أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > أدب > القصة و القصة القصيرة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 08/10/2007   #19
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


الست شفوق...... كوليت خوري
-مات جارنا العجوز!
وتناقل أهل الحي النبأ...كما هي العادة في حينا القديم الذي يشبه القرية الصغيرة....
وتوالت التعليقات..
ونطق أحدهم:-مات اخيرا؟ رحمه الله!
فتمنت واحدة:- ليتنا جميعا نعيش بقدر ما عاش...
-نعم...مائة وخمس سنوات....
ووصل الي الخبر وأنا في بيتي ,فأحسست بالغصة تنغرز في صدري ,ومشيت صوب النافذة وطارت منها نظراتي الى بيت جارنا العجوز , وشردت أفكاري..
كنت دائما أقول لجدتي شفيقة, وكنت أدلعها باسم"الست شفوق" و أمازحها ضاحكة:
-مارأيك بجارنا. هل تقبلين به عريسا؟
وكانت "تتغمى" كما نقول بلهجتنا الشامية في غنج وحياء وهي تهمس:
-اخجلي ...عيب....
وكنت أصر:-أين العيب يا ست شفوق؟ أنت أرملة منذ ستين سنة ومازلت جميلة..وجارنا أيضا أرمل ...وهو يكبرك بعشرين سنة...!
وكانت تحمر وجنتاها كما قبل ستين سنة وتقول:-"تقبريني"... اسكتي...لئلا يسمعك أحد...عيب!!
جارنا العجوز!!!!أنا لم اكن أقابله...لكن معرفتي به قديمة تعود الى ولادتي...
ففي حينا القديم,يعرف كل واحد جيرانه مذ يفتح عينيه للنور....
وأنا ابنة هذا الحي...وكنت صديقة أحفاده وحفيداته....
ولطالما تناقلنا ,نحن الأحفاد ,أخبار أجدادنا و جداتنا, وقصص عطاءاتهم لنا, ومواعيد زياراتنا لهم...
حتى أن أحفاده قبل أشهر أخبروني بأن جدهم على أحسن حال, وأنهم ذاهبون اليه ليحتفلو بعيد ميلاده الخامس بعد المئة...
قبل أشهر....
أواه كم يبدو هذا التاريخ بعيدا....سحيقا...
أواه كم يبدو الماضي القريب بعيدا ......حين يكون الفاصل رحيلا.....
قبل أشهر أرسلت جدتي في طلبي..
امتثلت أمامها فقالت للاخرين بلهجتها المهذبة دائما:
-اعملو معروف اتركوني معها...
وخرجت امي وخالاتي وبقية أفراد الأسرة من الغرفة ,وبقيت مع جدتي ,وحدي....
فقالت: -اسمعي..أنا أريد أن أتحدث معك في موضوع جدي وهام..بعثت وراءك لأني أتكل عليك أنت وحدك...فأنا أعرف أنك قادرة على تحمل المسؤولية....
قاطعتها مستغربة:-ماذا هنالك؟.....أخبريني....
قالت: -اصغي الي جيدا...اقتربي مني...واصغي الي......
اقتربت وأنا أردد:-ماذا هنالك؟
فقالت: - استمعي جيدا...أنا عشت حياتي مستورة كريمة...فقدت زوجي ..جدك ,كما تعلمين وأنا في الخامسة والعشرين..ومررت بأيام بل بسنوات قاسية عصيبة...ماديا ومعنويا....صعبة جدا ومرة كانت تلك الفترات...لكن أحدا لم يسمع مني شكوى طوال هذا العمر....
دمدمت : -صحيح....فتابعت: -هذا الفم لم ينفتح في يوم من الأيام الا ليعطي نصيحة أو ليدعو الى الله أن يحفظكم....في الأيام الصعبة كان الصبر صديقي...وفي ايام الفرح كانت دموعي هي التي تعبر عن سعادتي....
ازداد عجبي من كلامها وسألتها:
-مالقصة؟ ماوراء كلامك؟ هل جرى شيء؟
قالت بلهجة متأثرة رزينة:
-انتبهي لي يا كبدي....
كانت دائما تناديني يا كبدي .....واه كم اشتاق الان لأن اسمع هذه العبارة بصوتها....واه كم اشتقت اليك يا ست شفوق.....
وتابعت: - كم قلت لك ...عشت حياتي كريمة مستورة ...أريد أيضا أن اكون كريمة في مماتي...أريد أن أوصيك بجنازتي...
صدمت فقاطعتها:- ماهذا الكلام الان؟؟
قالت: - لأنني أعرف أن بامكاني الاعتماد عليك..انا اتحدث اليك الان ...أنت الوحيدة التي استطيع ان اتحدث معها بهذا الموضوع...فلا تخذليني...أمك مريضة بالقلب و لاتحتمل مثل هذه الأحاديث...وخالتك التي أوصيك بها طيبة و عاقلة و انما ضعيفة لاتستطيع أن تقوم بمثل هذه المهمة...أما أنت......

ان الحياة كلها وقفة عز فقط.......

شآم ما المجد....أنت المجد لم يغب...
jesus loves me...
  رد مع اقتباس
قديم 08/10/2007   #20
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


قاطعتها وأنا أحاول أن تكون لهجتي ممازحة:- لا تخافي ...ستكون جنازتك ممتازة...فلا تشغلي بالك....
ابتسمت وتابعت:
-تقبريني..هذا مااريده...واحفظي الان...أن هنالك في الخزانة ,في الدرفة اليمنى, بقجة...وضعت فيها الثياب التي يجب ان أرتديها عندما اموت...يجب ان ابدو مرتبة....مشطي لي شعري و اعقصيه الى الخلف كمافي العادة...تقبريني لا أريد أن اتبهدل في موتي....
وابتدأ ينشغل بالي:
-ولكن...ماذا خطر لك لتفتحي الموضوع الان؟ هل تشكين من شئ ؟هل انت مريضة؟ هل تشعرين بشئ؟ ماذا هنالك؟
قالت:- لا لا......أنا لا اشكو من شئ ...أنا فقط تعبانة قليلا....انما يجب ان اتحدث في هذا الموضوع لارتاح...الموت ات في يوم...فلماذا...لا اهئ له نفسي سلفا فأقضي باقي أيامي مطمئنة؟
قلت في ضحكة مفتعلة:
اطمئني....اطمئني....هذا موضوع فهمناه...والان يجب ان نتحدث في موضوع اهم...أنت على أحسن مايرام..ومازلت في نظري شابة.......فهذا جارنا الذي يكبرك بعشرين عاما يحتقل بعيده اليوم....ألن تغيري رأيك وتقبلي به عريسا؟
ابتسمت في حياء وعياء وتمتمت:-اسكتي...عيب!
ولم اسكت..وبقيت اتحدث معها واضحك...ولكن قلقا موجعا كان يتمدد ويحتل اعماقي....
وفي الواقع ..غادرتنا جدتي بعد شهر ..
في هدوء وأناقة ومحبة ....رحلت...رحلت وهي تبتسم لنا ..
كانت تستند الى ذراع خالتي و تمسك بيد ابنتي ...وتنظر الي باطمئنان....
كان وجهها مضيئا صافيا طاهرا....
رحلت وضل صوتها يتردد في أرجاء البيت :
-" تقبروني" ...أتعبتكم معي....وغرق أهل البيت بالبكاء...
أما أنا...فلم يجد الحزن يومها طريقة الى نفسي ...كان همي الوحيد أن أنفذ وصيتها لي....
أحسست بمسؤولية كبيرة حجبت عني الحزن....
لم أستوعب أن جدتي الغالية فارقتني الى الأبد وأن الأمر يحزن....
شعرت بالأحرى أنني مرتبطة معها بوعد وأن علي ألا أخيب ظنها بي...
ورحت أتصل بالمقربين والأصدقاء..وأسألهم عما يجب فعله في مثل هذه الأحوال...
أحسن ما يمكن فعله!!
اتصلت, وركضت, وتعبت, وهيأت.....وكانت الجنازة مهيبة....
مشينا وراءها كلنا ...رجال الدين والنساء والصبايا و الرجال....ولم أبك......
وفي الأيام التي تلت والتي غص البيت فيها بالناس, لم أبك....
كان فكري طول الوقت مشغولا بوعدي....
يجب أن يكون المأتم لائقا بهذه السيدة العظيمة التي نشأنا في أحضانها و كبرنا...
والتي علمتنا الصبر و الصمت والكبرياء...
هذه الكبيرة التي كانت في اللحظات الصعبة تردد علينا بلهجتها الشامية العريقة: -تقبروني. طولو باكم, الحياه بدها طولة بال....فالانسان يحفظ كرامته بطولة البال والصبر......
هذه الأم الحقيقية التي بقيت حتى اخر يوم في حياتها محتفظة بحيائها وكأنها عذراء في مطلع الصبا...
اه يا جدتي ...اه ياست شفوق...ياست الستات سيحمر خداك الان اذا قلت لك ممازحة ان جارنا العجوز لم يصبر على فراقك وأنه من فرط الهيام والوجد ...غادرنا ولحق بك....
نبهني من شرودي صوت ابنتي.: - هل سمعت أن جارنا العجوز مات؟
أومأت بالايجاب....فتابعت في تأثر: - لقد حزنت عليه كثيرا....
هززت رأسي وأنا أتمتم: - طبعا ...طبعا.....
وانفجرت فجأة أبكي وأبكي وأبكي......................................
واستغربت ابنتي: -ماذا أصابك؟
لم استطع أن أجيبها ...كنت غارقة في دمعي...فألحت وهي تقدم لي كأس ماء:
-ماذا جرى لك؟
فالتفت اليها ...وبين شهقات الدمع غمغمت:
-يبدو أنني الان.....الان فقط ...ابتدأت أبكي على جدتي......

