمع والإدخار، والاستكثار والاحتكار من خوف الفقر، والبخل والمنع والشح واللؤم والنكد؛ وما يتبعها من الشؤم والخذلان، وقلة الانتفاع بالموجود، والحرمان من المذخور، والمضايقة في المعاملة، والمناقشة في المحاسبة، وسوء الظن بالأمين، والتهمة للثقات والمؤتمنين، والخيانة في الأمانة، وطلب الحرام، وارتكاب الفحشاء، وإضمار القلب على الإضرار، وإظهار الكذب لكتمان السر، والحيل في أسباب الطلب من البيع والشراء، والغش في الأمتعة، وقلة النصيحة في الصنائع، والحلف واليمين الكاذبة عند الاعتذار في الحكومات، وأقاويل الزور في أسباب الخصومات، والعداوة والتعدي في الحدود، وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأقاويل الباطلة والأفعال القبيحة والعمال السيئة.
ومن أخوات الحسد وأشكاله الحقد والغل؛ والدغل؛ ثم تدعوهذه الخصال إلى المكاشفة بالعداوة، والبغضاء، والبغي، والغضب والحرد، والتعدي والعدوان، وقساوة القلب وقلة الرحمة والفظاظة والغلظ، والطعن واللعن والفحشاء؛ وتكون سبباً للخصومة والشر والحرب والقتال، إن أمكن ذلك جهاراً وإعلاناً، وإلا يدعوإلى المكر والحيلة والخداع والغدر والخيانة والسعاية والغيبة والنميمة والزور والبهتان والكذب والمداهنة والنفاق والرياء؛ ويصير ذلك سبباً لتشتيت الشمل، وتفريق الجميع، وقطيعة الرحم، والبعد من الإخوان، ومفارقة الإلف، وخراب الديار، ووحشة الوحدة، والحزن والغم، وألم القلب، وهموم النفس، وعذاب الأرواح، وتنغيص العيش، وسوء المنقلب وخسران الدنيا والآخرة؛ نعوذ بالله من هذه الخصال والشرور، والأخلاق والأفعال القبيحة، والأعمال السيئة الدنية التي تنكرها العقول السليمة والنفوس المهذبة والأرواح الطاهرة.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن المتكبر عن قبول الحق عدوللطاعة، وقد قيل إن الطاعة هي اسم الله الأعظم الذي به قامت السموات والأرض بالعدل. وضد الكبر التواضع للحق، والقبول له، ويقال في المثل السائر: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #113
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: قال الله سبحانه وتعالى: الكبر ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما كببته في نار جهنم على منخريه. قال الله- عز وجل- في القرآن:" أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" وقيل إن الحرص الشديد ربما كان سبب الحرمان؛ والحاسد عدولنعم الله، وليس للحاسد إلا ما حسد. وقال الله جل ذكره:" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" فاحذر يا أخي من هذه الخصال والأخلاق والأعمال، فإنها من أخلاق الشياطين وجنود إبليس أجمعين الذين يبغض بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، كما ذكر الله تعالى بقوله:" كلما دخلت أمة لعنت أختها" وقال تعالى:" لا مرحباً بهم، إنهم صالوالنار" وآيات كثيرة في القرآن في ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم.
فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها. فإن قيل: ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة، مركوزة في الجبلة، فنقول: أما التكبر فهو من كبر النفس، وكبر النفس هومن على همتها، وعلوالهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة، وذلك أن الناس محتاجون في تصاريف أمورهم إلى رئيس يسوسهم على شرائط معلومة، كما ذكر ذلك في كتب السياسات بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفاً منها في رسالة سياسة النبوة والملك، فإذا لم يكن الرئيس عالي الهمة، كبير النفس، لم يصلح للرياسة؛ وكبر النفس يليق بالرؤساء، ويصلح للملوك، وسياسة الجماعات؛ فأما الرعية والأعوان والأتباع والخدم والعبيد فلا يصلح لهم كبر النفس ولا يليق بهم.
وأقول بالجملة إن كبر النفس في كل وقت وفي كل شيء ليس بأمر محمود، ولكن إذا استعمل كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، سمي ذلك محموداً، فيكون عامل ذلك طلق النفس ذا مروءة، عالي الهمة عفيفاً كريماً جميلاً ديناً، ويكون صاحبه محموداً معظماً مبجلاً مهيباً. وأما التكبر عن قبول الحق وترك الإقرار بالواجب، والفسق؛ عن أمر الرئيس، وترك الانقياد والإذعان للطاعة المفروضة، فهو المذموم، وهوهوالشر والمعصية والمنكر.
وأقول بالجملة: ينبغي لك يا أخي أن تعلم وتتيقن بأنك كما تريد وتحب وتشتهي من عبدك أن ينقاد لأمرك، وكذلك خادمك وأجيرك وتابعك وزوجك وولدك، ولا يتكبرون عليك، ولا يخرجون عن أمرك، ولا يجاوزوننهيك، فهكذا ينبغي ويجب أن تكون لرئيسك، ومن هوفوقك في الأمر والنهي، حتى تكون عادلاً منصفاً محقاً ممدوحاً مثاباً مجازى ملتذاً فرحاً مسروراً منعماً مكرماً. فقد تبين، بما ذكرنا، ما الحكمة والفائدة في وجود التكبر في طباع النفس المركوزة في جبلتها، ومتى يكون صاحبه مذموماً معاقباً، ومتى يكون محموداً مثاباً. وأما كون الحرص في طلب المرغوب فيه الموجود في الخليقة، المركوز في الجبلة، فهو من أجل إن الإنسان لما خلق محتاجاً إلى مواد لبقاء هيكله ودوام شخصه مدة ما، وإبقاء صورته في نسله زماناً ما، جعل في طبعه وجبلته الرغبة فيها والحرص في طلبها والجمع لها والادخار والحفظ لوقت الحاجة إليها، إذ كان ليس في كل وقت وفي كل مكان موجوداً ما يريده ويحتاج إليه. فإذا رغب الإنسان فيما يحتاج إليه، وطلب ما ينبغي له، وجمع مقدار الحاجة وحفظه إلى وقت الحاجة، ثم استعمل ما ينبغي كما ينبغي، وأنفق بقدر الحاجة، فهو يكون محموداً عادلاً منصفاً محقاً مصيباً مأجوراً ملتذاً مثاباً منعماً فرحاً مسروراً مكرماً.
فقد بينا ما الحكمة والفائدة في كون الرغبة والحرص في الجبلة المركوزة؛ فإذا طلب ما لا يحتاج إليه كان مذموماً، أوجمع أكثر مما يحتاج إليه كان متعوباً، أوجمع ولم ينفق ولم يستعمل في وقت الحاجة إليه كان مقتراً محروماً؛ فإن أنفق واستعمل فيما لا ينبغي كان مسرفاً مخطئاً جائراً معاقباً معذباً. وروي عن رسول الله- صلى الله عليه وآله - أنه قال:" من طلب الدنيا تعففاً عن المسألة، وتوسعاً على عياله، وتعطفاً على جاره، لقي الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثراً مفاخراً مرائياً، جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال الله به بأي واد هلك.
فأما كون الحسد المركوز في الجبلة، الموجود في الخليقة، فهو من أجل التنافس في الرغائب من نعم الله، وذلك أن نعم الباري تعالى على خلقه كثيرة لا يحصي عددها إلا هو، ولم يمكن أن يجمع عددها كلها على شخص واحد، ففرقت في الأشخاص بالقسط؛ كما شاء ربهم- عز وجل- وضعها، وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته، فلم يخل أحد من الخلق من نعم الله وآلائه، ولا استوفاها أحد من خلقه. فمن رأى على أحد من الخلق نعمة ليست عليه بعينها، فلينظر هل عليه نعمة ليست بعينها على ذلك الشخص، فيقابل هذه بتلك، ويشكر الله، ويسأله أن يديمها عليه. ومن رأى على أخيه نعمة ليس عليه مثلها، فليسأل الله تعالى من فضله، ولا يتمن زوال تلك عن أخيه، فإن ذلك هوالحسد بعينه، وهوالمذموم الذي يكون الحاسد به معذبة نفسه، مؤلماً قلبه، عدواً لنعم الله على خلقه.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #114
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في الحرص والزهد ودرجات الناس

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأنك إن أنعمت النظر بعقلك، وجودت الفكر برويتك، وتأملت أمور الدنيا، واعتبرت تصاريف أحوال الناس، تبينت وعرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدة الرغبة في الدنيا، والحرص على طلب شهواتها ولذاتها ورياستها، وتمني الخلود فيها. وإذا تأملت واعتبرت وجدت أس كل خير وأصل كل فضيلة الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ونعيمها ولذاتها، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر المعاد في آناء الليل وأطراف النهار، والاستعداد للرحلة إليها.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الخلق كلهم عبيد الله وأهل طاعته طوعاً أوكرهاً، ولكن منهم خاص وعام، وما بينهما طبقات متفاوتة الدرجات، فأول الخواص هم العقلاء الذين توجه نحوهم الخطاب بالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم والترغيب والترهيب؛ ثم إن الله تعالى بواجب حكمته رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء، وهم المقرون والقابلون أوامره ونواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس وموجبات العقول، التاركون لما نهوا عنه سراً وعلانية. ثم إن الله- سبحانه- رفع من المؤمنين المقرين المخلصين، واصطفى منهم طائفة وفضلهم على غيرهم، وهم العلماء والفقهاء الذين اجتهدوا في تعلم أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وشرائطه بواجبها، كما ذكر الله تعالى بقول:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين آوتوا العلم درجات".
ثم إن الله- جل اسمه- رفع من جملة العلماء طائفة، وهم التائبون العابدون الصالحون الورعون المتقون المحسنون بما استحقوا باجتهادهم من القيام بواجبات أحكام الناموس، درجات، كما ذكر الله- عز وجل- بقوله:ط أمن هوقانت آناء الليل وقائماً، يحذر الآخرة ويرجورحمة ربه"؛ الآية. وقال تعالى:" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوالألباب" وقال تعالى: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر هؤلاء ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
ثم إن الله- جل ثناؤه- رفع من هؤلاء طائفة في الدرجات، وهم الزاهدون في الدنيا، العارفون عيوبها، الراغبون في الآخرة، المحققون بها، الراسخون في علمها، وهم أولياء الله المخلصون، وعباده المؤمنون، وصفوته من خلقه أجمعين، الذين سماهم الباري تعالى أولي الألباب، وأولي الأبصار، وأولي النهى، وأخلصهم بخالصه ذكرى الدار التي هي الحيوان؛ وإليهم أشار بقوله سبحانه:" وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار" وقوله:" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وآيات كثيرة في القرآن في ذكرهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن للمؤمنين فضائل كثيرة من محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وفضائل الأعمال وجميل الفعال؛ لا يمكن أن تجمع كلها في شخص واحد، بل في عدة أشخاص، فمقل ومكثر، ولكن ليس بعد العلم والإيمان خصلة للمؤمنين، ولا خلق من أخلاق الكرام أشرف ولا أجل ولا أفضل من الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وذلك إن الزهد في الدنيا، إنما هوترك فضول متاع الحياة الدنيا وترك طلب شهواتها، والرضى بالقليل، والقناعة باليسير من الذي لا بد منه، وهذه خصلة تتبعها خصال كثيرة من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وجميل الأفعال. وضد الزهد هوالرغبة في الدنيا والحرص في طلب شهواتها، وهي خصلة تتبعها أخلاق ردية وأفعال قبيحة وأعمال سيئة، كما تقدم ذكره، وذلك أن من خصال الزهاد وشعارهم قلة الأكل وترك الشهوات، وفي قلة الأكل وترك الشهوات خصال محمودة كثيرة، ومناقب حسنة جميلة، فمنها ما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أجيعوا أنفسكم تفرح بكم سكان السماء. ومنها أن الإنسان يكون أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأزكى فهماً، وأجلى قلباً، وأقل نوماً، وأصدق رؤيا، وأخف نفساً، وأحد بصراً، وألطف فكراً، وأصغى سمعاً، وأصح حساً، وأثبت رأياً، وأقبل للعلم، وأسرع حركة، وأسلم طبيعة، وأقل مؤنة، وأوسع مواساة، واكرم خلقاً، وأثبت صحبة، وأحلى في القلوب. وقلة الأكل، إذا ساعدته القناعة، كان مزرعة الفكر، وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة، ومصباح القلب، وطبيب البدن، وقاتل الشهوات، وهادم الوسواس، ومنزل الإلهام، وعصمة من شر النفس، وأماناً من شدة الحساب؛ والشكر له تابع، وكفر النعمة عنه زائل.
فصل في آفات الشبع
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #115
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في آفات الشبع وكثرة الأكل وخصال الزهاد