دمشق 1992
  رد مع اقتباس
قديم 08/10/2007   #21
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


القصة السابقة..من مجموعة الكاتبة طويلة قصصي القصيرة....
  رد مع اقتباس
قديم 09/10/2007   #22
شب و شيخ الشباب BL@CK
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ BL@CK
BL@CK is offline
 
نورنا ب:
Apr 2007
المطرح:
Aleppo-Syria
مشاركات:
4,345

افتراضي


بكاء ولا دموع!


وسط هذا الممر الرمادي الطويل، الذي يبدو وكأنه لا ينتهي وسط الأكفان البيض المتحركة ممرضات وأطباء تتجوّلون بين جموع المرضى المتعبة التي تتجوّل وتثرثر، وكأنَّ الثرثرة بلسم لوجع القلوب الذي لا تنفذ فيه العقاقير...‏
وسط هذا السديم، كانت "شيرين" تقفز وهي تركض نحوي، فأفتح ذراعي لأستقبل جسمها الضئيل، وأتلقى قبلتها التي تفيض شوقاً ومحبة، وهي تصر أن تطبعها على وجنتي الواحدة تلو الأخرى...‏
كانت شيرين زهرة بنفسج صغيرة آسرة بفتنتها تبتسم وتثرثر، وكانت تحدثني دائماً عن بيتهم في حلب، بيتهم الذي يطل على حديقة واسعة تلعب فيها مع أولاد الحارة تحدثني عن الأراجيح والقطط الصغيرة والأزهار الملونة، وكانت تفيض حولي كرائحة زكية، فأحسها أقرب إلى الخيال بنظافتها وأحاديثها الملونة الزاهية كانت تنتشلني للحظات من عالم آلي جامد لتجعلني أطل على عالم طفولي، فأتمنى ولو لبرهةٍ أن أرتمي فيه وأبكي بفرح وأنسى عالم الإسمنت والأجهزة التي تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الإنسان...‏
ماكانت شيرين تترك يدي حتى أعدها أني سأزور بيتهم في حلب، وأني سألعب في الحديقة معها ومع أولاد الحارة، وآخر ماكانت تقوله قبل أن تفارقني:‏
ـ هل ستأتين غداً؟..‏
فأجيب مؤكدة: "بالطبع يا صغيرتي الحلوة...‏
كانت شيرين تهب لي أشياء كثيرة، أعظم من الكتب الفلسفية أكبر من المحاضرات القيّمة أعمق كثيراً من جدلنا، وأحاديثنا التي لا تنتهي إلا بصداع وفراغ... كانت كلماتها المتناهية في البراءة والبساطة تحرك في نفسي المثقلة آلاف المشاعر...‏
كنت أحتويها بمسامي، بروحي، وبحواسي كلها، وعندما سألتني ببساطتها وابتسامتها الرقيقة هل صحيح سيستأصل الطبيب عيني؟...‏
ذهلتُ... حاولت أن أكذب، وهالني أن أكون كاذبة أمام ملاك صغير، كان سؤالها بالبساطة نفسها، والابتسامة ذاتها وهي تسألني كعادتها: هل ستأتين غداً؟..‏
ـ من قال لك هذا يا شيرين؟..‏
الطبيب قال لأمي أنه سيستأصل عيني هذه...‏
وأشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينيها المغطاة بضماد كبير على الوجه الطفولي المتألم.‏
قلت بأسى عميق: بلى يا عزيزتي...‏
آه، يا طفلتي، أي عزاء أقدّمه لك؟.. هل أُريك معنى الحقد في نفسي هل أشرح لك أن السرطان يأكل عيون أطفال أبرياء؟!...‏
سمعتها تقول: داخل عيني دملة صغيرة، ألا تشفى بالقطرة؟...‏
ـ كلا، لا تشفى يا شيرين، لا تحزني يا طفلتي، فأنت سترتاحين من مرض متعب، ثم سيضع لك الطبيب عيناً من زجاج، عيناً "جميلة جداً"، لا أحد يحس أنها من زجاج...‏
ـ ولكن، أنا سأشعر أنها من زجاج ولن أرى بها...‏
ـ ابق سعيدة يا شيرين، أنت في عمر الفرح، وتملكين عيناً أخرى تبصر، والذين يبصرون قلة يا حبيبتي...‏
ـ هل ستأتين غداً؟..‏
ـ أجل يا صغيرتي...‏

في اليوم التالي لم تستقبلني شيرين، لفّني الرواق الرمادي الطويل، ضغط على روحي بروائح المرض والأدوية، ومشيت بلا بسمة... لم أطل اليوم على العالم الطفولي الرائع... كانت شيرين مُخّدرة في غرفة العمليات، وكانت عينها المتهتكة المتورمة تنزف لمغادرتها الوجه الحبيب لتترك هوة، حفرة، يملؤها فيما بعد زجاج بارد ميت...‏
بعد أيام رأيتُ شيرين تتجول كعادتها في الرواق، ركضت صوبي، ولكن هذه المرة كأنها تحتمي من شيء وحاولت ألا تظهر ما يعتمل في داخلها وهي لا تتبين تماماً ثقل مشاعرها...‏
قلت لها بفرح: لأغطي حزني العميق: الحمد لله على السلامة يا شيرين...‏
فإذا بصوتها يأتيني حزيناً كئيباً: ولكني متعبة... وعيني التي بقيت لي حمراء... أصابني هلع، خشيت أن أنظر إليها، فقد يكون المرض الخبيث انتقل إلى العين الثانية السليمة... وحدست أن شيرين سيجري لها عملية أخرى، وأنها لن تعود قادرة على القفز واللعب في الحديقة الغنّاء مع الأولاد...‏


يتبــــــع ..

ويحَ زمَنٍ أصبَحَ فيهِ عاشِقُ الوطَنِ يُهان ..

ويُشطَبُ مِن ذاكرةِ عشقِهِ ..

ومِن قائِمَةِ بني الإنسان !!



.
  رد مع اقتباس
قديم 09/10/2007   #23
شب و شيخ الشباب BL@CK
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ BL@CK
BL@CK is offline
 
نورنا ب:
Apr 2007
المطرح:
Aleppo-Syria
مشاركات:
4,345

افتراضي



هرمتُ، هرمت أنا يا شيرين، يثقبني الحزن، خرساء أنا، وتنبهتُ لها: تقول: ولكن لماذا عيني هذه حمراء؟!...‏
ـ لاتهتمي يا صغيرتي، ستشفى، يجب أن تفرحي الآن فقد تخلصت من عين مريضة، كانت ستؤذيك كثيراً...؟‏
فرحت.... صدقتني... دائماً نحن نكذب على الصغار، ودائماً هم يصدقون، وعندما يكبرون يكتشفون أننا كنا نكذب فيهرمون..‏
أسرعت تحضر علبة كبيرة، وتقدم لي شوكولاتات كثيرة أخذتها منها بامتنان وتركتها وأنا أعدها أنني سأزورهم في حلب...‏
اعتدتُ كلَّ صباحٍ على البلسم الرقيق، على العصفور الطليق، وكان الأمل يكبر ببقاء نظر شيرين في العين الأخرى سليماً... وجرت مباحثات حول تخريجها من المستشفى... وعادت تحدثني عن شوقها إلى حلب، إلى الحديقة، إلى أولاد الحارة، وأخذت تعرب عن لهفتها للسفر في القطار وسألتني بإلحاح:‏
ـ لماذا لم يضعوا لي عيناً من زجاج بعد؟!..‏
ـ ولكن الوقت لم يحن بعد صغيرتي، ألا يجب أن يندمل الجرح أولاً؟...‏
ـ آه معك حق...‏
راحت شيرين تأخذُ من كل مريض تذكاراً، وتعطي لكل من أحبته تذكاراً منها، أعطتني أسواراً نحاسياً عتيقاً وصغيراً، رفضتُ في البداية، ولكن أمام إصرارها قبلت... وأخذت مني قلماً ملوناً بالأخضر والأحمر والأسود... فرحتُ به لأنه يكتب ثلاثة ألوان معاً... وكانت كل يوم تستقبلني وهي تحمله مزهوة..‏
ذات صباح لم أر شيرين، ذهبت أتفقدها في سريرها رأيته فارغاً، هل رحلتِ بهذه السرعة؟.. هكذا... ودون أن تودعني، وجاءني صوت جاف:‏
ـ أدخلوها إلى غرفة العمليات...‏
وتمثل لي الجزع سرطاناً يغزو قلبي ولا أملك شيئاً تجاهه..‏
وتسمرت نظرتي جامدة بلهاء على السرير الضيق الفارغ، ونتحت دموع باردة من عيني بقيت معلقة كأنها تجمدت إلى الأبد غشاوة لن تزول...‏
وخرجت شيرين من غرفة العمليات... وجه طفولي حلو بلا عينين!!...‏
لم أصدق نظري... الطفل يشيخ، كيف يشيخ الطفل بهذه السرعة؟...‏
كان الحزن والإعياء يحطّمان كيانها الغض، وكدت أجن غير مصدقة أنها لن تراني، وتملكني شعور بالجريمة والذنب، كانت ساهية ليست من هذا العالم... كانت غارقة في بحر من السواد لا بصيص فيه، هربت لم أستطع أن أعمل شيئاً...‏
في المساء كانت روحي تهيم هناك حيث ترقد شيرين ووجدت نفسي أسارع إليها... بدا الرواق أضيق مما هو وأشد عتمة، وخيم الهدوء على كل شيء هدوء كئيب كصمت الجنازة، جنازة إنسان محبوب...‏
وترددت قبل الدخول إلى الغرفة التي تحتوي شيرين مع عدة مريضات من العجائز، رأيتها من بعد، جسداً معذباً... روحاً يئن بصمت ويهيم في لجة من السواد لا مخرج منها، ويداها مسدلتان فوق الغطاء الأبيض المتسخ بدا صدرها يعلو ويهبط بإيقاع ثقيل... خنقتني حلقة حديد من حنجرتي، وكانت الصراعات في داخلي تنعكس على وجهي ألواناً عابسة متتالية...‏
اقتربت من شيرين وأمسكت يدها، وقبل أن أتفوه باسمها، أحسستها تبتسم بكل الألم الذي يعتصر روحها، كانت تفهم أكثر منا نحن الكبار، ماكانت بحاجة لأية كلمة عزاء تافهة تسمعها مني، من أي شخص كان... كان صمتها مهيباً... فلم أجسر على خدشه بكلمة واحدة...‏
وعندما لفظت اسمها وأنا أحاول بكل جهدي أن أبدو طبيعية، لم تقل شيئاً، ولفنا صمت ثقيل كأنه يسبق إصدار حكم بالإعدام وقالت وقد كبر صوتها بالحزن:‏
ـ سأرحل غداً، سيأتي أبي ليأخذني...‏
ولم أتمالك نفسي أن قلت: غداً؟! كلا لن ترحلي...‏
وبكل هدوء جاء صوتها من بعيد محملاً بأسى لا يوصف...‏
ـ غداً سأرحل...‏
ووجدتها تمد يدها تحت المخدة كأنما تبحث عن شيء، وبعد لحظات أخرجت القلم الملون بالأحمر والأخضر والأسود ومدته أمامها في الفراغ وقالت: هذا لك... سأعيده...‏
واختنق صوتها...‏
هززتها من يدها وقلت كلا: إنه ذكراي يا شيرين...‏
ذكرى مني لك، وبكل رصانة قالت: لم يعد له لزوم، لن ألون به...‏
وأصررت، فأطبقت أصابعها النحيلة فوقه، وغرقت في السواد اللا متناهي، فاجأني سؤالها:‏
ـ أما زلت تحتفظين بسواري الصغير...‏
ـ سأحتفظ به مدى العمر..‏
ابتسمت هذه المرة، شعت روحها بابتسامة فاضت حولها وغمرتني... كان اللقاء موجعاً لكلينا طلبت إليَّ أن أفتح درجها المجاور للسرير، رأيت فيه كثيراً من أشياء شيرين وتذكارات عن المرض، قالت: تفضلي خذي شوكولا...‏
أجدر بك أن تقدمي لي خلا؟؟ يا صديقتي لأشربه...‏
حاولت أن أرطب الجو، قلت لها: كم أنت محبوبة يا شيرين، تملكين كل هذه الأشياء تذكارات من المرضى!...‏
وجاءني صوتها من وراء السحاب: وما الفائدة؟ هل سأراها بعيون من زجاج؟!..‏
كان الضباب يلفني ويعزلني، وحدثت نفسي: بل سترينها يا شيرين، ليس بعيون من زجاج، فأنت تبصرين يا عزيزتي، روحك تبصر، نحن الذين عيوننا من زجاج، وقلوبنا من حجارة، أنت تبصرين يا حبيبتي، أحسك ترين أكثر من هذه العيون المفتحة ببلاهة.‏
وتركتها بعد أن قبلتها مراراً، كانت شيرين تبكي، سمعت نحيباً، تبكي بلا دموع بلا عيون، بكاءً حقيقياً..‏
وقبل أن أترك يدها، سألتني بخيبة أمل وأسى:‏
ـ أما زلت تريدين زيارتي في حلب؟..‏
ـ سآتي خصوصاً لأراك..‏
واحتواني ا لرواق الرمادي الضيق، كان يبتلعني وسرت وحيدة وأنا أتألم... لن تقفز شيرين بعد اليوم، راكضة نحوي لتلقي بجسدها النحيل بين ذراعي، وتقبلني باهتمام وحب طفولي طاهر..‏



د.هيفاء بيطار
  رد مع اقتباس
قديم 03/12/2007   #24
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


ليش وقفتو؟؟؟ انا شخصيا جاي ع بالي كمل.....
  رد مع اقتباس
قديم 04/12/2007   #25
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


ستة ألوان
لوجه مدينة منسيّة

ابتسام ترسيسي
صباح الخميس 30/آذار/2000
1 ـ رمادي ...
استيقظت مذعورة ، كعادتي كل صباح ، عندما يخنق السعال طفلي بأصابعه الشرسة ، حملته بين ذراعيّ هززته قليلاً ، بللت فمه بقطرات من الماء محاولة مساعدته على طرد البلغم المتشبث بخلايا حنجرته ، امتدت الزرقة حول عينيه الجميلتين وفمه الصغير ، يرافقها صوت المؤذن في الجامع الكبير الملاصق لبيتنا : ــ (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) أخوكم المرحوم ياسين الحداد ، انتقل إلى رحمة الله تعالى . الصلاة على الجنازة الساعة السابعة .
تشنجت يد طفلي الممتدة إلى أنفه في محاولة يائسة لدفع الهواء إليه . يتابع المؤذن :
ـ (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )) ... الفاتحة .
ارتديت ملابسي بسرعة ، وخرجت قاصدة طبيبة الحي ..
2 ـ أبيض ...
كان الصباح الربيعي يبسم في عيون الأطفال المتجهين إلى مدارسهم ، بقلوب تتقافز فرحاً وخطوات ترقص لمستقبل قادم من بعيد ، الشرائط الحمر والبيض في شعور الفتيات تضحك لزهرات المشمش الصغيرة في أوّل تفتحها .
الصبيان يتراكضون في مرح مشاكس ، يسبقون الزمن المقيت ، وأنا أحث الخطى حاملة طفلي باتجاه الساحة التي تبدو مزدحمة على غير العادة في الصباح الباكر .
عند بيت محمود السعيد كانت سلال الورد تقف في الطابور ، وابنه الشاب حسن يغسل السيارة ويلمعها استعداداً لزفة العروس هذا المساء ، أطلت أم حسن من النافذة ، نادت ابنها :
ـ أريدك أن تذهب إلى السوق ، ما زال لدي الكثير من الأعمال . والتفتت إلى المستخدمة التي كانت تنظف النوافذ ، أعطتها ملحوظة صغيرة بصوت عال ورفيع .. ودلفت إلى البيت .
3 ـ أخضر ...
عندما وصلت إلى الساحة المتفرعة إلى أربع جهات ، كانت الزمامير تعلو صاخبة والأعلام الخضراء والحمراء تزين السيارات ، وأعواد الورد والغار في أيدي الصغار المحتشدين لاستقبال زائر بيت الله الحرام ، كان الحاج محمد بلحيته البيضاء ، وقامته المهيبة يتوسط مستقبليه ، بينما فرقة السيف تقوم باستعراض راقص على أنغام المزاهر والدفوف ، بإيقاع منتظم بسيط ...
صوت قائد الفرقة ينادي : الفاتحة على روح النبي ، وعقبال العودة .
سارت قافلة المستقبلين شرقاً ، تداخلت أصوات الراقصين الفرحة بعودة الحاج مع صوت نائح :
ـ الفاتحة على روح المرحوم .
وعلا صوت قائد الفرقة الذي أصبح بمحاذاة القافلة التي تشيع المرحوم باتجاه الغرب :
ـ الفاتحة على روح النبي .
4 ـ أصفر ...
عركت الطبيبة هند عينيها من آثار النوم وتمطت ، أخذت الطفل من يدي ، فحصت الصدر بسماعتها و بكسل واضح ، نقلت خطوة متثاقلة باتجاه النافذة ، نظرت إلى البعيد ، لم يكن الطفل ولا أنا ما تنظر إليه :
طفلك بحاجة إلى أوكسجين , الأفضل نقله إلى المشفى سأعطيه مهدئاً ، لا أستطيع عمل شيء له .
قلبي ينتفض بين ضلوعي ، الصفرة تغطي وجه طفلي ، يداه الصغيرتان المرتعشتان استسلمتا ، وارتمتا بعيداً عن صدري ...
5 ـ أحمر ...
كانت أغرودة طويلة تمدّ عنقها الأفعواني من نافذة إحدى غرف المشفى ، تبعتها أخرى حلزونية منكمشة ، وثالثة كصافرة إنذار ..
صالة الاستقبال متخمة بباقات الورد الملونة التي يرقص الربيع في أجفانها الناعسة ، وتضج البهجة في وجناتها ..
استقبلتني الموظفة بابتسامة عريضة :
ـ إنه أول مولود لمدير المنطقة جاءه بعد سبع سنوات ...
ـ طفلي يعاني من تشنج في القصبات ، الزرقة تحتل وجهه وهو بحاجة لأوكسجين .
ـ لم يأت الطبيب بعد !
ـ الطبيب المقيم ؟
ـ في الخارج ...
أغرودة عالية تشق صدري .. سعال ، ضحكات ، تشنج صدر طفلي بقسوة ، اختلج بين يدي ، اجتاحه عرق بارد ... و ... تصرخ حنجرتي الذبيحة :
ـ أرجوكم أوكسجين .
ـ سيأتي الطبيب في التاسعة .
طفلي يتمتم بصعوبة : ما ...
6 ـ أسود ...
أنكفئ على درجات المشفى محتضنة طفلي محاولة إرجاعه إلى رحمي .. ! أصوات تدق رأسي بمطرقة نحاسية عتيقة ، أحذية ملمعة .. دفوف .. مزاهر .. طبول .. أغاريد .. صوت المؤذن : الفاتحة على روح .... خطوات أنيقة تطرق البلاط الناعم :
ـ ماذا تفعلين هنا أيتها السيدة ؟
أغص بالكلمات فتخرج تمتمة مبهمة من بين شفتي .
وجه الطبيب الشمعي المصقول يطالعني بابتسامة باردة مشيراً إلى الطفل : ما به ؟
ـ طفلي كان ... بحاجة ... للأوكسجين .
يمد يده المنشاة إلى شعره الأملس :
ـ آ ... على كلٍ هدئي من روعك لا يوجد لدينا في المشفى سوى حاضنة ، شُغلت هذا الصباح بابن مدير المنطقة ..تعلمين ... المشفى ذو إمكانيات متواضعة .
تستمر الدفوف .. دقات القلب تعلو .. تطرق أذني .. أعلام سوداء نساء متشحات بالسواد ... وباقات الورد في كل مكان !!