يروى عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد ذهاب نبيها- صلى الله عليه وسلم- الشبع وكثرته؛ وذلك أن القوم إذا شبعت بطونهم، سمنت أبدانهم، وقست قلوبهم، وجمحت نفوسهم، واشتدت شهواتهم. ومن آفات الشبع وكثرة الأكل عفونة القلب، ومرض الأجساد، وذهاب البهاء، ونسيان الرب، وعمى القلوب، وهزال الروح، وسلاح الشياطين، وحراجة الدين، وذهاب اليقين، ونسيان العلم، ونقصان العقل، وعداوة الحكمة، وذهاب السخاء، وزيادة البخل، ومزرعة إبليس، وترك الأدب، وركوب المعاصي، واحتقار الفقراء، وثقل النفس، وإدرار الشهوات، وزيادة الجهل، وكثرة فضول القول، ويزيد في حب الدنيا، وينقص الخوف، ويكثر الضحك، ويحبب العيش، وينشي ذكر الموت، ويهدم العبادة، ويقل الإخلاص، ويذهب بالحياء، ويهيج عادة السوء، ويطيل النوم، ويكثر الغفلة، ويسبب تفريق الأصحاب، ويحرج الأعمال؛ ويكدر الصفو، ويذهب الحلاوة من القلوب، ويحبب الشيطان، ويبغض الرحمن، ويكثر الغم يوم الحساب، ويقرب من النيران، ويبعد من الجنان، لأنه سبب المعاصي، ويحرك الكبر، ويثبت الحسد، ويقل الشكر، ويذهب الصبر، فهذه خمسون خصلة تهيج من الشبع وكثرة الأكل.
ويقال إن المعدة قدر الطعام، ونارها حرارة الكبد، فإذا لم ينطبخ كان سبب الأمراض المختلفة، فحسب ابن آدم أكلات تعمر بطنه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس.
ومن خصال الزهاد وشعارهم العفة والتصون، فهذه خصلة يتبعها أخلاق جميلة، وخصال محمحودة، وفضائل كثيرة، فمنها الكف والورع والحفظ والوقار والتقى والأمانة والمروءة والكرم واللين والسكون والمراقبة والتوقي والصحة والسلامة وحسن الثناء عليهم والتزكية لهم والغبطة والسرور ومحبة القلوب وبراءة الساحة وسكون الناس إليهم والثقة بهم والإجلال لهم والإكرام. ومن خصال الزهاد أيضاً وشعارهم السخاء والكرم والجود والبذل والمواساة والإحسان والإيثار والإفضال والرأفة والرحمة والتودد والبر والمعروف والصدقة والهدية. ومن خصالهم أيضاً وشعارهم الحلم والأناة والتثبت والرزانة والتؤدة والرفق والمداراة والسكينة والوقار والحياء والصفح والعفووالتغافل والشفقة والرحمة والعدل والنصفة والمحبة والقبول والإجابة والتواضع والاحتمال. ومن خصالهم أيضاً الرضى والقناعة والتجمل والكفاف واليأس من الطمع والراحة من العناء والتسليم للقضاء والصبر في الشدائد والبلوى وحسن العزاء. ومن خصالهم وشعارهم التوكل على الله والثقة به والطمأنينة إليه والإخلاص له في العمل والدعاء والصدق بالقول والتصديق في الضمير والنصح للإخوان والوفاء بالعهد والحزم والعزم في عمل الخير والإحسان والبر والمعروف، والمسارعة في الخيرات رغباً ورهباً، وهم من خشية ربهم مشفقون؛ فهؤلاء هم أولياء الله وخالص عباده من المؤمنين الذين يحبون الله ويحبهم، كما ذكر بقوله:" والذين آمنوا أشد حباً لله" وهم الذين يتمنون لقاءه، لما يرجون من التحية؛ قال الله تعالى:" تحيتهم يوم يلقونه سلام" فهل لك يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن ترغب في صحبتهم، وتقصد مناهجهم، وتقفوأثرهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسير بسيرتهم، لعلك تفوز بمفازتهم" لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون".
وأعلم يا أخي بأن الطريق إلى هذه الخصال التي وصفناها هوأن تبتدئ أولاً بسنة الناموس، فتعمل بوصايا صاحبه كما هي في كتب النواميس الإلهية يعرفها أكثر علماء أهل الشريعة قد استغنينا عن ذكرها، والذي نوصيك به نحن أن تنزع عن نفسك القشور التي تعلقت عليها من صحبة الجسد، وتخلع اللباس الذي أحاط بها من الأمور الطبيعية والصفات الجسمانية، وتجلوعنها الصدأ الذي تركب عليها من أخلاط البدن وسوء الأخلاق وتراكم الجهالات وفساد الآراء، وتنحي عنها هذه الأشياء ليصفولك اللب والمخ وهوجوهر نفسك النيرة الشفافة الروحانية النورانية التي هي كلمة من كلمات الله وروح منه نفخها في الجسد وأحياه بها، وهي التي مدحها الله تعالى بقوله:ومثل كلمة طيبة" كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" الآية. وقال:" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" يعني به روح المؤمن إذا فارقت الجسد صعد بها إلى سعة السموات وفسحة الأفلاك فيكون سائحاً هناك حيث شاء ذهب وجاء؛ كما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح بالنهار في الجنة على رؤوس أشجارها وأنهارها وثمارها، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش. فهذه حال أرواح المؤمنين الصالحين بعد الموت، وأما حال أرواح الكافرين والفاسقين والفاجرين والمنافقين فلا يصعد بها إلى هناك بل تحجب دون السماء وتهيم في هاوية البرزخ إلى يوم يبعثون؛ وإليهم أشار بقوله تعالى:" لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة" إلى قوله:" وكذلك نجزي الظالمين" لأنه لا يليق بها ذلك المكان الشريف والمحل الأعلى، كما لا يليق بالأوساخ من الناس والأقذار منهم مجالس الملوك والسادة والكرام.
فإن أردت يا أخي أن تعرج بروحك إلى هناك بعد فراق الجسد، فاجتهد قبل ذلك، وأغسلها من درن الأخلاق الرديئة ووسخ الآراء الفاسدة، وأخرجها من ظلمات الجهالات المتراكمة، وجنبها الأعمال السيئة، وألبسها لباس التقوى، وزمها عن الانهماك في الشهوات الجرمانية والغرور باللذات الجسمانية. فأما الآراء الفاسدة فقد بيناها في رسالة لنا، وأما كيفية الخروج من الجهالات المتراكمة، فقد بيناها في إحدى وخمسين رسالة عملناها في فنون العلوم وغرائب الحكم وطرائف الآداب، وأما تهذيب الأخلاق فقد وصفنا بعضها في هذه الرسالة وبعضها في رسالة عشرة إخوان الصفاء، والأصدقاء الكرام، فاقرأهما واعمل بما ذكرنا فيهما، وعلمهما إخوانك وأصدقاءك، فإنك بذلك تفوز وتنال الزلفى عند ربك أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #116
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في بيان علامات أولياء الله

عز وجل وعباده الصالحين

وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن لأولياء الله صفات وعلامات كثيرة يعرفون بها ويمتازون عمن سواهم، وهكذا أيضاً لأعداء الله علامات وصفات يعرفون بها ويمتازون عن غيرهم، نحتاج أن نذكر طرفاً منها ليعلم كل عاقل فهم مميز مستبصر، إذا أراد أن يعرف من أي الفريقين هولم يخف عليه ذلك.
وأعلم يا أخي بأن العاقل الفهم المستبصر هوالذي يعرف الفرق بين الأشياء المتشابهة، ويميز بين الأمور المتجانسة ويفضل بعضها على بعض بعلامات وصفات مختصة بواحد واحد منها، فنقول الآن إن من علامات أولياء الله الصالحين المختصين به ما ذكره الله تعالى بقوله لإبليس اللعين: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وحكي أيضاً قول إبليس مجاوباً له: فبعزتك" لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين" وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله وصفاتهم وعلاماتهم وهي مثل قوله تعالى:" وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون" إلى آخر الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله تعالى ومدحهم وصفاتهم وعلاماتهم وحسن الثناء عليهم.
ومن علاماتهم وصفاتهم أيضاً حفظ الجوارح من كل ما لا يحل في الشريعة ولا يجوز في السنة ولا يحسن في المروءة. ومن علاماتهم وصفاتهم حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والبهتان والزور والنميمة والفحش والسفاهة والطعن واللغووالوقيعة في أحد من الخليقة عدواً كان أوصديقاً، مخالفاً كان أومؤالفاً. ومن علاماتهم أيضاً وصفاتهم وهي العمدة والأصل في جميع الخيرات والخصال المحمودة سلامة الصدر من الغل والغش والدغل والحسد والبغض والتكبر والحرص والطمع والمكر والنفاق والرياء وما أشبهها من الخصال المذمومة، ومما هي مملوءة منها قلوب أبناء الدنيا الراغبين فيها، المكبين عليها، الطالبين لها. ومن علاماتهم أيضاً وصفاتهم المختصة بهم الرحمة والتحنن ورقة القلب على كل ذي روح يحس بالآلام. ومن خصالهم أيضاً النصيحة والشفقة والرفق والمداراة والتلطف والتودد لكل من يصحبهم ويعاشرهم. ومن علامات أولياء الله وعباده المخلصين، ومن أخص صفاتهم التي يمتازون بها عن غيرهم هي معرفتهم بحقيقة الملائكة وكيفية إلهامها. وقد ذكرنا طرفاً من هذا العلم في رسالة الإيمان وماهيته وخصال المؤمنين. ومن دقيق معرفتهم ولطيف علومهم معرفة حقيقة الشياطين وجنود إبليس اللعين، وكيفية وسواسهم ومسهم كما ذكر الله سبحانه بقوله:" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان، تذكروا، فإذا هم مبصرون، وإخوانهم؛ يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون".
ومن علاماتهم وصفاتهم ودقيق علومهم ولطيف أسرارهم معرفة البعث والقيامة والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجواز، وذلك أن أكثر علماء أهل الشرائع النبوية وفقهائهم المتعبدين فيها، متحيرون في معنى الإبليسية وحقيقة إبليس المخاطب لرب العالمين بقوله: " أنظرني إلى يوم يبعثون" وأكثر العلماء شاكون في وجود هذا القائل:" لأغوينهم أجمعين" وأكثر المتفلسفة منكرون قصته مع آدم وعداوته له، وخطابه لرب العالمين، ومواجهته له بخشونة الخطاب، بما ذكر الله سبحانه في القرآن في نحومن خمسين آية مثل قوله:" ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" وآيات كثيرة في أمثال هذه الحكايات موجودة في التوراة والإنجيل، وصحف الأنبياء- عليهم السلام- كثيرة، وقد بينا نحن معانيها في رسالة البعث والقيامة، ولكن نريد أن نذكر في هذا الفصل منها طرفاً في كيفية عداوة أولياء الله تعالى مع إبليس، وكيفية محاربتهم مع الشياطين ومخالفتهم معهم طول أعمارهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وإنه لا يخفى عليهم مكايدهم، ولا يذهب عنهم غرورهم وأمانيهم.
فصل فما حكاه ولي من أولياء الله عن كيفية معرفة مكايد الشياطين ومحاربته معهم ومخالفته جنود إبليس أجمعين قال العالم المستبصر لأخ له من أبناء جنسه فيما جرى بينهما من المذاكرة في أمر الشياطين وعداوتهم: كيف عرفت الشياطين ووساوسهم، قال: إني لما نشأت وتربيت، وشدوت من الآداب طرففاً، وأخذت من العلم نصيباً، وعقلت من أمر المعاش قسطاً، وعرفت أمر المنافع والمضار، تبينت ما يجب علي من أحكام الناموس من الأوامر والنواهي والسنن والفرائض والأحكام والحدود والوعد والوعيد والذم والمدح على الأعمال والأفعال وعلى تركها، ثم قمت بواجبها جهدي وطاقتي بحسب ما وفقت له وقضي علي ويسر لي. ثم تفكرت في قول الله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدواً" وقوله:" إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى، وتفكرت في قول النبي- صلى الله عليه وآله-: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، يعني مجاهدة النفس، وتصديقه قول الله تعالى:" ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" وفكرت في قوله- عليه السلام-" لكل إنسان شيطانان يغويانه" وقوله:" إن شيطاني أعانني الله عليه فأسلم"، وقوله:" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" وتصديق ذلك قول الله تعالى:" من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس" إلى آخر السورة، وقوله تعالى:" إنه يراكم هووقبيلته من حيث لا ترونهم" وآيات كثيرة في القرآن في مثل هذا المعنى وأحاديث مروية أيضاً في هذا المعنى كثيرة.
فلما سمعت ما ذكر الله تعالى وتفكرت فيما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى، نظرت عند ذلك بعقلي، وفكرت بقلبي، وتأملت برويتي، فلم أر أحداً في ظاهر الأمر يضادني في هذا المعنى ولا يخالفني ولا يعاديني من أبناء جنسي، وذلك لأني وجدت الخطاب متوجهاً عليهم كلهم مثل ما هومتوجه علي، ووجدت حكمهم في ذلك حكمي سواء لا فرق بيني وبينهم في هذا الأمر، فعلمت أن هذا أمر عموم يشمل جميع بني آدم ويعمهم. ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت حقيقة معنى الشياطين، وكثرة جنود إبليس اللعين أجمعين، ومخالفتهم بني آدم، وعدواتهم لهم، ووساوسهم إياهم، هي أمور باطنة وأسرار خفية مركوزة في الجبلة، مطبوعة في الخليقة، وهي الأخلاق الرديئة، والطباع المذمومة المنتشئة منذ الصبا مع الإنسان بالجهالات المتراكمة، واعتقادات آراء فاسدة من غير معرفة ولا بصيرة، وما يتبعها من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة المكتسبة بالعادات الجارية، الخارجة من الاعتدال بالزيادة والنقصان، المنسوبة إلى النفس الشهوانية والنفس الغضبية، ثم تأملت ونظرت، فوجدت الخطاب في الأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم متوجهاً كله إلى النفس الناطقة العاقلة المميزة المستبصرة، ووجدتها هي بما توصف من الأخلاق الجميلة والمعارف الحقيقة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية ملكاً من الملائكة بالإضافة إلى النفس الشهوانية والغضبية جميعاً. ووجدت هاتين النفسين، أعني الشهوانية والغضبية، بما توصفان به توصفان به من الجهالات المتراكمة، والأخلاق المذمومة، الطباع المركوزة، والأفعال القبيحة التي لهما بلا فكر ولا روية كأنهما شيطانان بالإضافة إلى النفس الناطقة.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #117
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت جميع الأعمال الزكية والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة إنما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة. ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية، والعادات الجارية العادلة، أوما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت عند ذلك، وعرفت بهذا الاعتبار أن أصل جميع الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية، والمركوزة في الجبلة، وتبين لي وعرفت أيضاً أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا من غير بصيرة، وأما ما كانت مركوزة في الجبلة؛ فلما تبين لي ما قلت، وعرفت حقيقة ما وصفت، تأملت قول النبي-صلى الله عليه وعلى آله أجمعين: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وقول الله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدواً" يعني خالفوه وحاربوه كما تحاربون أعدائكم المشركين، فتبين لي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم وقول الله- عز وجل- أن العدوجنسان والعداوة نوعان والجهاد قسمان: أحدهما ظاهر جلي، وهوعداوة الكفار والمخالفين في الشريعة، وحربهم وجهادهم، والاخر باطن خفي، وهوعداوة الشياطين المخالفين في الجبلة المتضادين في الطبيعة، وتبين أن حربهم وعداوتهم وخلافهم هي الحقيقة، وعداوة الكفار وحربهم هي العرضية. وذلك أن عداوة الكفار هي من أجل أسباب دنيوية، وعداوة الشياطين من أجل أسباب دينية، وإن غلبتهم وظفرهم يعرض منها شقاوة الدنيا، ويفوت العز والسلطان والتمتع باللذات الدنيوية ونعيمها وطيب عيشها، ثم تزول يوماً ما. وأما عداوة الشياطين وغلبتهم وظفرهم فيعرض منها شقاوة الآخرة وعذابها، ويفوت عزها وسلطانها ونعيمها ولذاتها وسرورها وفرحها وروحها وريحانها ودوامها، فبحسب التفاوت ما بين هذين الأمرين، قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم:" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وما ذكر الله سبحانه في القرآن في عدة سور في آيات كثيرة من التحذير من مكر الشياطين والغرور بخطراتهم، والأمر بمخالفتهم وعداوتهم والجهاد لهم، إذ كان الخطب فيهم أجل والخطر أعظم، بحسب التفاوت ما بين السعادتين في الدنيا والآخرة والشقاوة فيهما، فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت، تبين لي أعدائي وشياطيني ومخالفي ومن يريد أن يغويني عن رشدي ويضلني عن هداي الذي دعاني إليه ربي وإلهي وأوصاني به، وما نصحني نبيي- عليه السلام- ببيانه لي، وعلمت أني إن لم أقبل وصية ربي ونصيحة نبيي، وأني متى توانيت وتركت الاجتهاد في مخالفة أعدائي وعدواتهم غلبوني وظفروا بي، وأسروني وملكوني واستخدموني في أهوائهم ومراداتهم المشاكلة لأفعالهم السيئة، وصارت تلك الأشياء عادة لي وجبلة في وطبيعة ثانية، فتصير نفسي الناطقة التي هي جوهرة شريفة شيطانة مثلهم، فأكون قد هلكت وبقيت في عالم الكون والفساد مع الشياطين معذباً كما قال الله سبحانه:" كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها" الآية، وكقوله تعالى: " لابثين فيها أحقاباً" الآية.
ثم تفكرت وعرفت وتبين لي أني إذا قبلت وصية ربي ونصيحة نبيي، واقتديت بهما، واستعنت بربي وشمرت واجتهدت وخالفت هوى نفسي الشهوانية، وعاديت نفسي الغضبية، وحاربت أعدائي المخالفين لنفسي الناطقة، فإني أظفر بهم وأغلبهم بقوة ربي، وأملكهم بإذنه، وأستعبدهم بحوله وقوته، وأكون ملكاً عليهم وسلطاناً، ويصيرون كلهم عبيداً لي وخدماً وخولاً، فأصرفهم تحت أمر نفسي الناطقة ونهيها، وتكون هي عند ذلك ملكاً من الملائكة بإظهار أفعالها الحسنة وأعمالها الزكية وأخلاقها الجميلة وآرائها الصحيحة ومعارفها الحقيقية، وتكون هاتان النفسان الباقيتان، أعني الشهوانية والغضبية، عبدين مقهورين لها وتحت أمرها ونهيها، ويكون جميع أخلاقهما وسجاياهما كالجنود والأعوان والخدم والعبيد للنفس الناطقة، مسوسين بسياسة عادلة، جارية على هذا السداد، كما رسم في الشريعة الوضية أوفي الموجبات العقلية، فأكون عند ذلك قد فعلت ما وصاني به ربي بقولي وفعلي بقوله:" إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه" الآية، وقال لنبيه- عليه السلام-:" قل هذه سبيلي أدعوإلى الله" الآية.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت، نظرت عند ذلك في أحوالي وتفكرت في تصاريف أموري، فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة، متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ ولهب لا يخمد، أوكأمواج بحر متلاطمة، أورياح عاصفة تدمر كل شيء، أوكعساكر أعداء حملت في غارة، وذلك أني وجدت حرارة شهوات المأكولات والمشروبات في نفسي عند هيجان نار الجوع والظمأ كأنها لهب النيران التي لا تطفأ، ووجدت نفسي الشهوانية عند الأكل والشرب من الشره كأنها كلاب وقعت على جيف تنهش، ووجدت حرارة الحرص في نفسي عند هيجان نار الطمع كأنها حريق تلهب الدنيا كلها، ووجدت نفسي عند ذلك كأنها وعاء لا يمتلئ من جميع ما في الدنيا من المتاع، ووجدت حرارة الغضب في نفسي الحيوانية عند هيجان نار الحركة كأنها حريق ترمي بشرر كالقصر، ورأيتها عند هيجان حرارة نار الافتخار والمباهاة كأنها خير خليقة الله وأشرفهم، ورأيتها عند هيجان نار حرارة شهوة الرياسة وتملكها لها كأن الناس كلهم عبيد لها وخول، ورأيتها عند هيجان حرارة نار شهوة الكرامة وطلبها كأنها دين لازم حال؛ ورأيتها عند هيجان نار طلب خدمة خولها كأنها ترى الطاعة لها حتماً فريضة كالطاعة لله، وكالحتم والفريضة، ورأيتها عند قضاء ما يجب عليها من حق من حقوق غيرها متوانية في تأديته كأنها ناقلة أجبال، وكأنها عليها أحمال ثقيلة، ورأيت حركتها عند اللهوواللعب كأنها مجنونة والهة سكرانة؛ ورأيتها عند محبة المدح والثناء عليها كأنها أعقل الناس وأفضلهم وأجلهم؛ ورأيتها عند هيجان نار الحسد كأنها عدويريد خراب الدنيا وزوال النعم عن أهلها وحلول النقم بهم؛ وعلى هذا المثال وجدت ورأيت سائر أخلاقها الرديئة وخصالها المذمومة وأعمالها السيئة وأفعالها القبيحة وآرائها الفاسدة، فعملت عند ذلك أن هذه كلها نيران لا تخمد وحريق لا يطفأ، وأعداء لا يتصالحون، وحرب لا تهدأ وقتال لا يسكن، وداء لا يبرأ ومرض لا يشفى، وعناء طويل، وشغل لا يفرغ منه إلى الموت.
فشمرت عند ذلك بالعزم الصحيح والنية الصادقة، وشددت وسطي بإزار الحزم، وأخذت سلاح الاجتهاد، وارتديت براءة الورع، ولبست قميص الحياء وتسربلت سربال الجد، ووضعت على رأسي تاج الزهد في الدنيا، وأثبت قدمي على التقوى، وأسندت ظهري إلى الله بالتوكل عليه، وجعلت شعاري الخوف منه والرجاء، وزممت قوى نفسي بالنهي، وفتحت عيني بالنظر إلى إشارة المعلم، وجعلت دليلي حسن الظن بربي، وسلكت منهاج السنة، وقصدت الصراط المستقيم للقاء ربي وناديته نداء الغريق، ودعوته دعوة المضطر، وأقررت بالعجز والتقصير، وطرحت نفسي بين يديه بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتضرعت إليه مثل الصبي إلى والده الشفيق الرفيق. فلما رآني ربي على تلك الحال سمع ندائي وأجاب دعائي ورحم ضعفي، وأعطاني سؤلي، وأمدني بجنوده، ودلني على مكايد أعدائي، فغزوتهم مع ملائكته، وأظفرني بهم وأعانني عليهم وحرسني من غرورهم وأحرزني من خطواتهم، وسلمت من خطر كيدهم، وفزت بالغنيمة سالماً غانماً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً، وجند الله كانوا هم الغالبين، وحزب الشيطان كانوا هم الخاسرين، وكل هذا من فضل ربي ليبلوني: أأشكر أم أكفر:" ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم".
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #118
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في حكاية أخرى