آخر تعديل سرسورة يوم 04/12/2007 في 05:05.
  رد مع اقتباس
قديم 05/12/2007   #26
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


فستان الشيفون الأسود"
انيسة عبود
(1)
لاأعرف لماذا انزعجت.
(2)
كنت أرتدي فستان الشيفون الأسود. وكنت أعاني صداعاً نصفياً حاداً. الغرفة المحجوزة لي في الطابق الرابع، واسعة: سريران ونافذة تطلّ على ساحة المدينة. قرنفلة حمراء في الكأس، وحبوب الصداع على الطربيزة.
شراشف ملونة كأن خريفاً تساقط عليها. موعد الحفلة لم يحن بعد. مازالت الطريق التي اجتزتها عالقة بقدمي. أجرجره من الغرب باتجاه الشمال والشرق. ساحبة البحر معي إلى تلك المدينة الصحراوية.
يتنازعني صمتٌ وباب ونافذة وانتظار، وبهو في الطابق السفلي يخبئ لي الأسرار والمفاجآت، ومساء لا أعرف كيف سأطوي عتمته، وهاتف أخرس طيلة الوقت يرنّ فجأة، فيخربط الهدوء ويلمّني عن السرير.
(3)
أنا أتفقد الغرفة.
كل حطام روحي جمعته وجلبته معي.
نزق أمي، نزق الزمن، صراخ أبي، وجوه بعض الأصدقاء، ثم الصداع. إني لاأترك شيئاً حين أسافر، من فرشاة الأسنان إلى آخر الهموم.
الهاتف يرن. لماذا دعوني وأنا لاوقت لديَّ للفرح؟
الهاتف يرنّ. ثمة أحد يستعجلني النزول. أتكاسل في رفع السماعة، لارغبة لدي بالتحدث والمجاملة ونثر الأسئلة. الهاتف يرن. ولكن لماذا انزعجت؟
(4)
كنت متأهبة لملاقاته. لقد حدثني أحمد عنه كثيراً حتى قلت له مرة "صرعتني به" ابتسم وقال: "اسمعي" إنه رجل رائع. وهو صديقي جداً جداً.
سرد تاريخ معرفتهما. هززت رأسي. ماعلاقتي أنا؟ ومرة أعطاني السماعة وقال: سلمي عليه. إنه يعرفك، لقد حدثته عنك، كدت أغلق الخط.
لماذا أسلّم على رجل لاأعرفه؟ لم أحب هذه الطريقة، مع ذلك.
أخذت السماعة وسلمت.
"حدثني أحمد عنك كثيراً"
"وأنا كذلك. نحن نعرف بعضنا"
وإذ أغلقت السماعة لاأعرف لماذا اعتراني الفضول كي أشاهد هذا الرجل.
ثم تتالت حواراتنا عبر الهاتف في المناسبات. كان يعرف عني كلّ شيء من خلال أحمد. وكان قد شاهد بعض لوحاتي المرسومة على الخشب. وأنا بالمقابل عرفت عنه أشياء كثيرة، لكنّها لاتهمني. مع ذلك وجدتني مع كل هاتف أرسم له شكلاً معيناً.
مرة أعطيه شكل أخي الكبير. ومرة أعطيه شكل أبي، ولكن سرعان ماأعتقد أنه يشبه خالي كامل.. هكذا: طويل، وسيم، عريض المنكبين، له صوت جميل، وربما كان أجمل من خالي.
في مكالمة تالية، أعطيته شكل عمي: قصير القامة، ممتلئ الجسم، أسمر الوجه، بعد ذلك أمحو كل التصورات والملامح والأسماء زاعمة بأنها لاتعنيني.
(5)
كان أحمد صلة الوصل بيننا.
صرت أعرف متى يسافر عليّ، ماذا يحبّ، كيف يعيش تقريباً. ولكن كنت أثبت لأحمد دائماً أن اهتمامي بعليّ -الذي لم أره أبداً- يعني اهتمامي بأحمد.
وعندما كنّا نتحدث عليّ وأنا، كان أحمد محور الحديث. أحياناً كنت أدير ظهري لكل هذه المجاملات والطقوس وأتمرد على قوانين العلاقات المعتمدة على الزيف، في الوقت الذي نكون فيه نكاد ننفجر.
كنت أبرر لنفسي دائماً: لاشيء يقيدني، أنا أتحدث مع من أشاء، ساعة أشاء، وليس من أجل إرضاء أحد. هذا الـ -علي- لايعنيني كصديق.
إنه صديق صديقي وكفى. عالمه غير عالمي، وهمومه لاتشبه همومي. إنه لايقع ضمن دائرة تخيلاتي. والقواسم المشتركة بيننا قليلة.
أحمد عاتبني بشدة. قلت له: آن لنا أن نختار أصدقاءنا. ماعدت قادرة على المجاملة.
"آن لي أن أكون أنا. أنا"
"ولكن عليّ رائع"
"لا أحد رائع إلا بعد تجربة. كنت ملدوغة من الزمن، ومن الأصدقاء، لذلك كنت سريعة الحكم والهروب. "ولكن لماذا انزعجت عندما تقابلنا لأول مرة؟! "
"لا أعرف."
(6)
كان تشرين في أواخره.
هوى تشرين يحرر الورق الأصفر الحزين. الغيوم تتكدس وراء نافذة الغرفة في الطابق الرابع، تطلّ على ساحة المدينة.
الساحة واسعة، موحشة، غريبة، الباب مقفل وأنا غريبة ومتعبة لا اعرف كيف أرمي أكداس القلق من هذه النافذة في الساحة ليتشظّى ويتناثر والناس يقولون: امرأة بحرية رمت أسماءها ووجعها الساحلي في ساحتنا، فهل لأحدكم اعتراض؟!
كنت أسمع الجدران تتكلم: "سيعترض عمال البلدية. سيعترض رئيس البلدية، والمحافظ، سيقولون: من أين لنا بالعمال ينظفون هذا الكم الهائل من الحزن والهذيان المتناثر في الساحة.
الساحة للاحتفالات. للعروض التي تظهر قوة المدينة وعظمة المحافظ وضخامة رئيس البلدية. الساحة للفرح. يستعرض بها الناس مقتنياتهم النادرة وكتبهم العملاقة وسيوفهم الفتّاكة. إنها لاتخصّ فرداً يلقي بها أحزانه ويجلبنا لنتفرج عليها.
"ولكن أنا من الشعب. والشعب يعني أنا".
"الحزن كالفرح، نحتاج لنعبّر عنه"
"من أنت يا امرأة؟"
"أنا ..سيدي امرأة غريبة، تشيل همومها اليومية وإرثها القديم من البطش على كتفيها. رأيت الساحة خالية، وأريد أن أذهب إلى حفل صديقي. لم أستطع إيجاد مكان أفضل من الساحة الواسعة ألقي بهمومي كي أرتاح، وأذهب إلى الحفلة مبتجهة. كي.."
"..... "
"لا. لم يعترضني حراس المفارق. ولم يفتشوا رأسي في الطريق. آه" رأسي يؤلمني الصداع اللعين...آخ"
ينتشلني الهاتف الذي يرن. أركض إليه حافية. أتزحلق. أصطدم بحافة السرير. أقع. أظلّ على الأرض مكومة. ينتهي الرنين وأنا ماأزال كقطة خائفة، لا أقدر على النهوض.
ظننت أن صديقي يستعجلني. أتلمس صدري المرضوض. أعتقد أن ضلعاً قد كسر. نهضت بتثاقل. شتمت الفندق، وعماله الذين رفعوا الموكيت. شتمت الذي اتصل. عاد الهاتف إلى الرنين. رفعت السماعة. حاضر. سأنز.. ولم أكمل. كان الصوت هادئاً: أنا علي، علمت أنك موجودة هنا. هل أقدر أن أراك؟
"طبعاً"
تلعثمت: أنا في الغرفة "407" في الطابق.. وفي الجهة.. في المدينة التي تجرّدني من اسمي وعناويني ويبقى شكلي الخارجي فقط: أنثى سمراء، طولها كذا، وزنها كذا، أصدقاؤها هم كذا.. مرت هنا و.
قال: مسافة الطريق.
مسافة؟!
أي مسافة يقصد؟!
الآن سيأتي. يريد اجتياز الساحة التي تفصلنا. لن يقدر. سيرى الساحة مملوءة بالتماثيل الصغيرة التي فرّخها التمثال الكبير. لا . لن يستطيع العبور. عليه أن ينحني ويلتفّ. تماثيل القلق التي نثرتها في الساحة تشكل مطبّات وحواجز.
ولكن: كل هذه التماثيل أنا جلبتها؟!
لا أظن. ربما تشجّع غيري ورمى بعض تماثيله التي تثقل ظهره؟ أو كنسّ بيته الذي ضاق بهذه التماثيل وأراد أن يتخلّص منها؟!
لاأعتقد بأنها كلها تخصّني. أرقب الساحة وأنا أفكر بالحوار الذي سأديره مع علي. إنه حوار وجه لوجه. حوار مختلف عن حوارات الهاتف.
  رد مع اقتباس
قديم 05/12/2007   #27
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