عن ولي من أولياء الله تعالى لما تفكر في معنى التكليف والبلوى، ولم يتجه له وجه الحكمة فيهما، قال في مناجاته: رب خلقتني ولم تستأمرني، وتوفيتني ولم تستشرني، وأمرتني ونهيتني، ولم تخيرني، وسلطت علي هوى مؤذياً وشيطاناً مغوياً، وركبت في نفسي شهوات مركوزة، وجعلت في عيني دنيا مزينة، وخوفتني وزجرتني بوعيد وتهديد، وقلت لي: فاستقم كما أمرت ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيلي، واحذر الشيطان لا يغوينك، والدنيا لا تغرنك، وتجنب شهواتك لا تردك، وأمانيك وآمالك أن تلهيك. وأوصيك بأبناء جنسك فدارهم، ومعيشة الدنيا فاطلبها من وجه الحلال، وأما الآخرة فلا تنسها ولا تعرض عنها فتخسر الدنيا والآخرة، وذلك هوالخسران المبين، فقد حصلت يا رب بين أمور متضادة، وقوى متجاذبة، وأحوال متغالبة، فلا أدري كيف أعمل، ولا أي شيء أصنع، وقد تحيرت في أموري، وضلت عني حيلتي، فأدركني يا رب وخذ بيدي، ودلني على سبيل نجاتي، وإلا هلكت.
فأوحى الله- سبحانه- إليه وألقى في سره وألهمه وقال: يا عبدي أمرتك بشيء تعاونني فيه، ولا نهيتك عن شيء كان يضرني إن فعلته، بل إنما أمرتك لتعلم بأن لك رباً وإلهاً هوخالقك ومصورك ورازقك ومنشيك وحافظك وهاديك وناصرك ومعينك، ولتعلم بأنك محتاج في جميع ما أمرتك به إلى معاونتي وتوفيقي وهدايتي وتيسيري وعنايتي، ولتعلم أيضاً بأنك محتاج في جميع ما نهيتك عنه إلى عصمتي وحفظي ورعايتي، وإنك محتاج في جميع متصرفاتك وأحوالك في جميع أوقاتك من أمر دنياك وآخرتك ليلاً ونهاراً إلى تأييدي لك، وإنه لا يخفى علي من أمرك صغيرة ولا كبيرة سراً وعلانية، وليتبين لك وتعرف إنك محتاج ومفتقر إلي، وأنك لا بد لك مني، فعند ذلك لا تعرض عني ولا تنساني، بل تكون في دائم الأوقات في ذكري، وفي جميع أحوالك تدعوني، وفي جميع حوائجك تسألني، وفي جميع متصرفاتك تخاطبني، وفي جميع خلواتك تناجيني وتشاهدني وتراقبني، وتكون منقطعاً إلى عن جميع خلقي، ومتصلاً بي دونهم، وتعلم أني معك حيث ما تكون أراك ولا تراني، فإذا عرفت هذه كلها، وتيقنت وبان لك حقيقة ما قلت وصحة ما وصفت، تركت كل شيء وراءك، وأقبلت علي وحدك، فعند ذلك أقربك مني وأوصلك إلي وأرفعك عندي وتكون من أوليائي وأصفيائي وأهل جنتي في جواري مع ملائكتي مكرماً مفضلاً فرحاً مسروراً منعماً ملتذاً آمناً أبداً دائماً سرمداً. فلا تظن بي يا عبدي الظن السوء، ولا تتوهم على غير الحق، واذكر سالف إنعامي عليك وقديم إحساني إليك وجميل آلائي لديك، إذ خلقتك ولم تكن شيئاً مذكوراً خلقاً سوياً، وجعلت لك سمعاً لطيفاً، وبصراً حاداً، وحواس دراكة، وقلباً ذكياً وفهماً ثاقباً، وذهناً صافياً، وفكراً لطيفاً، ولساناً فصيحاً، وعقلاً رصيناً، وبنية تامة، وجناناً ثابتاً، وصورة حسنة، وأعضاء صحيحة، وأدوات كاملة، وجوارح طائعة؛ ثم ألهمتك الكلام والمقال، وعرفتك المنافع والمضار؛ وكيفية التصرف في الأحوال والصنائع والأعمال، وكشفت الحجب عن بصرك، وفتحت عينيك لتنظر إلى ملكوتي وترى عجائب فعلي، وتقدير مجاري الليل والنهار، والأفلاك الدوارة والكواكب السيارة؛ وعلمتك حساب الأوقات والأزمان والشهور والأعوام، وسخرت لك ما في البر والبحر من المعادن والنبات والحيوان تتصرف فيها تصرف الملاك، وتتحكم عليها تحكم الأرباب، فلما رأيتك متعدياً وجائراً ظالماً طاغياً باغياً متجاوزاً للحدود والمقدار، عرفتك الحدود والأحكام والقياس والمقدار والعدل والإنصاف والحق والصواب والخير والمعروف والسيرة العادلة، ليدوم لك الفضل والنعم وينصرف عنك العذاب والنقم، وعرضتك لما هوخير وأفضل وأجل وأشرف وأعز وأكرم وألذ وأنعم، ثم أنت تظن بي ظنون السوء وتتوهم غير الحق.
يا عبدي، إذا تعذر عليك فعل شيء مما أمرتك به، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كما قال حملة العرش لما ثقل عليهم حمله. وإذا أصابتك مصيبة، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما يقول صفوتي وأهل ولايتي. وإذا زلت بك القدمان في معصيتي، فقل كما قال صفيي آدم وزوجته:" ربنا ظلمنا أنفسنا" إلى آخر الآية. وإذا أشكل عليك أمر وأهمك رأي وأردت رشداً وقولاً صواباً، فقل كما قال خليلي إبراهيم:" الذي خلقني فهو يهدين، والذي هويطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين" إلى آخر الآيات إلى قوله:" إلا من أتى الله بقلب سليم". وإذا أصابتك مصيبة أوغم أوحزن، فقل كما قال يعقوب إسرائيل:" إنما أشكوبثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون" وقال:" يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن" الآية. وإذا جرت منك خطيئة، فقل كما قال موسى نجيي:" وهذا من عمل الشيطان" الآية. وإذا صرفت عنك معصية، فقل كما قال يوسف الصديق:" وما أبرئ نفسي" الآية. وإذا ابتليت بفتنة فافعل كما فعل داود خليفتي: " فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب". وإذا رأيت العصاة من خلقي والخاطئين من عبادي ولا تدري ما حكمي فيهم فقل كما قال المسيح روحي:" إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم". وإذا استغفرتني وطلبت عفوي فقل كما قال محمد نبيي- صلى الله عليه وآله وأنصاره:" ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أوأخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا؛" إلى آخر السورة. وإذا خفت من عواقب الأمور ولا تدري بماذا يختم لك، فقل كما قال أصفيائي:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد أن هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب".
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #119
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في فضل التوبة والاستغفار والدعاء

وأعلم يا اخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله- عز وجل- لم يذكر ذنوب أنبيائه وخطاياهم في القرآن، شنعة عليهم، ولا تقبيحاً لآثارهم، ولا لسوء الثناء عليهم، ولكن ليكون للباقين قدوة بهم في التوبة والندامة، والرجوع عن الذنوب، والاستغفار لله- عز وجل- والإنابة إليه، كما أمر الله بقوله:" توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون" وقال الله تعالى:" إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" يعني الذين لم يدنبوا، وقال لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-:" قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
ويروى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لولا أن بني آدم إذا أدنبوا تابوا واستغفروا، فيغفر الله لهم، لخلق الله خلقاً يذنبون فيتوبون ويستغفرون، فيغفر لهم. وإنما ذكرنا هذه الحكايات لكيما تتفكر فيها وتعتبر، وما ذكر الله من أخبار رسوله وقصص أوليائه، فلا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمته، إذا سمعت قول الذين لا يعلمون، وذلك أن قوماً من أهل الحشوية؛ والجدل يتعصبون في الورع من غير حقيقة، ولا معرفة بأحكام الدين، فيكفرون المؤمنين بالذنوب، ويفسقونهم ويحكمون لهم بالخلود في النار بغير علم ولا بيان، بل بقياسات لفقوها لهم وسولوها بعقولهم الناقصة، وحكموا بها بزعمهم، فلا جرم أنهم انقطعوا عن الله ويئسوا من روحه وقنطوا من رحمته.
وأعلم يا أخي- ايدك الله وإيانا بروح منه- بأن لكل طائفة من المؤمنين وجماعة من المتدينين صناعة ينفردون بها عن غيرهم، أوحرفة يمتازون بها عمن سواهم، وأن من صنعة أولياء الله وعباده الصالحين الدعاء إلى الله بالتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، على بصيرة ومعرفة ويقين وحقيقة كما ذكر الله تعالى وأخبر عنهم واحداً واحداً.
من ذلك حكاية عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه قوله:" أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" إلى قوله:" فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" ومن ذلك قوله:" يا ليت قومي يعلمون" الآية، وقوله حكاية عن نفر من الجن قولهم: " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم" إلى آخر الآية. ومن ذلك قوله:" إنهم فتية آمنوا بربهم" الآية. ومن ذلك قوله حكاية عن أحد الأخوين في الدنيا:" أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً" إلى قوله:" فلن تستطيع له طلباً"، وقوله عن أخ مؤمن في الآخرة قوله لأهل الجنة:" إنه كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين" إلى آخر الآية. ومن ذلك قوله حكاية عن لقمان:" يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أوفي السموات أوفي الأرض يأت بها الله" الآية.
ومن ذلك قوله حكاية عن السحرة لفرعون:" إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" إلى آخر الآيات ومن ذلك قوله حكاية عن العلماء المستبصرين في أمر الآخرة إذ قالوا لقومهم المريدين الحياة الدنيا، إذ قالوا:" يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذوحظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن" إلى آخر الآية. ومن ذلك قول أصحاب طالوت؛ وقال الذين لا يعلمون:" لا طاقة لنا اليوم بجالوت؛ وجنوده. وقال الذين يظنون أنهم ملاقوالله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين" ومن ذلك قول أتباع المسيح: إذ قال المسيح:" من أنصاري إلى الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله" وقول أتباعه أيضاً لما سمعوا القرآن:" وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق" الآية، ومن ذلك قول المؤمنين العارفين المستبصرين:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، أنك أنت الوهاب" وآيات كثيرة في القرآن في صفات المؤمنين، وعلامات أولياء الله، وكلام عباد الله الصالحين.
فهذه الكلمات والأقاويل وأمثالها من كلام أولياء الله وعباده الصالحين المستبصرين تدل على أنهم يعرفون حقيقة المعاد وحقيقة أمر الآخرة، وهؤلاء العلماء بأسرار النبوات والمتخرجون بالرياضات الفلسفية، وهم ورثة الأنبياء، وصناعتهم الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة التي هي دار الحيوان لوكانوا يعلمون، يعني أبناء الدنيا.
ومن صناعتهم أيضاً التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة بضروب الأمثال، والوصف البليغ، والمواعظ الحسنة، والحكمة البالغة، والتذكار والبشارة والإنذار، بمعرفة واستبصار ويقين ودراية، بلا شك ولا ريبة. وقال الله تعالى في مدحهم:" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، وقال إنني من المسلمين".
ومن علامات أولياء الله أيضاً وصفات عباده الصالحين أنهم لا يذكرون في مجالسهم وخلواتهم أحداً إلا الله، ولا يتفكرون إلا في مصنوعاته، ولا ينظرون إلا إلى فنون إحسانه وعظيم إنعامه وجميل آلائه، ولا يعلمون إلا لله، ولا يخدمون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، ولا يرجون إلا منه، ولا يسألون إلا هو، ولا يخافون غيره، وهم من خشيته مشفقون. كل ذلك لصحة آرائهم وتحقق اعتقادهم في ربهم، وشدة استبصارهم أنه لا يقدر على ذلك بالحقيقة إلا الله تعالى. وهذا الاعتقاد الحق والرأي الصحيح الجميل، ينتج لهم من صحة معرفتهم بربهم وتيقن علمهم به، وذلك أنهم يرونه رؤية الحق في جميع متصرفاتهم، ويشاهدونه في كل حالاتهم، لا يسمعون إلا منه، ولا ينظرون إلا إليه، ولا يرون غيره على الحقيقة، فمن أجل ذلك انقطعوا إليه عن الخلق، واشتغلوا بالخالق عن المخلوق، وبالرب عن المربوب، وبالصانع عن المصنوع، وبالمسبب عن السبب، وتساوت عندهم الأماكن والأزمان، وانمحقت الأغيار؛ عند رؤيتهم حقيقته، فتركوا الشك وأخذوا باليقين، وباعوا الدنيا بالدين، وربحوا السلامة من التعب والعناء، وعاشوا في الدنيا آمنين، ورحلوا عنها سالمين، ووصلوا إلى الآخرة غانمين، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، وما على المحسنين من سبيل.
وقد ذكر الله تعالى نعت هؤلاء القوم في القرآن في آيات كثيرة، وأثنى عليهم ومدحهم.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #120
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