أوه..
مسافة؟!
أحاول اختراع حوارات لطيفة أحدّث بها عليّ" الصداع يشجّ رأسي. أستلقي على السرير. غيوم تتساقط في الغرفة. صَدري يؤلمني. لابدّ أن ضلعاً قد كسر. ليكنْ. أصير ناقصة ضلعين بدلاً من ضلع واحد. سيكون ذلك ميزة أنثوية فائقة بالنسبة لي. أتأوه وحدي. أتقلّب على السرير حتى لايتجعّد فستان الشيفون الأسود، المنسدل على جسدي.
"ترى كيف يتصورني عليّ؟!"
أنا أتصوره وسيماً. أنيقاً. أحمد قال: بأنه دار العالم. نهل من ثقافات كثيرة. وتعرّف على نساء كثيرات. إذن يجب أن يكون وسيماً.
بالتأكيد هو لايشبه فلاحي قريتي المشققة أكفهم بالمطر والوحل. لايشبه زملائي الموظفين الذي يرتدون القميص طيلة العام، يغسلونه ويكوونه ثم يعيدون الكرّة حتى تتنسَّل خيوطه ويجرد لونه. قد يشبه ابن عمي عامر الفنان. أو يشبه صديقي الجراح الكبير. أو. يُقرع الباب: انهض. أسدل ثوبي الأسود الشيفون. "من؟"
"أنا عليّ"
أدير قبضة الباب. القبضة لاتدور. أحاول شدّها. "لحظة من فضلك الباب لاينفتح" أشعر بالحرج. أحاول مرات حتى أجرح أصابعي.
يظنني مشغولة بوضع العطر. أعارك الباب مرّة أخرى. يديرُ أكرة الباب. أخيراً ننجح: هاهو أمامي. أتراجع إلى الوراء. تتلعثم أصابعي في كفّه الرقيقة. أهتدي إلى كلمة "تفضل".
جلس على حافة السرير. ظللت واقفة لا أعرف كيف أبدد خيوط الدهشة. تأملني. أطرقتُ رأسي. ساد الصمت. كنت خجلة جداً.
... ... ...
(7)
ماذا لو أن الباب لم ينفتح.
"أنا أعرفك جيداً.." قال كي يكسر زجاج الصمت. لم أستطع الكلام. أربكتني المفاجأة. وأحزنني الرهان الخاسر مع خيالاتي. للأسف هو لايشبه أبي أو عمي ولا أخي الكبير. إنه لايشبه خالي. ولايشبه عامر.. لماذا؟ لماذا انزعجت؟ ماعلاقتي به؟!
"أتشرب القهوة؟ "
"لا. لن أعطلك عن الحفلة"
اعتراني إحساس بالحزن والأسى. لقد خسرت مع نبوءتي. إذن الصوت لايحدد الشكل.
"ولكن لدي وقت كافٍ لنشرب القهوة"
لكنه يرفض. هكذا ببساطة يأتي، وببساطة ينسحب. "لن أعطلك" ما أثقل هذه العبارة! ليكن. أظنه جاء ليرى شكلي، وأنا كنت أريد أن أرى شكله بعد المهاتفات والحوارات. ولكن لماذا حضرَ الشكل وغاب الحوار؟
نزلنا معاً البهوَ. ودعني. كانت يده باردة، وكان صوتي بارداً. راقبته من بعيد. تكسر غصن برتقال في روحي. هل كنت أنتظر صورة أخرى لصوت أعرفه؟!
في السهرة نسيت اللقاء، وعاتبت نفسي كلما تذكرت انزعاجي. ليكن طويلاً، قصيراً، نحيلاً، شاباً، عجوزاً، بشعاً، ماعلاقتي به؟!
.... ... ...
(
لا. لم يغير لقاؤنا من طريقة الحوار. نبدأ بالطقس، وآخر لوحاتي، وننهي الحديث بالكلام عن أحمد وعن آخر أعماله. لكني صرت أستفقد هواتفه عندما يتأخر.
وقد أسال عنه أو أتصل به. وشيئاً فشيئاً صار وجهه يطغى ويحتل غرفتي. لم أكن أخطط لذلك، فأنا لاأميل بالتدريج. دائماً أخشى اللقاء الأول. ولقائي الأول به مرّ. لم يبق في ذاكرتي إلا لون ثيابه -طقمه الأخضر- أو الزيتوني. والباب الذي رفض أن ينفتح مباشرة كأن الأبواب تدرك ماوراءها؟ يضحك. "أتذكر ذلك؟"
غمرني بنظرة شفيفة وقال: أذكره، وأذكر ماذا كنت ترتدين. إنه ثوب الشيفون الأسود. الجميل. المثير. الـ.
وأنت كنت ترتدي اللون الزيتوني المخضّر. يومها لا أعرف لماذا انزعجت؟ لم أخبرك إلا بعد زمن طويل وكان الوقت ليلاً، والهواء الشمالي يعصف بالمدينة. كانت الآلهة خائفة، والأشجار خائفة، المدفأة تئن، وأنا أرسم، وإذ رنّ الهاتف وسمعت صوتك ارتبكتُ. رحت أهرب من ارتباكي بأسئلة عابرة عن الطقس والبرد والمكان الذي تتكلم منه.
"أكلمك من المدينة التي التقينا بها لأول مرّة.
"صحيح..؟ أتذكر تفاصيل ذلك اللقاء الآن"
"كيف الطقس عندك؟ برد؟ بردانة؟"
"جداً.. برد وهواء شمالي يصفرّ على النوافذ""
"عندك برد؟"
"لا.. المكان مدفأ. تعالي أدفئك بين ذراعي. ألو."
ساد الصمت. وجهك ملأ الغرفة. انصهرت ألوان ثيابك مع ثوبي الشيفون الأسود.
"لماذا قلتها؟
"ماذا قلت؟"
"قلت: تعالي أدفئك؟
"الحق على البرد" ابتسم.
كلمة واحدة حملتني إلى غرفتك. اجتزت مسافات وجبال صقيع وتكومت بين يديك. يبدو أن لكل حالة توحد كلمة واحدة. كلمة تكفي لتصير أنت كل الرجال وأصير أنا كل النساء. كلمة؟! قد نقضي العمر ولانجدها. وقد تنبجس فجأة من بين ركام الكلام والوجوه والألوان فتزيل تماثيل القلق من الساحات وتلغي البرد والمسافات وكل الوجوه والأسماء و. هناك أشياء تُحسّ ولاتقال.
(9)
غمرت رأسها في صدره وقالت: "ماذا لو لم ترتدِ أنت الأخضر" وأنا لم أرتدِ فستان الشيفون الأسود. أو أنني ماجئت المدينة لحضور حفلةٍ. ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟ كنت ستظلّ صديق صديقي لا أكثر”
طوقها بذراعيه. شعرت رائحته تتغلغل إلى مسام روحها.. تأملته. إنه ليس الذي رأته أول مرّة. إنه الذي تراه بقلبها. وهو لايشبه أباها ولا أخاها ولا... إنه يشبه كل الذين تحبهم. نظرت إلى عينيه "ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟
مرر أنامله في شعرها الأسود. همس. "مع ذلك كنّا التقينا"
  رد مع اقتباس
قديم 05/12/2007   #28
شب و شيخ الشباب ابو عمير السوري
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ ابو عمير السوري
ابو عمير السوري is offline
 