ووردت عن النبي- عليه السلام- أخبار كثيرة في نعتهم وصفتهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم، ومن ذلك ما روي عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلاً من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل، عليه السلام. فقيل: يا رسول الله، خبرنا عن ملة إبراهيم عند ربه. فقال: إنه كان حنيفاً مسلماً سليم القلب، وذلك أنه لما هم به قومه يقذفونه في النار، بكت الملائكة في السماء رحمة له، فأوحى الله- سبحانه- إلى جبرائيل: أن الحقه وأعنه إن استعان بك، فجاء جبرائيل- علسه السلام- وهو؛ في المنجنيق، ليرمى به في النار. فقال له: يا إبراهيم هل لك من حاجة، فلشدة تعلق قلبه بربه وتوكله عليه، وثقته بوعده، ويقينه بتخليصه إياه، واستغنائه عمن سواه، قال: أما إليك فلا. فعند ذلك قال الله تعالى:" يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم." ويقال إن من هؤلاء الأربعين رجلاً أربعة منهم الأبدال؛ وإنما سموا الأبدال لأنهم بدلوا خلقاً بعد خلق، وصفوا تصفية بعد تصفية.
وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون من جملة أربعمائة من الزاهدين العارفين المحققين منتقون من أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين، وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص من الأربعين؛ وإذا مضى من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربعمائة؛ وإذا مضى شخص من الأربعمائة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة الآلاف، فبلغ مرتبته وقام مقامه؛ وكلما مضى شخص من الأربعة الآلاف ارتقى مكانه بدلاً منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين، فبلغ درجته وقام مقامه؛ وإليهم أشار أمير المؤمنين علي- عيله السلام- بقوله لكميل بن زياد: أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح حقيقة اليقين، إلى آخر كلامه. وفيهم يقول: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى. وإليهم أشار موسى- عليه السلام- بقوله في مناجاته: يا رب إني أجد في التوراة نعت رجال كادوا يكونون أنبياء من قوة التمييز والمعرفة والصلاح، من هم يا رب، اجعلهم من أمتي، فأوحى الله تعالى إليه وقال الله: تلك أمة أحمد، وإليهم أشار بقوله تعالى:" ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله." وأعلم يا أخي بأن هؤلاء القوم الذين تقدم ذكرهم هم ورثة أنبياء الله وخلفاء رسله في الأرض، وأن الذي ورثوه منهم إنما هوالعلم والإيمان والتعبد، وقبول التأييد والإلهام، والزهادة في الدنيا وترك طلبها، والرغبة في الآخرة والاشتياق إليها، وذلك أنهم متشبهون بالملائكة في أفعالهم وأخلاقهم وسرتهم من تركهم الشهوات الجسمانية، وإعراضهم عن اللذات الحسية المركوزة في الطبيعة، بالامتناع عنها بعد المقدرة عليها، مع شدة مجاذبة الطبيعة لهم إليها، وهم يتركونها باجتهاد منهم وعناية شديدة بعد الفكر والروية، ويختارون الشدة على الرخاء، والتعب على الراحة، ومخالفة الهوى وحمل ثقل التعبد على النفس؛ وكل ذلك لمرضاة الله والاقتداء بأنبيائه ورسله في سنة الدين، فلا جرم أنهم ملائكة بالقوة، فإذا فارقت نفوسهم أجسادهم، كانت ملائكة بالفعل، فهذا الذي كان الغرض من رباط النفس بالجسد، أن تصير النفس الناطقة ملكاً من الملائكة بالفعل بعدما كانت بالقوة.
وأعلم يا أخي بأنه لولم يكن في قوة النفس الناطقة أن تصير ملكاً بالفعل، لما جاءت الوصية من الله تعالى لها بأمرها بالتشبه بالملائكة في أفعالها وأخلاقها وسيرتها، ولا كانت موعودة بملاقاتها ومخاطبتها مثل قوله- جل ثناؤه-:" تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" يعني المؤمنين عند قبض أرواحهم مثل قوله تعالى:" الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون". ومثله قوله تعالى:" والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى يطول تعدادها.
وأعلم يا أخي أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الصالحين هم الذين سماهم الله تعالى أولي الألباب وأولي النهى وأولي الأبصار، وهم أولياء الله وأحباؤه، وإليهم أشار بقوله تعالى لإبليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وهم المفلحون وهم الفائزون وإليهم أشار رسول الله- صلىالله عليه وسلم- في وصيته لأبي هرية بقوله: عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا، وإذ طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا. قال: من هم يا رسول الله، عدهم لي وصفهم حتى أعرفهم. قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء، إذا نظر إليهم الخلائق ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم، حتى أعرفهم أنا بسيماهم فأقول: أمتي أمتي، ليعرف الخلائق أنهم ليسوا بأنبياء. ويمرون مثل البرق والريح يغشى أبصار الجميع نورهم. قلت: يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق بهم. قال: يا أبا هريرة إن القوم ارتكبوا طريقاً صعباً لحقوا بدرجة الأنبياء، آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله، والعطش بعدما أرواهم الله، والعري بعدما كساهم الله، تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، صحبوا الدنيا بأبدانهم، من غير أن تعلق بشيء منها قلوبهم، تعجب الأنبياء والملائكة من طاعتهم لربهم، فطوبى لهم، وددت أن الله جمع بيني وبينهم، ثم بكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شوقاً إلى رؤيتهم، ثم قال: إذا أراد الله- سبحانه- بأهل الأرض عذاباً، فنظر إليهم إن كان واحد منهم صرف العذاب عنهم، فعليك، يا أبا هريرة، بطريقتهم، فمن خالف طريقتهم، وقع في شدة الحساب.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #121
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طوبى لإخواني، قيل: يا رسول الله، أولسنا إخوانك، قال: أنت أصحابي، وأولئك إخواني. قيل: من هم إخوانك يا رسول الله- صلى الله عليك، قال: قوم يكونون في آخر الزمان يؤمنون بي ولم يروني، يصدقونني ويتبعونني، هم إخواني وأنتم أصحابي، طوبى لهم، وإليهم أشار بقوله في وصيته لأسامة بن زيد: عليك بطريق الجنة، وإياك أن تختلج بدونها. قال: يا رسول الله، ما أيسر ما يقطع به تلك الطريق، قال: الظمأ في الهواجر، وكسر النفوس عن لذة الدنيا. يا أسامة، عليك بالصوم، فإنه يقرب إلى الله، إنه ليس شيء أحب إلى الله من ريح فم الصائم وترك الطعام والشراب لله تعالى، فإنك إن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع، وكبدك ظمآن، فافعل، فإنك تدرك بذلك أشرف المنازل في الآخرة وتحل مع النبيين- عليهم السلام- وتفرح الأنبياء والملائكة بقدوم روحك عليهم، ويصلي عليك أهل الجنان. إياك، يا أسامة، ودعاء كل كبد جائع، قد أذابوا اللحوم وأحرقوا الجلود في الرياح والسمائم، وأظمأوا الأكباد حتى غشيت أبصارهم، فإن الله- سبحانه- إذا نظر إليهم باهى كرام الملائكة بهم، بهم يصرف الله الزلازل والفتن حيث كانوا. ثم بكى رسول الله شوقاً إلى رؤيتهم، حتى اشتد بكاؤه وعلا نحيبه، وهاب الناس أن يتكلموا، حتى ظنوا أنه أمر حدث من السماء. ثم قال: ويح لهذه الأمة ما يلقى منهم من اطاع الله فيهم، كيف يقتلونهم ويكذبونهم من أجل أنهم أطاعوا الله، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله- والناس يومئذ على الإسلام- قال: نعم، قال: فيم يقتلون من أطاع الله، قال: ياعمر، ترك القوم الطريق، وركبوا فره؛ الدواب، ولبسوا الحرير والديباج واللين من الثياب، وأكلوا الطيبات، وشربوا بارد الشراب، وجلسوا على أرائكهم متكئين، وخدمهم أبنار فارس والروم. يتزين الرجل منهم زينة المرأة لزوجها، ويتبرج النساء بزي كسرى بن هرمز والملوك الجبابرة، ويسمنون أبدانهم، ويتباهون بالكساء واللباس، فإذا نظروا أولياء الله، وعليهم العباء، منحنية أصلابهم، قد ذبحوا أنفسهم من شدة العطش، وإن تكلم منهم متكلم كذب وأبعد وطرد، وقيل: قرين الشيطان ورأس ضلالة، يحرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، فأولوا كتاب الله بغير تأويله، واستذلوا أولياء الله وأخافوهم. يا أسامة، إن أقرب الناس إلى الله، يوم القيامة، من طال حزنه وجوعه وعطشه في الدنيا، هم الأخيار الأبرار الذين إن شهدوا؛ لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، يعرفهم أهل السماء، ويخفون على أهل الأرض، تشتاق إليهم البقاع وتحف بهم الملائكة، ينعم الناس بالدنيا، وينعمون بالجوع والعطش، لبس الناس لين الثياب، ولبسوا الخشن، افترش الناس الوطاء؛ وافترشوا هم الجباه والركب، ضحك الناس وبكواهم. يا أسامة، ألا لهم الشرف الأعلى يوم القيامة، وددت أني رأيتهم، وبقاع الأرض لهم رحيبة، والجبار عنهم راض، والراغب إلى الله من رغب فيما رغبوا، والخاسر من خالفهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم، ويسخط الجبار على بلد ليس فيه منهم أحد. يا أسامة، إذا رأيت أحدهم في قرية، فأعلم أنه أمان لأهلها، لا يعذب الله قوماً فيهم منهم أحد؛ اتخذهم، يا أسامة، لنفسك أصحاباً، عساك تنجومعهم، وإياك أن تسلك غير طريقهم، فتزل قدمك، فتهوي في النار. يا أسامة، ترك القوم الحلال من الطعام والشراب، طلبوا الفضل في الآخرة، ولم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا العلق؛ ولبسوا الخلق، تراهم شعثاً غبراً، إذا رآهم الناس ظنوا إن بهم داء، وما بهم داء، وظنوا أنهم خولطوا؛ وما خولطوا، ولكن خالط القوم أمر عظيم؛ ظن الناس أن قد ذهبت عقولهم وما ذهبت، ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر إلهي، فهم في الدنيا عند أهلها يمشون بلا عقول. يا أسامة، عقلوا حين ذهبت عقول الناس، طوبى لهم وحسن مآب، ألا لهم الشرف الأعظم.
ويحكى عن بعضهم أنه كان يسمع في خلواته وهويقول: يا رب، ويحي، كيف أغفل، ولست بمغفول عني، أم كيف يهنئني العيش، واليوم الثقيل أمامي، أم كيف لا يطول حزني، ولا أدري ما يكون من ذنبي، أم كيف أؤخر عملي، ولا أدري متى يأتي أجلي، أم كيف أسكن إلى الدنيا، وليست بداري، أم كيف أجمعها، وفي غيرها مقامي ومأواي، أم كيف تعظم رغبتي فيها، والقليل منها يكفيني، أم كيف آمن فيها، وأنا لا يدوم فيها حالي، أم كيف يشتد حرصي عليها، ولا ينفعني منها ما أخلفه لغيري، أم كيف أؤثرها، وقد طردت من آثرها قبلي، أم كيف لا أبادر بعملي من قبل أن يتصرم منها مدتي، أم كيف لا أعمل في فكاك نفسي، قبل أن يغلق ذهني؛ أم كيف يشتد عجبي بها، وهي مفارقة لي ومنقطعة عني.
وسئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى:" إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى." قال: كان فيها مكتوباً: عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب؛ بدنه، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن ايقن بالجنة كيف لا يعمل الحسنات، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويروى عن أبي ذر- رحمة الله عليه- أنه قال: قلت لرسول الله: أوصني. قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك. فقلت: زدني يا رسول الله.قال: عليك بذكر الله، فإنه رأس كل خير خير، وقراءة القرآن، فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض. قلت: زدني. قال: عليك بالجهاد، فإنه رهبانية هذه الأمة. قلت: زدني. قال: انظر إلى من دونك، ولا تنظر إلى من هوفوقك. قلت: زدني. قال: أقل الكلام إلا من ذكر الله، فإنك بذلك تغلب الشيطان. قلت: زدني. قال: أحب المسكين وجالسهم. قلت: زدني. قال: كن في الدنيا كأنك غريب وعد نفسك في الموتى. قلت: زدني. قال: قل الحق ولوكان مراً. قلت: زدني. قال: لا يأخذك في الله لومة لائم. قلت: زدني. قال: ارض من الدنيا بكسرة تقيم بها جسدك، وخرقة تواري بها عورتك، وظل تسكن فيه. قلت: زدني. قال: اكظم الغيظ وأحسن إلى من أساء إليك. قلت: زدني. قال: إياك وحب الدنيا، فإنه رأس الخطايا، إن الدنيا تهلك صاحبها، وصاحب الدنيا لا يهلكها. قلت: زدني.قال: انصح للناس كما تنصح لنفسك ولا تعب عليهم بما فيك مثله، يا أبا ذر، إنه لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.
وقال رسول الله: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. ويقال إن الزهد في الدنيا مفتاح كل خير، والرغبة فيها مفتاح كل شر وخطيئة. وقيل في الحكمة: الدنيا قنطرة فاعبروها إلى الاخرة، ولا تعمروها، إنكم خلقتم للآخرة لا للدنيا، وإنما الدنيا دار العمل، والاخرة دار الجزاء، وهي دار القرار ودار المقام ودار النعيم ودار الخلود
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #122
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في حسن التكليف

وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله تعالى كلم موسى بن عمران، وناجاه باثني عشر ألف كلمة، يقول له في عقب كل كلمة: يا موسى، أدن مني، وأعرف قدري، فأنا الله. يا موسى، أتدري لم كلمتك من بين خلقي، واصطفيتك لرسالتي من بين بني إسرائيل، قال موسى: فمن علي يا رب. قال: لأني أطلعت على أسرار عبادي، فلم أر قلباً أصفى لمودتي من قلبك. قال موسى- عليه السلام: لم خلقتني يا رب بعد أن لم أكن شيئاً، قال: أردت بك خيراً. قال: رب من علي. قال: أسكنك جنتي، وأدخلك دار كرامتي مع ملائكتي، فتخلد هناك منعماً، ملتذاً مسروراً. قال: فما الذي ينبغي لي أن أعمل، قال: لا يزل لسانك رطباً من ذكري، وقلبك وجلاً من خشيتي، وبدنك مشغولاً بخدمتي، ولا تأمن مكري إلى أن ترى رجلك في الجنة. قال: يا رب لم ابتليتني بفرعون، قال: إنما اصطنعتك على أن أخاطب بلسانك بني إسرائيل، فأسمعهم كلامي وأعلمهم شريعة التوراة وسنة الدين، وأدلهم على الآخرة، ومن اتبعك منهم ومن غيرهم كائناً من كان. يا موسى، بلغ بني إسرائيل أني لما خلقت السموات والأرض جعلت لهما أهلاً وسكاناً، فأهل سماواتي هم ملائكتي وخالص عبادي الذين لا يعصونني، ويفعلون ما يؤمرون. يا موسى، قل لبني إسرائيل وبلغهم عني أنه من قبل وصيتي ووفي بعهدي، ولم يعصني، رقيته إلى رتبة ملائكتي، وأدخلته جنتي، وجازيته بأحسن الذي كانوا يعملون. يا موسى، قل لبني إسرائيل وأبلغهم عني أني لما خلقت الجن والإنس والحيوانات أجمع، ألهمتهم مصالح الحياة الدنيا وعرفتهم كيفية التصرف فيها لطلب منافعها والهرب من المضار منها: كل ذلك بما جعلت لهم من السمع والبصر والفؤاد والتمييز والشعور أجمع.
وهكذا ألهمت أنبيائي ورسلي والخواص من عبادي، وعرفتهم أمر المبدأ والمعاد والنشأة الآخرة.
وبينت له الطريق وكيفية الوصول إليها. يا موسى، قل لبني إسرائيل يقبلون من أنبيائي وصيتي، ويعملون بها، واضمن لهم عني أني أكفيهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدنيا والاخرة جميعاً، ومن وفى بعهدي وفيت بعهده، كائناً من كان من بني آدم، وألحقتهم بأنبيائي وملائكتي في الآخرة دار القرار. قال موسى: يا رب لوخلتنا في الجنة وكفيتنا محن الدنيا ومصائبها وبلاءها، أليس كان خيراً لنا، قال: يا موسى، قد فعلت بأبيكم آدم ما ذكرت، ولكن لم يعرف حقي وقدر نعمتي، ولم يحفظ وصيتي، ولم يوف بعهدي بل عصاني، فأخرجته منها، فلما تاب وأناب، وعدته أن أرده إليها، وآليت على نفسي أن لا يدخلها أحد من ذريته إلا من قبل وصيتي وأوفى بعهدي، ولا ينال عهدي الظالمين، ولا يدخل جنتي المتكبرون، لأني جعلتها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين. يا موسى، ادع لعبادي وذكرهم آلائي، فإنهم لا يذكرون مني إلا كل خير سالفاً وخالفاً، عاجلاً وآجلاً. يا موسى، ويل لمن تفوته جنتي، ويا حسرة عليه وندامة، حين لا ينفعانه.
يا موسى، خلقت الجنة يوم خلقت السموات، وزينتها بألوان المحاسن، وجعلت نعيم أهلها وسرورها روحاً وريحاناً، فلونظر أهل الدنيا إليها نظرة من بعيد، لما تهنوا بالحياة في الدنيا بعدها.
يا موسى، هي مدخرة لأوليائي والصالحين من عبادي، تحيتهم يوم يلقونه سلام وطوبى لهم وحسن مآب.
قال موسى: يا رب، قد شوقتني إليها، فأرني يا رب لأنظر إليها. قال: يا موسى، لا يهنئك العيش في الدنيا بعد النظر إليها، لأنك من أبناء الدنيا إلى وقت معلوم، فإذا فارق الروح الجسد رأيتها، ووصلت إليها ودخلتها، وتكون فيها ما دامت السموات والأرض، فلا تعجل يا موسى، وأعمل كما أمرت، وبشر بني إسرائيل بالذي بشرتك به، وادعهم إليها، ورغبهم فيها، وزهدهم في الدنيا.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #123
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل وأعلم يا أخي بأن الرغبة في الدنيا مع طلب الآخرة لا يجتمعان.

فمن زهد في الآخرة رغب في الدنيا، ومن رغب في الآخرة زهد في الدنيا. وقال المسيح- عليه السلام- في بعض مواعظه لبني إسرائيل: أعلموا أن مثل دنياكم مع الآخرة، كمثل مشرقكم ومغربكم، كلما أقبلتم إلى الغرب ازددتم من المشرق بعداً، وكلما أقبلتم إلى المشرق ازددتم من المغرب بعداً. وقيل في بعض كتب يني إسرائيل: رغبناكم في الآخرة فلم ترغبوا، وزهدناكم في الدنيا فلم تزهدوا، وخوفناكم من النار فلم تخافوا، وشوقناكم إلى الجنة فلم تشتاقوا، ووبخناكم فلم تبكوا. بشر القائلين بأن لله سيفاً لا ينام، وهونار جهنم، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالغنى، وأنت تتبغض إلى بالمعاصي، لا يزال يأتيني كل يوم ملك كريم بقبيح أفعالك. يا ابن آدم، أما تراقبني، أما تعلم أنك بعيني، يا ابن آدم، اذكرني عند خلواتك، وعند حضور الشهوات الحرام، وأسألني أن أنزعها من قلبك، وأعصمك عن معصيتي، وأبغضها إليك، وأيسر لك طاعتي وأحببها إليك، وأزينها في عينيك. يا ابن آدم، إنما أمرتك ونهيتك لتستعين بي وتعتصم بحبلي، لئلا تستغني وتتولى عني، فأعرض عنك، وأنا الغني عنك وأنت الفقير إلي؛ إنما خلقتك في الدنيا وسخرتها لك لتستعد للقائي وتتزود منها للقدوم علي، لئلا تعرض عني وتخلد إلى الأرض. وأعلم يا ابن آدم بأن الدار الآخرة خير لك من الدنيا، فلا تختر غير ما اخترت لك، ولا تكره لقائي، فإنه من كره لقائي كرهت لقاءه، ومن أحب لقائي أحببت لقاءه.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #124
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في عظات مختلفة

تأمل يا اخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- ما ترى من الأمور الدنيوية، واعتبر بما تشاهد فيها من تصاريفها بأهلها حالاً بعد حال، وتفكر فيما ذكرنا في هذه الرسالة من هذه الحكايات عن أنبياء الله وأوليائه وعباده الصالحين، وما وصفنا من أخلاقهم الحسنة وسيرتهم العادلة وأفعالهم الجميلة، فاجتهد أن تقتدي بهم وتسلك بهم وتسلك طريقهم؛ واستعن بالله وأسأله التوفيق؛ وانظر إن استوى لك أن تكون في أعلى المراتب، فلا ترض لنفسك بأدونها، واحذر مخالفتهم وترك الاقتداء بهم، فإنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، والدعاة والهداة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم حجج الله على خلقه، وصفوته من عباده، فالمفلح من أتبعهم، والخاسر من خالف طريقهم، هم صفوة الله وخيرته من خلقه.
وأعلم يا أخي بأنه ليس بين الله- عز وجل- وبين أحد من خلقه من قرابة، وأن أكرم عباده عنده أتقاهم، وأحبهم إليه أطوعهم له، وأكثرهم له ذكراً، وأكيسهم في الأمور، وأشدهم اجتهاداً، وأشدهم استعداداً للرحلة من الدنيا إلى الآخرة، وأكثرهم زاداً للمعاد.
وأعلم أن أخفهم مؤنة في الدنيا وأروحهم قلباً من زهد فيها، فبادر يا أخي وتزود من الدنيا لطريق الآخرة، فإن خير الزاد التقوى، فسارع إلى الخيرات ونافس في الدرجات قبل فناء العمر ونفاد الأجل وقرب الفوت.
وأعلم يا أخي بأن خير مناقب الإنسان العقل، وأفضل خصاله العلم، ولكل شيء خاصية، وخاصية العقل صحة التمييز، ومعرفة الحقائق، والسيرة العادلة، وحسن الاختيار، فانظر إن كنت عاقلاً، واختر من الأمور أفضلها، ومن الأخلاق أجملها، ومن الأعمال خيرها، ومن المراتب أشرفها، ومن المنافع أعمها وأدومها.
وأعلم يا أخي بأن الآخرة أفضل من الدنيا، وأهلها أفضل من أهل الدنيا، وأخلاقهم أكرم من أخلاقهم، وسيرتهم أعدل من سيرتهم، ومراتبهم أشرف، ونعيمهم أدوم، وسرورهم أبقى، ولذاتهم أخلص، فانظر الآن على ما يقع اختيارك، وكيف يكون، ولأيهما تعمل، ولا يكن إيثارك، إن كنت عاقلاً، إلا للآخرة فقد تبين لك الرشد من الغي، وعرفت الضلالة من الهدى، وميزت الصواب من الخطأ، وعلمت الحق من الباطل، وانزاحت العلة، وقد أعذر من أنذر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
فانظر الآن يا أخي إن كان لم يتبين لك بعد ما شرحناه من هذه الأوصاف، ولم ينبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ما خولناك، ولم يشفك ما ذكرناه، ولم ينفعك ما وصفناه، فأبيت إلا التغمد والغمرة؛ في طغيان أبناء الدنيا المغرورين بها، الغافلين عن الآخرة الجاهلين لها، بأن تقول: لا بد لي من الاقتداء بهم، ومداخلتهم فيما هم فيه من الغرور، ومزاحمتهم على ما هم مزدحمون عليه، ورضيت لنفسك بالتشبه بهم في سوء أخلاقهم، وتراكم جهالاتهم، وفساد آرائهم، وسوء أعمالهم، وقبيح أفعالهم، وسيرتهم الجائرة، وأمورهم المسيئة، واحوالهم المتغايرة، وتصاريفهم المختلفة، وأسبابهم المتضادة، من عداوة بعضهم بعضاً، وحسد بعضهم بعضاً، وبغي بعضهم على بعض، وتكبرهم وتكاثرهم وتفاخرهم فيما هم فيه من أمور هذه الدنيا الدنية، والاغترار بها، وما يتكلفونه بينهم من زخرف القول غروراً، ويتمكنون به من الكلام خداعاً، وقلوبهم مملوءة غشاً وغلاً وحسداً وكبراً وحرصاً وطمعاً وبغضاً وعداوة ومكراً وحيلاً، مثل قوم دينهم التعصب، واعتقادهم النفاق، وأعمالهم الرياء، واختيارهم شهوات الدنيا، يتمنون الخلود فيها مع علمهم بأنه لا سبيل إليه، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، ويكسبون من الحرام وينفقون في المعاصي، ويمنون من المعروف، ويركبون كل منكر؛ سكارى متمردون، في طغيانهم يعمهون، لا يسمعون النداء، ولا يبصرون الهدى، ولا ينجع فيهم الوعظ ولا الذكر، ولا الأمر ولا النهي، ولا الوعد ولا الوعيد، ولا الترغيب ولا الترهيب، ولا الزجر ولا التهديد، بل تراهم في غيهم يترددون، وفي ظغيانهم يعمهون، مولون مدبرون، عن الآخرة معرضون، على الدنيا يتكالبون تكالب الكلاب على الجيفة، منهمكين في الشهوات، تاركين للصلوات، لا يسمعون الموعظة، ولا تنفعهم التذكرة، فلا جرم أنهم يمهلون قليلاً،ويمتعون يسيراً، ثم تجيئهم سكرة الموت بالحق، إن شاؤوا أوأبوا، فيفارقون محبوباتهم على رغم منهم، ويتركون ما جمعوا لغيرهم، يتمتع بمال أحدهم حليل زوجه، وامرأة ابنه، وبعل ابنته، وصاحب ميراثه، لهم المهنأة، وعليه الوبال، ثقيل ظهره بأوزاره، معذب النفس بما كسبت يداه، يا حسرة عليهم قامت القيامة على أهلها، وفقك الله، أيها الأخ، للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه رؤوف بالعباد.
تمت رسالة الأخلاق، والحمد لله، والصلاة على رسوله مستنبط ينابيع الحكمة بصفاء جوهره، والمقارع به أنوف الجاحدين لأوله ومصدره، والمفصح عن غرائبه، وعلى آله، وسلم، حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العيظم.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #125
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