نورنا ب:
Aug 2005
المطرح:
دمشق
مشاركات:
1,112

إرسال خطاب MSN إلى ابو عمير السوري
افتراضي


لو سمحتوا يلي عندو للكاتب هاني الراهب ينزلوا كتبه صعب الحصول عليها أفيدونا
  رد مع اقتباس
قديم 05/12/2007   #29
صبيّة و ست الصبايا butterfly
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ butterfly
butterfly is offline
 
نورنا ب:
Jan 2006
المطرح:
قلب الله
مشاركات:
14,333

افتراضي


شكرا سارة
جميلة جدأ
أخر قصة


انك " فقير إلى الآخر " كما هو فقير إليك " وأنك محتاج إلى الآخر ، كما هو محتاج إليك
الأب جورج

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 



- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 


  رد مع اقتباس
قديم 02/01/2008   #30
صبيّة و ست الصبايا butterfly
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ butterfly
butterfly is offline
 
نورنا ب:
Jan 2006
المطرح:
قلب الله
مشاركات:
14,333

افتراضي


هكذا أصبحت مدمنا ً

عندما حطت بنا الطائرة في أرض المطار أحسست بأني هبطت من عالم آخر..أو على وجه الدقة في عالم آخر، فللوهلة الأولى لم أستطع أن أصدق بأن أمريكا تقاسمنا مجرة درب التبانة واستغرق الأمر وقتا طويلا لأقتنع بأن أهلها يستنشقون هواءنا .
على الرغم من العيون التي رمقتني شزرا لحظة وصولي وكأنها تحدق بجرذ خارج من جحره ، فقد شعرت بالرتياح وأنا أجرجر أولى خطواتي على أرض العالم الجديد، وأحسست وقتها بأن الطائرة هي الرحم الذي نقلني من عالم العتمة إلى النور .
عندما تجاوزت أسوار المطار لأستقل سيارة أجرة راودتني رغبة لم أستطع كبتها. رغبة جعلتني أضحك من كل قلبي ذلك اليوم لم تكن تلك الرغبة سوى النباح، فنبحت نبحت وأنا رافع رأسي ، وأدركت آنذاك أن ثمة فرقا مابين واشنطن و... وطني .
وصلت الحي الصيني فاستعنت بالخريطة التي زودني بها صادق معروف ، وبفراستي البدوية لأتعرف على المنزل الذي سأقطن به . وراء الباب استقبلتني امرأة لم تختلف عما رواه عنها صديقي صادق إلا بكونها قد جاوزت الثلاثين قبل ولادتي وتحتاج إلى جرأة أو نبوءة لاكتشاف أنوثتها .
كانت هيلين قد أجّرت الغرفة المجاورة لغرفتي لشابة مكسيكية تعمل في ناد ليلي ، أما الغرفتان المقابلتان ، فقد استخدمت إحداهما ، وأجّرت الأخرى لعجوز فرنسي ، بينما حلّ هندي على السطح ،مما أشعرني بالغبطة وأنا أستمع إلى المعلومات من فمها . فما من أحد سينافسني على جارتي ..
قبلت الكأس التي قدمتها لي جارتي بالرغم من أنه لم يسبق لشفتي أن عاقرت كأسا من ذي قبل ، فاحتسيتها ووقتها اقتنعت بما قال غاليلو بعد أن دارت الأرض بي ، فشتمته .. ولكي لا يظن الأمر شخصيا ، فقد شتمت كولومبس .. وجورج واشنطن .. ولما تذكرت بأني لم أعد هناك في الوطن نبحت ، وشتمت الملوك والمحققين ورجال الشرطة والسجانين وكلّ من ألهمني الله شتمه ، ولما وجدت أن كأسا واحدة لا تكفي لشتم كل من يستحق، فقد طلبت كأسا ثانية ، وثالثة ، و ....


حسا م سفان
  رد مع اقتباس
قديم 07/01/2008   #31
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


ثرثرة في المحطة أنيسة عبود
دون استئذان جلس إلى طاولتي.
فنجان قهوتي برد، والثلج يرخُّ وراء الزجاج المغبّش. نظرت إلى وجهه. لم أقرأ شيئاً. الوجه أول صفحة في جسد الإنسان، والوجه أوّل باب للدخول إلى العوالم الباطنية. مسافرون يغادرون. مسافرون يدخلون. القاعة الواسعة تتكسر فيها الأصوات والخطى والوجوه. دخانٌ وكؤوس وكراسي بلاستيكية بيضاء. عطور تمتزج بالزفير ورائحة الفطائر المحروقة. صوت ينفلش في القاعة كلها. الرحلة رقم كذا على البولمان كذا.
الرحلة؟!!
ورحلتي لم يعلن عنها، لابدّ أن عمراً ينتظرني الآن في المحطة..
-عمرو. سأكون في محطة الوصول الساعة الثانية عشرة.
ستنتظرني؟‍!
-طبعاً.. ألست حياتي؟!
-والله..؟!!
-...
أفتح كتاباً وأطلب شاياً بالقرفة، لا أريد أن أقرأ أي شيء. مللت قراءة الشعر -أنا أحبّ القصة أكثر ياعمرو- هذا الذي يحدق بي ويلتقط حركاتي يزعجني. لم يطلب شاياً ولا قهوة. فقط وضع رجلاً فوق أخرى وراح يحدق بي. لا أعرف لماذا أردت أن أسأله: أتعرفني؟!! الثلج يهطل بغزارة. ندف الثلج تتراكم على الزجاج. رياح قوية تركض في الشارع. رياح كسرت باب البولمان ثم شالته. بعيداً ميتاً على ضفة الطريق والطريق كانت مسرعة. وأنا أريد أن أصل لأرى عمراً واقفاً في زاوية المحطة محدّقاً بالوجوه، بالحقائب، ماذا سأقول له؟!
"لاأعرف". سيفاجئني بصمته وأنا أحبّ أن يثرثر. ليحدثني مثلاً عن صباحاته، عن المساءات، عن النساء اللواتي أحببنه، عن التي أحبّها وكانت أجمل امرأة، هكذا كلهم يقولون وعندما يحبون امرأة تكون هذه المرأة أجمل امرأة في المدينة، ماتت به، ثم تركها ليحبنّي، أليس كذلك ياعمرو...؟!
إذن ليحدثني عن غرفته، وسريره وأحلامه، عن ألوان قمصانه، ألوان خيباته. بعد ذلك سنملّ الحديث. سنترك الأحلام في مكانها على الطاولة. في فناجين القهوة، فوق كراسي المقهى، ثم سنهبط دون مراعاة إلى الطابق الأرضي، إلى القبو، إلى العالم ..الأسفل، حيث سنرى الأموات يتشاجرون حول الاتفاقيات والتقسيمات، حول جثة لينين إن كانت مازالت بلا ديدان وبلا نخر، حول المرأة البوسنية التي تحولت إلى رجل، حين مرَّت تحت قوس قزح...
-أتصدقين ذلك؟!!
لماذا لا أصدق ياعمرو؟ الله قادر على كل شيء. في قريتنا تحولت امرأة إلى شجرة بجذعين وبغصنين شاهقين. وتحول الرجل الذي يحبها سراً إلى شجرة بلوط كبيرة بجذع ضخم. التفت الأغصان ذات صيف، ومال الجذعان مقتربين من بعضهما، ولكن ما إن حلَّ الشتاء حتى قصفهما الرعد. فجَّ المسافة بين الشجرتين وخلخل الجذور وقصّف الأغصان المتعانقة. ألا تصدق ياعمرو؟ اسأل أهل قريتي إذاً...؟‍!
لابدَّ من الخصام في نهاية الحديث "عمرو.. أنا أكرهك بجنون" لماذا لاتصدقني؟ كلما حدثتك عن شيء تقول لي: خيالك خصب ياحبيبتي..؟!
ماذا تقصد؟!
أغضب وأثور، أتحول إلى طفلة. أريد أن أبكي. أريده أن يضمني ويطفئ ثورتي بينما تظلّ يداي تضربان ظهره وكتفيه، ثم أغمر رأسي في صدره وأشهق.
الرجل الذي يجلس أمامي يحدق بي. نظرته تشبه نظرة عمرو. أرتعش وأنا أنظر إليه. أهرب إلى قهوتي. أنفخ دخان سيجارتي في الهواء. يراقب الدخان الملتوي بصمت. أنظر حولي باحثة عن طاولة فارغة، فلا أجد، كل الطاولات محجوزة. أكرر النظر إلى عينيه: يا إلهي: عيون عمرو نفسها، وعمرو الآن في المحطة يطارد بعينيه النساء الهابطات من الباصات، يطارد كل الوجوه كي يصطادني، لكنه سيفشل، عند ذلك في سيتوه في المدينة. وسيقول عني بأني كاذبة ومعقدة، دائماً أخلف المواعيد.
سأعتذر له. سأخبره بأن باب الباص طار من شدة العاصفة، لن يصدقني، ماذا أفعل؟ هل أشرب البحر حتى يصدقني.؟! ليطق إذا لم يصدق. الرجل الذي قبالتي يثير غضبي. إنه لايتحرك ولا يطلب شيئاً. لايدخن ولا يتكلم. يظل محدقاً بي، يتابعني. أظنه يسمع صوت أسراري وأنا أتحدث إلى عمرو. سيقول: هذه المرأة مجنونة تحدّث رجلاً غائباً. لايهم. الجنون يخلصنا من السجن أحياناً. هذا الرجل يفرض وجوده عليّ. يتأمل بطاقته الشخصية ثم يعيدها إلى جيبه.
سأطلب إليه أن يترك الطاولة. أنا أول من جلس إليها. سأطرده، أو أقول له: معي ضيوف، معي أصدقاء سيأتون من حجرة الهاتف. سأقول...
-أتدخّن؟!
هكذا قلت له بتودد، لكنه لم يردّ، هزَّ رأسه بالنفي. ربما كان أخرس، ربما، لاأعرف. سأحاول ثانية أن أطرده أو أن أكسر السور الذي بيني وبينه. عطره يعجبني، نظرته، أصابعه تشبه أصابع عمرو، ومازال الباص معطلاً. البرد قارس، والصمت قارس. لارغبة بي إلا بالتحدث عن عمرو: ماذا يحبّ؟ ماذا يكره؟! حولت نظري بعيداً وقلت للرجل: تافهة هذه المرأة التي هناك، هناك في الزاوية، إنها تشرب القهوة وتقهقه بصوتٍ عالٍ -صوتها مزعج، أليس كذلك؟! زمَّ الرجل شفتيه وكأني لا أتحدث إليه.
-أتشرب قهوة؟! أيضاً هزَّ رأسه بالنفي. مع ذلك تابعت حواري دون اكتراث.
أنا أشرب قهوة كثيراً مع أن معدتي تؤلمني. عمر قال لي: حبيبتي أرجوك لاتشربي قهوة: أترى؟! إنه ينصحني وهكذا يقول: لكنه يريد أن يتحكم بي. أنا لاأقبل. الأمور المتفاقمة تبدأ بدايات صغيرة ثم تكبر وتصير تلالاً لاتقدر على إزاحتها. لن يجبرني أحد على شيء لا أريده. أحبّ القهوة، وسأظلّ أشرب. أصلاً الحياة الحالية لم تترك لنا إلا شربَ القهوة وتأمل خطوط الحظ في أيدينا. غيرنا يشرب بلداً بكامله. يشرب نظريات مثلاً، أو قل مبادئ!! لم يقل له أحد سيصيبك عسر هضم..
أوّل مرة شربت قهوة صفعني أخي. قال: القهوة للكبار، قلت له: أنا صرت كبيرة. شدني من شعري وربطني إلى الساموك- صرخت أمي "اتركها" لا، لن أتركها. هي فعلاً كبرت ويجب أن أؤدبها، إنها تكتب القصائد لابن رقية"
أمي مسحت على كتفي وقالت المرأة التي تشرب القهوة يصير لها شوارب وأخوك معه حق، ثم مامعنى القصائد؟!!
"معه حق؟! "
أتصدق..؟! أنا لم أكن أحب ابن رقية. كنت فقط بحاجة إلى رجلٍ أكتب له، كتبت له كثيراً حتى ظنّ أني أموت فيه. ولكن لم أكتشف نفسي معه. لم أجدني وهو يقبلني. كنت معه صخرة لاأكثر، لذلك صفعني وقال لي: أنت صخرة. قلت له لأنك لست رجلاً. تركته ومشيت: أتسمعني؟! ظل الرجل الذي أمامي صامتاً، ابتسم ابتسامة بلهاء، ثم عاد إلى وجومه وصمته وظلام وجهه.