الرسالة العاشرة من القسم الرياضي في إيساغوجي

بسم الله الرحمن الرحيم

أعلم أيها الأخ البار الرحيم- ايدك الله وإيانا بروح منه- أنه لما كان الإنسان أفضل الموجودات التي تحت فلك القمر، وكان من فضيلته العلوم والصنائع، وكان النطق من أفضل الصنائع البشرية، أردنا أن نبين ماهية النطق، وكميته وكيفيته، إذ كان به ينفصل الإنسان عن سائر الحيوانات، كما يقال في حده إنه حي مناطق مائت، لأن سائر الحيوانات كلها أحياء مائتون غير ناطقين، وأيضاً فإن النطق من سائر الصنائع البشرية إلى الروحانية ما هوأقرب، وذلك أن سائر الصنائع الموضوع فيها الأجسام الطبيعية، موضوعاتها كلها جواهر جسمانية، كما بينا في رسالة الصنائع.
فأما النطق فإن الموضوع فيه جواهر النفس الجزئية الحية، وتأثيراته فيها روحانية، مثل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والمديح والهجاء؛ والدليل على ذلك ما يتبين لنا من تأثيرات الكلام في النفوس، مثل ما يرى من تأثيرات الجسام بعضها في بعض.
وذلك أن تأثيرات الأجسام بعضها في بعض نوعان: مفسد ومصلح، فالمصلح مثل الطعام والشراب المصلحين لأجساد الحيوانات، ومثل العقاقير والأدوية المصلحة لأجساد المرضى؛ والمفسد مثل النار المهلكة لأجساد الحيوانات وأجساد النبات، ومثل الضرب بالسيف والسكين وما شاكله من الأجساد المفسدة المهلكة لأجسام الحيوانات. فكذا حكم الكلام والأقاويل في النفوس نوعان: مصلح ومفسد، فالمصلح كالمديح والثناء الجميل الباعثين للنفوس على مكارم الأخلاق، ومثل المواعظ والمواعيد الزاجرين للنفوس عن الأفعال القبيحة وعن مساؤى الأخلاق، والمفسد من الكلام للنفوس كالشتيمة والتهديد والقبيح من الأقاويل الجالبة إلى النفوس العداوة والبغضاء، كما يقال: رب كلمة جلبت فتنة وحروباً. كما قيل في المثل: إن سبب العداوة بين الغربان والبوم كلمة تكلم بها الغراب يوم اجتماع الطير على تمليك البوم، ورب كلمة أطفأت نيران الحروب كما قيل في قصيدة: لفظ يثبت في النفوس مهابة،يكفي كفاية قائد الـقـوادا تبلغ الأسياف باستهلاكهـاما تبلغ الأقلام بـالإيعـادومن فضيلة النطق أيضاً أنه كاد أن يكون مطابقاً للموجودات كلها كمطابقة العدد للمعدودات، والدليل على ذلك كثرة اللغات، واختلاف الأقاويل، وفنون تصاريف الكلام، مما لا يبلغ أحد كنه معرفتها إلا الله- عز وجل- فنريد أن نذكر من ذلك طرفاً شبه المدخل ليقرب على المتعلمين وليسهل على الناظرين في علم المنطق فهم معانيها.
  رد مع اقتباس
قديم 10/06/2006   #126
شب و شيخ الشباب krimbow
أميـــــــــ
 
الصورة الرمزية لـ krimbow
krimbow is offline
 
نورنا ب:
Mar 2005
المطرح:
damscus-syria
مشاركات:
4,822

افتراضي


فصل في اشتقاق المنطق

وانقسام النطق إلى قسمين

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقاً، والنطق فعل من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هوأمر جسماني محسوس، والنطق الفكري أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هوأصوات مسموعة لها هجاء وهي تظهر من اللسان الذي هوعضومن الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر، وأن النظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام على كيفية تصاريفه وما يدل عليه من المعاني، يسمى علم المنطق اللغوي. وأما النطق الفكري الذي هوأمر روحاني معقول، فهو تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها في فكرتها، وبهذا النطق يحد الإنسان، فيقال إنه حي ناطق مائت، فنطق الإنسان وحياته من قبل النفس، وموته من قبل الجسد، لأن اسم الإنسان إنما هوواقع على النفس والجسد جميعاً.
وأعلم أن النظر في هذا النطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام، وعبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت، يسمى علم المنطق الفلسفي.
ولما كان النطق اللفظي أمراً جسمانياً ظاهراً جلياً محسوساً، وضع بين الناس لكيما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه، والمخاطبين له، احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفاً شبه المدخل لقرب على المتعلمين فهم علم المنطق الفلسفي، ويسهل تأمله على الناظرين، فنقول أيضاً إنه لما كان النطق اللفظي هوألفاظ مؤلفة من الحروف المعجمة، احتجنا أن نذكر الحروف أولاً، فنقول: إن الحروف ثلاثة أنواع: فكرية ولفظية وخطية. فالفكرية هي صورة روحانية في أفكار النفوس مصورة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ؛ والحروف اللفظية هي أصوات محمولة في الهواء، فمدركة بطرق الأذنين بالقوة السامعة، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس والخطية هي نقوش خطت بالأقلام في وجوه الألواح وبطون الطوامير؛ مدركة بالقوة الباصرة بطريق العينين.
وأعلم أن الحروف الخطية إنما وضعت سمات ليستدل بها على الحروف اللفظية، والحروف اللفظية وضعت سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل.
إن الكلام لفي الفؤاد، وإنمـاجعل اللسان على الفؤاد دليلا وسنبين ماهيتها في فصل آخر.
أعلم أن الحروف اللفظية إنما هي أصوات تحدث في الحلقوم والحنك، وبين اللسان والشفتين عند خروج النفس من الرئة بعد ترويحها الحرارة الغريزية التي هي في القلب، وهي ثمانية وعشرون حرفاً في اللغة العربية، وأما سائر اللغات فربما تزيد وتنقص، وقد بينا علة ذلك في رسالة اختلاف اللغات. وأعلم أن الحروف إذا ألفت صارت ألفاظاً، والألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، والسماء إذا ترادفت صارت كلاماً، والكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل والأقاويل نوعان: موزون ونثر، فالموزون كالشعر والرجز والقوافي، والنثر نوعان، فمنه فصاحة وبلاغة، ومنه مخاطبات ومحاورات، والخطاب نوعان، فمنه ما يتكلم به جمهور الناس فيما بينهم في طلب حاجاتهم بلا احتجاج ولا خصومة، ومنه ما يتكلمون به في دعاويهم وخصوماتهم باحتجاج وبراهين.
والدعاوي والخصومات نوعان: إما في أمور الدنيا، وإما في أمور الديانات والمذاهب والعلوم.
ولما كانت البراهين على صحة الدعاوي التي في أمور الدنيا لا تكون إلا بالشهود والعقود والصكوك، صارت البراهين أيضاً على صحة الدعاوي في أمور الديانات والمذاهب والعلوم، لا تكون إلا باستشهاد ما في الكتب الإلهية، والإخبار عن أصحاب الشرائع، أوإجماع الخصوم، أوشهادة العقول بالقياس الصحيح الذي هوميزان الحق.
ولما كان اختلاف الناس بالحزر والتخمين في مقادير الأشياء الموزونة والمكيلة دعتهم إلى وضع الموازين والمكاييل ليرفع الخلف بها عند الحزر، وكذلك اختلاف العلماء في الحكم بالحزر والتخمين على الأمور الغائبة عن الحواس، دعتهم إلى وضع القياسات ليرفع الخلف بها عند النظر.
ولما كان في صحة الوزن والكيل يحتاج إلى شرائط من عيار الصنجات، وصحة المكيال والميزان، وتقويم الكيل والوزن بها، كذلك حكم القياسات التي يعرف بها الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر، يحتاج إلى شرائط ليصح بها الحكم، وقد ذكر ذلك في كتب المنطق الفلسفي بشرح طويل، ولكن نريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفاً، ليقرب على المتعلمين فهمها، ونرجع الآن إلى ذكر الألفاظ الدالة على المعاني التي في أفكار النفوس فنقول:
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 20:34 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.32007 seconds with 12 queries