"أنت تشبه عمراً" عمرو الذي ينتظرني الآن، أو أن ملَّ ورحل. كل شيء نملّه إلا الحياة. لانشبع منها أبداً. أعتقد أنّ زهير بن سلمى كان يكذب حين قال سئمت. أتعرف؟! صوتك مثل عمرو، انكمشت. لم أسمع صوته. صححتُ خطئي. قلت: أقصد عيونك، لونك الأسمر، قامتك. ابتسم الرجل ثم أشاح بوجهه. شعرت بالحزن. أدركت كم أنا وحيدة في هذه الزحمة والثلج يسقط في الخارج. المحطة تضيق على المسافرين وتكتظ بالدخان من كل الماركات.
الذباب يهرب إلى الداخل من شدة البرد. الروائح المخنوقة تشعرني بالغثيان. أشعلت سيجارة ثم أطفأتها. قلت متحدية صمت هذا الرجل.
عمرو ينتظرني الآن، سيأخذني إلى بيته، المدينة غريبة. لا أعرف فيها أحداً. عمرو رجلٌ طويل، طويل. أحبّ طوله. أشعر أمامه بالضعف.. لكن آخر مرة التقيته تشاجرنا. دائماً نتشاجر حين نتحدث عن الأدب والسياسة. لانتفق أبداً، أنا أقول له إننا نسير إلى الوراء وهو يقول: هذه حتمية الصراع. لابدّ من منتصر ومهزوم. أي انتصار؟! الانتصار نقرؤه ولانعيشه. نتوهمه ولانخلقه أليس كذلك؟!

حدق بي الرجل طويلاً مقطباً حاجبه. أزاح كرسيه بقسوة ثم حمل حقيبته ومضى. إلى أين؟! لم يردّ على سؤالي. يا إلهي: ظهره يشبه ظهر عمرو، قامته، مشيته، إنه هو.. هو. رحت أركض بين المسافرين. ناديته -عمرو. عمرو- لم يرد. قلت للمرأة التي تقف بعيداً: أرجوك: هذا الرجل الذي يمر أمامك أوقفيه. قهقهت المرأة وقالت: أي رجل؟! قلت هذا الذي يرتدي "جاكته" كحلية ويحمل محفظة رمادية.
"أين؟! "
ركضت وراءه. لم أستطع اللحاق به. أعاقتني الكراسي والطاولات والمسافرون. الثلج ينهمر. خرجت إلى الشارع. سياراتٌ تمرُّ... لوحت بيدي: عمرو.. أجل إنه هو، ينعطف، يغيب، يتلاشى، يذوب كقطعة ثلج، فأقف يعتصرني البرد، أقف، أدور حولي، مشدوهة، ووحيدة. أجرجر نفسي إلى داخل المحطة، أنفث هواء ساخناً، أعود إلى طاولتي.
"أين كنت.. طوّلتِ، بردت قهوتك"
نظرت إلى محدثي -أردت أن أسأله: من أنت؟! لكنه قاطعني وقال:
مايزال الباص معطلاً، بالتأكيد سنتأخر. لماذا تدخنين كثيراً وتشربين قهوة كثيراً؟!
لم أردّ.. تابع حديثه: رائع هذا الثلج، يعوضنا عن نقص الأمطار. أظن أن الأراضي مقبلة على جفاف مميت. أوه.. ألا تكفينا الحروب؟!! يقولون.. و. استمر الرجل بالحديث، بينما الثلج يتراكم والشارع يرتدي الندف الأبيض، وأنا لا أسمع شيئاً، وذاكرتي تمضي بعيداً عن المحطة، أدور بحثاً عن عمرو، والرجل يسألني: لماذا لاتريدين؟! ثم ينظر إليَّ بأسىً، يهزّ رأسه ويقول بصوت هامسٍ: للأسف إنها خر..ساء، لكنها جميلة.
  رد مع اقتباس
قديم 07/01/2008   #32
صبيّة و ست الصبايا butterfly
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ butterfly
butterfly is offline
 
نورنا ب:
Jan 2006
المطرح:
قلب الله
مشاركات:
14,333

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : سرسورة عرض المشاركة

سيفاجئني بصمته وأنا أحبّ أن يثرثر. ليحدثني مثلاً عن صباحاته، عن المساءات، عن النساء اللواتي أحببنه، عن التي أحبّها وكانت أجمل امرأة، هكذا كلهم يقولون وعندما يحبون امرأة تكون هذه المرأة أجمل امرأة في المدينة، ماتت به، ثم تركها ليحبنّي، أليس كذلك ياعمرو...؟!
إذن ليحدثني عن غرفته، وسريره وأحلامه، عن ألوان قمصانه، ألوان خيباته. بعد ذلك سنملّ الحديث. سنترك الأحلام في مكانها على الطاولة. في فناجين القهوة، فوق كراسي المقهى، ثم سنهبط دون مراعاة إلى الطابق الأرضي، إلى القبو، إلى العالم .. .
رااااااااااائعة
حبيتا ..
  رد مع اقتباس
قديم 07/01/2008   #33
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : butterfly عرض المشاركة
رااااااااااائعة
حبيتا ..
عرفت انك رح تحبي هادا المقطع.....
  رد مع اقتباس
قديم 18/01/2008   #34
شب و شيخ الشباب BL@CK
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ BL@CK
BL@CK is offline
 
نورنا ب:
Apr 2007
المطرح:
Aleppo-Syria
مشاركات:
4,345

افتراضي


ألم برجوازي


تمنّت لو تقول له: "تعال أنت وأسرتك وعيشوا هنا. بيتي واسع رحب دافئ."‏
لكنها ظلت صامتة. كانت تعلم أنه لن يتقبل الفكرة بل سيعتبر دعوتها ودّاً مصطنعاً وخبثاً.‏
حين اعتذر لها عن تأخره بقوله أنه منهمكاً بتركيب المدفأة في البيت لأن البرد غداً قارساً والأطفال يقاسون، تحاشت أن تشهق استغراباً.‏
لم تكن تدري أن هناك أسراً تعيش في المدينة حتى هذه اللحظة دون مدفأة!‏
منذ شهرين والدفء يرفرف في أرجاء بيتها الواسع.‏
وأحست بوخزة في أعماقها.‏
لا شك في أنّ هناك طبقة تجهل آلام الشعب وهي منها!‏
لم تقل شيئاً بل اندمجت معه في الحديث:‏
-وهل اشتغلت المدفأة؟‏
قال:‏
-طبعاً.. وقد تركت غرفة الجلوس دافئة.. كالنار.. والأطفال يلعبون سعداء.‏
الفرح في لهجته جعلها تحسّ في أعماقها بشيء يشبه تأنيب الضمير.‏
مدفأة صغيرة تسعد أسرة بكاملها. وهي التي لم يخطر في بالها يوماً أن تشكر الحظ بل أن تدرك إنه حظ هذا الذي جعلها تجهل حتى الآن أن هناك أناساً يموتون كل يوم من البرد.‏
وتلفتت حولها.‏
وخيل إليها وكأنها قد ارتكبت جريمة بسكناها في هذا البيت الدافئ. هذا البيت الذي عرفته دافئاً منذ فتحت عينيها للنور.‏
وأرادت أن تغيّر مجرى أفكارها. فتململت في جلستها وسألته في لهجة عادية:‏
-إذن.... أنت لم تنم بعد الظهر؟‏
هز رأسه في حسرة:‏
-أنىّ لي أن أنام؟ بل متى كنت أستطيع أن أنام في البيت خلال النهار؟ الأطفال يزعقون وزوجتي عصبية المزاج تزعق هي الأخرى... والضجيج يملأ البيت..‏
استمرت في الحديث فقط لتهرب من شعورها بالذنب. فقالت:‏
-ادخل غرفة النوم واقفل عليك الباب واسترح ساعة.‏
رمقها معاتباً:‏
-ما بكِ؟ يجب أن تزورينا لتري بيتنا! غرفة النوم متصلة بغرفة الجلوس. وهي لا تحوي سوى سريرين حديدّين ضيقين. أنام أنا وزوجتي على أحدهما والأطفال على الآخر.. فكيف تريدينني أن أدخل الغرفة وأقفل عليهم الباب؟‏
لم تعد تدري ما تقول هي تجهل هذا النوع من العيش.‏
ومع أنها واثقة من أن الذنب ليس ذنبها إلا أن مضايقتها ازدادت. وظلّ هذا الشعور الذي يشبه تأنيب الضمير ينخز أعماقها.‏
لا! ليس ذنبها أنها نشأت في طبقة ميسورة وأنها ورثت عن أهلها مبلغاً من المال وهذا البيت الدافئ.‏
مات أهلها. ورحل من رحل. وظلتّ هي وحيدة في هذه المدينة لأنها تكره الاغتراب ولأنها منذ طفولتها كانت تنادي بالثورة.‏
ومرت سنوات‏
وتعرفت إليه.‏

شاب ريفي ملتزم. من أولئك النادرين الذين لم يعتبروا الثورة يوماً طريقاً لمركز أو وسيلة جميل الطلعة. صافي الملامح. يرى العالم من خلال منظار محدود ولكن نقيّ. يريد أن يبني الوطن من جديد وعلى الشكل الأحسن لكنه لم يدرس طرق البناء، مستعد بجدّ أن يموت من أجل المستقبل الأفضل.‏
وارتاحت لهذا الشاب المؤمن. وأحست بأنها قادرة على أن تقدم إليه صداقة ظلت مكبوتة في نفسها سنوات.‏
وأحبها هو.‏
كانت حلوة طيبة مرهفة. والأهم كانت ربيبة طبقة وابنة مدينة. وكانت هاتان الصفتان تثيران كل وافد جديد ينقم على المدينة. يريد إصلاح المدينة. يسكن المدينة. ويرفض أن يتعرف بأنه لا شعورياً يبحث في المدينة له عن جذور.‏
ونمت بين هذين الإنسانيين المختلفين صداقة متينة.‏
وصار يزورها كل مساء كل مساء، فيجدها كل مساء كل مساء في انتظاره.‏
لم يعترف لها بحبه. فقد علموه أن العواطف تقتل الرجولة وبالتالي تسيء إلى القضيّة... وصدّق.‏
ولم تخبره بارتياحها له. فقد اكتشفت خلال السنوات الفائتة كم أن خبراً كهذا يدع للتبجح وللمتاجرة. وخافت.‏
كل ما هنالك.. كان يعلم أنها تعيش في مدينتها غريبة. وكانت تعلم.... أنه يعلم.

قصة المدفأة أزعجتها. بل أزعجها شعورها بالذنب فنهضت من مكانها قائلة:‏
-سأهيئ له فنجاناً من الشاي.‏
وشعرت وهي تمشي في القاعات الكبيرة متجهة صوب المطبخ بحاجة لأن تقول له:‏
"بيتي كبير دافئ. ليتكم –أنت وزوجك والأطفال –تقيمون معي. أنا وحدي ووحيدة.‏
وأنا أكره الوحدة. أخاف الوحدة".‏
لكنها ظلت صامتة.‏
هل يستطيع هذا الصديق أن يقدر ما هي الوحدة؟‏
هل يستطيع أن يصدّق أن هناك صقيعاً نفسياً ذابحاً يجعل الإنسان يتخلى عن كل شيء ويبيع الدنيا بهمسة ودّ؟‏
لا! عليه أولاً أن يحصل على كل شيء.... ثم يصاب بأمراض الوحدة والملل والفراغ... لذا راحت وهي تقدم له الشاي تحدثه عن أمور عادية. عن بلاده غريبة بلاد باردة بيضاء زارتها في طفولتها.....‏
ومرّ الوقت.‏
ونظر إلى ساعته وابتسم قائلاً:‏
-الوقت معك يمضي بسرعة.‏
ونهض. فرافقته حتى الباب.‏
ودّعها. وخرج.‏

ظلت واقفة تنظر إليه حتى غاب عن عينيها.‏
دارت في بطء على نفسها ودخلت على مهل.‏
وبدا لها بيتها الواسع الدافئ موحشاً مخيفاً.‏
وراحت تدور في الغرف الرحبة، تبحث عبثاً في كل زاوية عن همسة ودّ.‏
وحين وصلت إلى غرفة نومها الأنيقة المبطّنة بالستائر المخملية والسجاد. وقفت على العتبة.‏
وسرت قشعريرة باردة في جسدها.‏
منظر سريرها العريض المغطى بالرياض والفرو أخافها. لقد بدا واسعاً مُوحشاً كالصحراء.‏
وبسرعة دارت لا شعورياً وعادت إلى حيث كانا جالسين. ووقفت محنية الظهر تحاول استحضار طيف الصديق الذي ذهب منذ لحظات.‏
وخيل إليها أنها تراه.‏
هاهو يصل إلى بيته الصغير البارد. إنه يدخل على رؤوس أصابعه. ويتمهل في غرفة الجلوس أمام المدفأة المطفأة. إنه يتحسسها بيديه وهاهو يبتسم وقد يشعر بآثار نيران رقص حولها الأطفال.‏
إنه يتأكد من أنها مطفأة، ثم يتجه إلى غرفة النوم الخالية من الستائر ومن السجاد ومن مدفأة.‏
الجميع نيام.‏
يقترب من الأطفال. يغلفهم بنظرات حنانه. ثم يحمل الغطاء الوحيد الذي تدحرج إلى الأرض ويضعه عليهم في سكون.‏
وأخيراً هاهو يخلع ثيابه على عجل وينزلق مسرعاً، وهو يرتجف من البرد، تحت اللحاف الرقيق إلى جانب زوجه في السرير الحديدي الضيق... الضيق...‏
وأحست بنفسها فجأة وحيدة.. وحيدة كالحيوان المريض فحضنت ذراعيها بيديها، ورفعت كتفيها كما لتُغرق بينها رأسها المتعب. وتكوّمت خائفة مرتجفة في زاوية الديوان المريح...‏
وبصورة غريزية فاضت عيناها بالدمع..‏

كولييت الخوري
  رد مع اقتباس
قديم 20/01/2008   #35
صبيّة و ست الصبايا butterfly
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ butterfly
butterfly is offline
 
نورنا ب:
Jan 2006
المطرح:
قلب الله
مشاركات:
14,333

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : BL@CK عرض المشاركة
ألم برجوازي


كولييت الخوري
قريانتا بموضوع " قصص كوليت خوري "
جبلنا شي جديد ولو

  رد مع اقتباس
قديم 20/01/2008   #36
شب و شيخ الشباب BL@CK
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ BL@CK
BL@CK is offline
 
نورنا ب:
Apr 2007
المطرح:
Aleppo-Syria
مشاركات:
4,345

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : butterfly عرض المشاركة
قريانتا بموضوع " قصص كوليت خوري "
جبلنا شي جديد ولو

هوي ما أنا اول مرة بقراها معناها جديدة , شو بيهم لو أنتي قاريتيا أو لأ ..

و اللهي عال ..
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد


أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 14:04 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.40383 seconds with 12 queries